وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً نزلت كما أخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إلى قوله تعالى: وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ.
وإِحْساناً قيل: مفعول ثان لوصينا على تضمينه معنى ألزمنا، وقيل: منصوب على المصدر على تضمين وَصَّيْنَا معنى أحسنا أي أحسنا بالوصية للإنسان بوالديه إحسانا، وقيل: صفة لمصدر محذوف بتقدير مضاف أي إيصاء ذا إحسان، وقيل: مفعول له أي وصيناه بهما لإحساننا إليهما، وقال ابن عطية: إنه منصوب على المصدر الصريح وبِوالِدَيْهِ متعلق بوصينا، أو به وكأنه عنى يحسن إحسانا وهو حسن، لكن تعقب أبو حيان تجويزه تعلق الجار بإحسانا بأنه لا يصح لأنه مصدر مقدر بحرف مصدري والفعل فلا يتقدم معموله عليه ولأن أحسن لا يتعدى بالباء وإنما يتعدى باللام تقول: أحسنت لزيد ولا تقول: أحسنت بزيد على معنى أن الإحسان يصل إليه، وفيه أنا لا نسلم أن المقدر بشيء يشارك ما قدر به في جميع الأحكام لجواز أن يكون بعض أحكامه مختصا بصريح لفظه مع أن الظرف يكفيه رائحة الفعل ولذا يعمل الاسم الجامد فيه باعتبار لمح المعنى المصدري، وقال قالوا: إنه يتصرف فيه ما لا يتصرف في غيره لاحتياج معظم الأشياء إليه.
والجار والمجرور محمول عليه، وقد كثر ما ظاهره التعلق بالمصدر المتأخر نكرة كلا تأخذكم بهما رأفة.
ومعرفة نحو فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ [الصافات: ١٠٢] وتأويل كل ذلك تكلف، وأيضا قوله: لأن أحسن لا يتعدى
بالباء إلخ فيه منع ظاهر، وقدر بعضهم الفعل قبل الجار فقال: وصينا الإنسان بأن يحسن بوالديه إحسانا، ولعل التنوين للتفخيم أي إحسانا عظيما، والإيصاء والوصية التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ من قولهم: أرض واصية متصلة النبات، ففي الآية إشعار بأن الإحسان بهما أمر معتنى به، وقد عد في الحديث ثاني أفضل الأعمال وهو الصلاة لأول وقتها، وعد عقوقهما ثاني أكبر الكبائر وهو الإشراك بالله عز وجل، والأحاديث في الترغيب في الأول والترهيب عن الثاني كثيرة جدا، وفي الآيات ما فيه كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد.
وقرأ الجمهور «حسنا» بضم الحاء وإسكان السين أي فعلا ذا حسن أو كأنه في ذاته نفس الحسن لفرط حسنه، وجوز أبو حيان فيه أن يكون بمعنى إِحْساناً فالأقوال السابقة تجري فيه.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. والسلمي.
وعيسى «حسنا» بفتح الحاء والسين
، وعن عيسى «حسنا» بضمهما.
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً أي ذات كره أو حملا ذا كره وهو المشقة كما قال مجاهد والحسن وقتادة، وليس الكره في أول علوقها بل بعد ذلك حين تجد له ثقلا. وقرأ شيبة وأبو جعفر والحرميان «كرها» بفتح الكاف وهما لغتان بمعنى واحد كالفقر والفقر والضعف والضعف، وقيل: المضموم اسم والمفتوح مصدر.
وقال الراغب: قيل الكره أي بالفتح المشقة التي تنال الإنسان من خارج مما يحمل عليه بإكراه والكره ما يناله من ذاته وهو ما يعافه من حيث الطبع أو من حيث العقل أو الشرع. وطعن أبو حاتم في هذه القراءة فقال: لا تحسن هذه القراءة لأن الكره بالفتح الغصب والغلبة. وأنت تعلم أنها في السبعة المتواترة فلا معنى للطعن فيها، وقد كان هذا الرجل يطعن في بعض القراءات بما لا علم له به جسارة منه عفا الله تعالى عنه وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ أي مدة حمله وفصاله، وبتقدير هذا المضاف يصح حمل قوله تعالى: ثَلاثُونَ شَهْراً على المبتدأ من غير كره.
والفصال الفطام وهو مصدر فاصل فكأن الولد فاصل أمه وأمه فاصلته. وقرأ أبو رجاء والحسن وقتادة ويعقوب والجحدري «وفصله» أي فطمه فالفصل والفصال كالفطم والفطام بناء ومعنى وقيل: الفصال بمعنى وقت الفصل أي الفطم فهو معطوف على مدة الحمل، والمراد بالفصال الرضاع التام المنتهي بالفطام ولذلك عبر بالفصال عنه أو عن وقته دون الرضاع المطلق فإنه لا يفيد ذلك، وفي الوصف تطويل، والآية بيان لما تكابده الأم وتقاسيه في تربية الولد مبالغة في التوصية لها، ولذا اعتنى الشارع ببرها فوق الاعتناء ببر الأب،
فقد روي «أن رجلا قال: يا رسول الله من أبر؟
قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أباك»
وقد أشير في الآية إلى ما يقتضي البر بها على الخصوص في ثلاث مراتب فتكون الأوامر في الخبر كالمأخوذة من ذلك. واستدل بها علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وجماعة من العلماء على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لما أنه إذا حط عن الثلاثين للفصال حولان لقوله تعالى: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة: ٢٣٣] يبقى للحمل ذلك وبه قال الأطباء، قال جالينوس: كنت شديد الفحص عن مقدار زمن الحمل فرأيت امرأة ولدت لمائة وأربع وثمانين ليلة.
وادعى ابن سينا أنه شاهد ذلك.
وأما أكثر مدة الحمل فليس في القرآن العظيم ما يدل عليه وقال ابن سينا في الشفاء: بلغني من جهة من أثق به كل الثقة أن امرأة وضعت بعد الرابع من سني الحمل ولدا نبتت أسنانه، وحكي عن أرسطو أنه قال: أزمنة الحمل لكل حيوان مضبوطة سوى الإنسان فربما وضعت المرأة لسبعة أشهر وربما وضعت لثمانية وقلما يعيش الولد في الثامن إلا في بلاد معينة مثل مصر، ولعل تخصيص أقل الحمل وأكثر الرضاع بالبيان في القرآن الكريم بطريق الصراحة والدلالة دون أكثر الحمل وأقل الرضاع وأوسطهما لانضباطهما بعدم النقص والزيادة بخلاف ما ذكر، وتحقق ارتباط حكم النسب
بأقل مدة الحمل حتى لو وضعته فيما دونه لم يثبت نسبه منه وبعده يثبت وتبرأ من الزنا، ولو أرضعت مرضعة بعد حولين لم يثبت به أحكام الرضاع في التناكح وغيره وفي هذا خلاف لا يعبأ به حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ غاية لمقدر أي فعاش أو استمرت حياته حتى إذا اكتهل واستحكم قوته وعقله وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً الظاهر أنه غير بلوغ الأشد، وقال بعضهم: إنه بلوغ الأشد والعطف للتأكيد.
وقد ذكر غير واحد أن الإنسان إذا بلغ هذا القدر يتقوى جدا خلقه الذي هو عليه فلا يكاد يزايله بعد،
وفي الحديث «إن الشيطان يجر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب ويقول بأبي وجه لا يفلح»
وأخرج أبو الفتح الأزدي من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا «من أتى عليه الأربعون سنة فلم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار»
وعلى ذلك قول الشاعر:
إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن | له دون ما يهوى حياء ولا ستر |
فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى | وإن جر أسباب الحياة له العمر |
وذهب ابن العربي في آخرين إلى أنه يجوز على الله سبحانه بعث الصبي إلا أنه لم يقع وتأولوا آيتي عيسى ويحيى قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريم: ٣٠]. وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم: ١٢] بأنهما اخبار عما سيحصل لهما لا عما حصل بالفعل، ومثله كثير في الآيات وغيرها، والواقع عند هؤلاء البعث بعد البلوغ. وحكى اللقاني عن بعض اشتراطه فيه ويترجح عندي اشتراطه فيه دون أصل النبوة لما أن النفوس في الأغلب تأنف عن اتباع الصغير وإن كبر فضلا كالرقيق والأنثى، وصرح جمع بأن الأعم الأغلب كون البعثة على رأس الأربعين كما وقع لنبينا صلّى الله عليه وسلّم قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أي رغبني ووفقني من أوزعته بكذا أي جعلته مولعا به راغبا في تحصيله. وقرأ البزي «أوزعني» بفتح الياء أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ أي نعمة الدين أو ما يعمها وغيرها، وذلك يؤيد ما روي أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لأنه لم يكن أحد أسلم هو وأبواه من المهاجرين والأنصار سواه كذا قيل، وإسلام أبيه بعد الفتح وحينئذ يلزم أن تكون الآية مدنية وإليه ذهب بعضهم، وقيل: إن هذا الدعاء بالنسبة إلى أبويه دعاء بتوفيقهما للإيمان وهو كما ترى. واعترض على التعليل بابن عمر. وأسامة بن زيد.
وغيرهما، ونقل عن الواحدي أنه قد صحب النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن ثمان عشرة سنة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابن عشرين سنة في سفر للشام في التجارة فنزل تحت شجرة سمرة وقال له الراهب: إنه لم يستظل بها أحد بعد عيسى غيره صلّى الله عليه وسلّم فوقع في قلبه تصديقه فلم يكن يفارقه في سفر ولا حضر فلما نبىء وهو ابن أربعين آمن به وهو ابن ثمانية وثلاثين فلما بلغ الأربعين قال: رَبِّ أَوْزِعْنِي إلخ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ التنوين للتفخيم والتكثير، والمراد بكونه مرضيا له تعالى مع أن الرضا على ما عليه جمهور أهل الحق الإرادة مع ترك الاعتراض وكل عمل صالح كذلك أن يكون سالما من غوائل عدم القبول كالرياء والعجب وغيرهما، فحاصله اجعل عملي على وفق رضاك: وقيل المراد بالرضا هنا ثمرته على طريق الكناية وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي أي اجعل الصلاح ساريا في ذريتي راسخا فيهم كما في قوله:
فإن تعتذر في المحل من ذي ضروعها | لدى المحل يجرح في عراقيبها نصلي |
ما جاءنا أحد يخبر أنه | في جنة لما مضى أو نار |
وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ أي يقولان: الغياث بالله تعالى منك، والمراد إنكار قوله واستعظامه كأنهما لجآ إلى الله سبحانه في دفعه كما يقال: العياذ بالله تعالى من كذا أو يطلبان من الله عزّ وجلّ أن يغيثه بالتوفيق حتى يرجع عما هو عليه من إنكار البعث وَيْلَكَ آمِنْ أي قائلين أو يقولون له ذلك، وأصل «ويل» دعاء بالثبور يقام مقام الحث على الفعل أو تركه إشعارا بأن ما هو متركب له حقيق بأن يهلك مرتكبه وأن يطلب له الهلاك فإذا أسمع ذلك كان باعثا على ترك ما هو فيه والأخذ بما ينجيه، وقيل: إن ذلك لأن فيه إشعارا بأن الفعل الذي أمر به مما يحسد عليه فيدعى عليه بالثبور فإذا سمع ذلك رغب فيه، وأيا ما كان فالمراد هنا الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الدعاء بالهلاك إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي البعث، وأضاف الوعد إليه تعالى تحقيقا للحق وتنبها على خطئه في إسناد الوعد إليهما. وقرأ الأعرج. وعمرو بن فائد «أن» بفتح الهمزة على تقدير لأن أو آمن بأن وعد الله حق، ورجح الأول بأن فيه توافق القراءتين فَيَقُولُ مكذبا لهما ما هذا الذي تسميانه وعد الله تعالى إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أباطيلهم التي سطروها في الكتب من غير أن يكون لها حقيقة أُولئِكَ القائلون ذلك، وقيل: أي صنف هذا المذكور بناء على زعم خصوص الَّذِي وليس بشيء.
الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ وهو قوله تعالى لإبليس: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:
٨٥] وقد مر تمام الكلام في ذلك. ورد بهذا على من زعم أن الآية في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أسلم وجب عنه ما قبل وكان من أفاضل الصحابة، ومن حق عليه القول هو من علم الله تعالى أنه لا يسلم أبدا. وقيل:
الحكم هنا على الجنس فلا ينافي خروج البعض من أحكامه الأخروية، وقيل غير ذلك مما لا يلتفت إليه.
فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ في مقابلة فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ فهو مثله إعرابا ومبالغة ومعنى، وقوله تعالى مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ بيان للأمم إِنَّهُمْ جميعا كانُوا خاسِرِينَ قد ضيعوا فطرتهم الأصلية الجارية مجرى رؤوس أموالهم باتباع الشيطان، والجملة تعليل للحكم بطريق الاستئناف. وقرأ العباس عن أبي عمرو «أنهم» بفتح الهمزة على تقدير لأنهم. واستدل بقوله عزّ وجلّ: فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ إلخ على أن الجن يموتون قرنا بعد قرن كالأنس. وفي البحر قال الحسن في بعض مجالسه: الجن لا يموتون فاعترضه قتادة بهذه الآية فسكت وَلِكُلٍّ من صفحة رقم 178
الفريقين المذكورين في قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ وفي قوله سبحانه: «أولئك الذين حق عليهم القول» وإن شئت فقل في الذين قالوا ربنا الله والذي قال لوالديه أف دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أي من جزاء ما عملوا، فالكلام بتقدير مضاف، والجار والمجرور صفة دَرَجاتٌ و (من) بيانية أو ابتدائية و (ما) موصولة أي من الذي عملوه من الخير والشر أو مصدرية أي من عملهم الخير والشر، ويجوز أن تكون (من) تعليلية بدون تقدير مضاف والجار والمجرور كما تقدم. والدرجات جمع درجة وهي نحو المنزلة لكن يقال للمنزلة درجة إذا اعتبرت بالصعود ودركا إذا اعتبرت بالحدور، ولهذا قيل: درجات الجنة ودركات النار.
والتعبير بالدرجات كما قال غير واحد على وجه التغليب لاشتمال (كل) على الفريقين أي لكل منازل ومراتب سواء كانت درجات أو دركات، وإنما غلب أصحاب الدرجات لأنهم الأحقاء به لا سيما، وقد ذكر جزاؤهم مرارا وجزاء المقابل مرة وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ أي جزاء أعمالهم والفاعل ضميره تعالى. وقرأ الأعمش والأعرج وشيبة وأبو جعفر والأخوان وابن ذكوان ونافع بخلاف عنه «لنوفيهم» بنون العظمة، وقرأ السلمي بتاء فوقية على الإسناد للدرجات مجازا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص ثواب وزيادة عقاب، وقد مر الكلام في مثله غير مرة. والجملة حال مؤكدة للتوفية أو استئناف مقرر لها، واللام متعلقة بمحذوف مؤخر كأنه قيل: وليوفيهم أعمالهم ولا يظلمهم فعل ما فعل من تقدير الأجزية على مقادير أعمالهم فجعل الثواب درجات والعقاب دركات.
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أي يعذبون بها من قولهم: عرض بنو فلان على السيف إذا قتلوا به وهو مجاز شائع، وذهب غير واحد إلى أنه من باب القلب المعنوي والمعنى يوم تعرض النار على الذين كفروا نحو عرض الناقة على الحوض فإن معناه أيضا كما قالوا: عرض الحوض على الناقة لأن المعروض عليه يجب أن يكون له إدراك ليميل به إلى المعروض أو يرغب عنه لكن لما كان المناسب هو أن يؤتى بالمعروض عند المعروض عليه ويحرك نحوه وهاهنا الأمر بالعكس لأن الحوض لم يؤت به وكذا النار قلب الكلام رعاية لهذا الاعتبار، وفي الانتصاف إن كان قولهم: عرضت الناقة على الحوض مقلوبا فليس قوله تعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ كذلك لأن الملجئ ثم إلى اعتقاد القلب أن الحوض جماد لا إدراك له والناقة هي المدركة فهي التي يعرض عليها الخوض حقيقة، وأما النار فقد وردت النصوص بأنها حينئذ مدركة إدراك الحيوانات بل إدراك أولي العلم فالأمر في الآية على ظاهره كقولك عرضت الأسرى على الأمير، وربما يقال: لا مانع من تنزيلها منزلة المدركة إن لم تكن حينئذ مدركة وكذا تنزيل الحوض منزلته حتى كأنه يستعرض الناقة كما قال أبو العلاء المعري:
إذا اشتاقت الخيل المناهل أعرضت | عن الماء فاشتاقت إليها المناهل |
المقتضي له المعنى المقصود من العرض في المثال وهو الميل إلى المعروض، ومن لم ينظر إلى هذا المعنى ونظر إلى أن المعرض يتحرك إلى المعروض عليه قال إنه الأصل، ومن لم ينظر إلى الاعتبارين وقال العرض إظهار شيء لشيء قال إن كلّا من القولين على الأصل، وهو كما قال العلامة السالكوتي الحق لأن كلا الاعتبارين خارج عن مفهوم العرض فاحفظه فإنه نفيس.
والظرف منصوب بقول محذوف مقوله قوله تعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ إلى آخره أي فيقال لهم يوم يعرضون أذهبتم لذاتكم فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا باستيفائها وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فلم يبق لكم بعد شيء منها، وهو عطف تفسير لأذهبتم، وقرأ قتادة ومجاهد وابن وثاب وأبو جعفر والحسن والأعرج وابن كثير «آذهبتم» بهمزة بعدها مدة مطولة، وابن عامر بهمزتين حققهما ابن ذكوان ولين الثانية ابن هشام. وابن كثير في رواية، وعن هشام الفصل بين المحققة والملينة بألف، والاستفهام على معنى التوبيخ فهو خبر في المعنى ولو كان استفهاما محضا لم تدخل الفاء في قوله سبحانه:
فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أي الهوان وكذلك قرىء بِما كُنْتُمْ في الدنيا تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ بغير استحقاق لذلك، وقد مر بيان سر فِي الْأَرْضِ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ أي تخرجون من طاعة الله عزّ وجلّ أي بسبب استكباركم وفسقكم المستمرين، وفي البحر أريد بالاستكبار الترفع عن الإيمان وبالفسق معاصي الجوارح وقدم ذنب القلب على ذنب الجوارح إذ أعمال الجوارح ناشئة عن مراد القلب، وقرىء «تفسقون» بكسر السين وهذه الآية محرضة على التقلل من الدنيا وترك التنعم فيها والأخذ بالتقشف، أخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر أن عمر رضي الله تعالى عنه رأى في يد جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه درهما فقال ما هذا الدرهم؟ قال: أريد أن أشتري به لأهلي لحما قرموا إليه فقال أكلما اشتهيتم شيئا اشتريتموه أين تذهب عنكم هذه الآية أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها.
وأخرج ابن المبارك وابن سعد وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وأبو نعيم في الحلية عن الحسن قال قدم وفد أهل البصرة على عمر رضي الله تعالى عنه مع أبي موسى الأشعري فكان له في كل يوم خبز يلت فربما وافقناه مأدوما بزيت وربما وافقناه مأدوما بسمن وربما وافقناه مأدوما بلبن وربما وافقنا القدائد اليابسة قد دقت ثم أغلي عليها وربما وافقنا اللحم الغريض- أي الطري- وهو قليل قال وقال لنا عمر رضي الله تعالى عنه: إني والله ما أجهل عن كراكر والأسنمة وعن صلاء وصناب وسلائق ولكن وجدت الله تعالى عير قوما بأمر فعلوه فقال عزّ وجلّ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها، والكراكر جمع كركرة بالكسرة زور البعير الذي إذا برك أصاب الأرض وهو من أطيب ما يؤكل منه والأسنمة جمع سنام معروف. والصلاء بالكسر والمد الشواء، والصناب ككتاب صباغ يتخذ من الخردل والزبيب، والسلائق جمع سليقة كسفينة ما سلق من البقول وغيرها ويروى بالصاد الخبز الرقاق واحدتها صليقة كسفينة أيضا، وقيل: هي الحملان المشوية، وقيل: اللحم المشوي المنضج وأنشدوا لجرير:
يكلفني معيشة آل زيد | ومن لي بالصلائق والصناب |
قلادة من عصب وسوارين من عاج فإن هؤلاء أهل بيتي ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا»
والمسح بكسر فسكون ثوب من شعر غليظ، والقلبين تثنية قلب بضم فسكون السوار، والعصب بفتح فسكون قال الخطابي إن لم يكن الثياب اليمانية فما أدري ما هو وما أدري أن القلائد تكون منها، ويحتمل أن الرواية بفتح الصاد وهو اطناب مفاصل الحيوان فلعلهم كانوا يتخذون من طاهره مثل الخرز.
قال ثم ذكر بعض أهل اليمن أن العصب سن دابة بحرية تسمى فرس فرعون يتخذ منها الخرز البيض وغيرها، وأحاديث الزهد في طيبات الحياة الدنيا كثيرة وحال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك معروفة بين الأمة. وفي البحر بعد حكاية حال عمر رضي الله تعالى عنه على نحو مما ذكرنا، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: وهذا من باب الزهد وإلا فالآية نزلت في كفار قريش، والمعنى أنه كانت لكم طيبات الآخرة لو آمنتم لكنكم لم تؤمنوا فاستعجلتم طيباتكم في الحياة الدنيا. فهذه كناية عن عدم الإيمان ولذلك ترتب عليه فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ ولو أريد الظاهر ولم يكن كناية عما ذكرنا لم يترتب عليه الجزاء بالعذاب، هذا ولما كان أهل مكة مستغرقين في لذات الدنيا معرضين عن الإيمان وما جاء به الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلّم ناسب تذكيرهم بما جرى للعرب الأولى ممن كانوا أكثر أموالا وأشد قوة وأعظم جاها منهم فسلط عليهم العذاب بسبب كفرهم وبضرب الأمثال وقصص من تقدم يعرف قبح الشيء وحسنه فقال سبحانه لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: وَاذْكُرْ لكفار مكة أَخا عادٍ هودا عليه السلام إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بدل اشتمال منه أي وقت إنذاره إياهم بِالْأَحْقافِ جمع حقف رمل مستطيل فيه اعوجاج وانحناء ويقال احقوقف الشيء اعوج وكانوا بدويين أصحاب خباء وعمد يسكنون بين رمال مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشجر من بلاد اليمن قاله ابن زيد، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بين عمان ومهرة، وفي رواية أخرى عنه الأحقاف جبل بالشام، وقال ابن إسحق: مساكنهم من عمان إلى حضرموت وقال ابن عطية الصحيح أن بلاد عاد كانت باليمن ولهم كانت إرم ذات العماد وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ارم وبيان الحق فيها.
وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ أي الرسل كما هو المشهور، وقيل من يعمهم والنواب عنهم جمع نذير بمعنى منذر. وجوز كون النُّذُرُ جمع نذير بمعنى الأنذار فيكون مصدرا وجمع لأنه يختلف باختلاف المنذر به. وتعقب بأن جمعه على خلاف القياس ولا حاجة تدعو إليه مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أي من قبله عليه السلام وَمِنْ خَلْفِهِ أي من بعده وقرىء به ولولا ذلك لجاز العكس، والظاهر أن المراد النذر المتقدمون عليه والمتأخرون عنه. وعن ابن عباس يعني الرسل الذين بعثوا قبله والذين بعثوا في زمانه، فمعنى مِنْ خَلْفِهِ من بعد إنذاره، وعطف مِنْ خَلْفِهِ أي من بعده على ما قبله إما من باب علفتها تبنا وماء باردا وفيه أقوال فقيل عامل الثاني مقدر أي وسقيتها ماء ويقال في الآية أي خلت النذر من بين يديه وتأتي من خلفه وقيل إنه مشاكلة، وقيل: إنه من قبيل الاستعارة بالكناية، وإما لادخال الآتي في سلك الماضي قطعا بالوقوع وفيه شائبة الجمع بين الحقيقة والمجاز، وجوز أن يقال: المضي باعتبار الثبوت في علم الله تعالى أي وقد خلت النذر في علم الله تعالى يعني ثبت في علمه سبحانه خلو الماضين منهم والآتين، والجملة إما حال من فاعل أَنْذَرَ أي إذ أنذر معلما إياهم بخلو النذر أو مفعوله أي وهم عالمون بإعلامه إياهم، وهو قريب من أسلوب قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً [البقرة: ٢٨] الآية، ويجوز أن يكون المعنى أنذرهم على فترة من الرسل، وهي حال أيضا على تفسير ابن عباس، وعلم القوم يجوز أن يكون من إعلامه ومن مشاهدتهم أحوال من كانوا في زمانه وسماعهم أحوال من قبله، وإما اعتراض بين المفسر أعني أَنْذَرَ قَوْمَهُ وبين المفسر أعني قوله تعالى:
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ فإن النهي عن الشيء إنذار عن مضرته كأنه قيل: واذكر زمان إنذار هود قومه بما أنذر به الرسل قبله
وبعده وهو أن لا تعبدوا إلا الله تنبيها على أنه إنذار ثابت قديما وحديثا اتفقت عليه الرسل عليهم السلام عن آخرهم فهو يؤكد قوله تعالى: وَاذْكُرْ ويؤكد قوله سبحانه: أَنْذَرَ قَوْمَهُ ولذلك توسط، وهو أيضا مقصود بالذكر بخلاف ما إذا جعل حالا فإنه حينئذ قيد تابع، وهذا الوجه أولى مما قبله على ما قرره في الكشف، وجوز بعضهم العطف على أَنْذَرَ أي وأعلمهم بذلك وهو كما ترى، وجعلت (أن) مفسرة لتقدم معنى القول دون حروفه وهو الإنذار والمفسر معموله المقدر، وجوز كونها مصدرية وكونها مخففة من الثقيلة فقبلها حرف جر مقدر متعلق بأنذر أي أنذرهم بأن لا تعبدوا إلا الله.
إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ صفة يَوْمٍ وعظمه مجاز عن كونه مهولا لأنه لازم له، وكون اليوم مهولا باعتبار هول ما فيه من العذاب فالإسناد فيه مجازي، ولا حاجة إلى جعله صفة للعذاب والجر للجوار والجملة استئناف تعليل للنهي، ويفهم إني أخاف عليكم ذلك بسبب شرككم قالُوا أَجِئْتَنا استفهام توبيخي لِتَأْفِكَنا أي لتصرفنا- كما قال الضحاك- من الإفك بمعنى الصرف، وقيل: أي لتنزيلنا بالإفك وهو الكذب عَنْ آلِهَتِنا أي عن عبادتها فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من معاجلة العذاب على الشرك في الدنيا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في وعدك بنزوله بنا قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ أي بوقت نزوله أو العلم بجميع الأشياء التي من جملتها ذلك عِنْدَ اللَّهِ وحده لا علم لي بوقت نزوله، والكلام كناية عن أنه لا يقدر عليه ولا على تعجيله لأنه لو قدر عليه وأراده كان له علم به في الجملة فنفي علمه به المدلول عليه بالحصر نفي لمدخليته فيه حتى يطلب تعجيله من الله عزّ وجلّ ويدعو به.
وبهذا التقرير علم مطابقة جوابه عليه السلام لقولهم: (ائتنا) فيأتيكم به في وقته المقدر له وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ من مواجب الرسالة التي من جملتها بيان نزول العذاب إذ لم تنتهوا عن الشرك، وقرأ أبو عمرو «أبلغكم» من الإبلاغ.
وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ شأنكم الجهل ومن آثار ذلك أنكم تقترحون على ما ليس من وظائف الرسل من الإتيان بالعذاب، والفاء في قوله تعالى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً فصيحة أي فأتاهم فلما رأوه، وضمير النصب قيل راجع إلى (ما) في بِما تَعِدُنا وكون المرئي هو الموعود باعتبار المآل والسببية له وإلا فليس هو المرئي حقيقة، وجوز الزمخشري أن يكون مبهما يفسره عارِضاً وهو إما تمييز وإما حال، ثم قال: وهذا الوجه أعرب أي أبين واظهر لما أشرنا إليه في الوجه الأول من الخفاء وأفصح لما فيه من البيان بعد الإبهام والإيضاح غب التعمية.
وتعقبه أبو حيان بأن المبهم الذي يفسره ويوضحه التمييز لا يكون إلا في باب رب نحو ربه رجلا لقيته وفي باب نعم وبئس على مذهب البصريين نحو نعم رجلا زيد وبئس غلاما عمرو، وأما أن الحال توضح المبهم وتفسره فلا نعلم أحدا ذهب إليه، وقد حصر النحاة المضمر الذي يفسره ما بعده فلم يذكروا فيه مفعول رأى إذا كان ضميرا ولا إن الحال يفسر الضمير ويوضحه، وأنت تعلم جلالة جار الله وإمامته في العربية، والعارض السحاب الذي يعرض في أفق السماء، ومنه قول الشاعر:
يا من رأى عارضا أرقت له | بين ذراعي وجبهة الأسد |
يا من رأى عارضا قد بت أرمقه | كأنما البرق في حافاته الشعل |
وأندية وجائز للخشبة الممتدة في أعلى السقف وأجوزة والإضافة لفظية كما في قوله تعالى: قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا ولذلك وقعا صفتين للنكرة وأطلق عليها الزمخشري مجازية ووجه التجوز أن هذه الإضافة للتوسع والتخفيف حيث لم تفد فائدة زائدة على ما كان قبل فكما أن إجراء الظرف مجرى المفعول به مجاز كذلك إجراء المفعول أو الفاعل مجرى المضاف إليه في الاختصاص ولم يرد أنها من باب الإضافة لأدنى ملابسة.
بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ أي من العذاب والكلام على إضمار القول قبله أي قال هود بل هو إلخ لأن الخطاب بينه وبينهم فيما سبق ويؤيده أنه قرىء كذلك وقدره بعضهم قل بل هو إلخ للقراءة به أيضا والاحتياج إلى ذلك لأنه إضراب ولا يصلح أن يكون من مقول من قال هذا عارض ممطرنا وقدر البغوي قال الله بل هو إلخ وينفك النظم الجليل عليه كما لا يخفى. وقرىء «بل ما استعجلتم» أي بل هو، وقرأ قوم «ما استعجلتم» بضم التاء وكسر الجيم رِيحٌ بدل من مَا أو من هُوَ أو خبر لمبتدأ محذوف أي هي أو هو ريح فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ صفة رِيحٌ لكونه جملة بعد نكرة وكذا قوله تعالى تُدَمِّرُ أي تهلك كُلَّ شَيْءٍ من نفوسهم وأموالهم أو مما أمرت بتدميره بِأَمْرِ رَبِّها ويجوز أن يكون مستأنفا، وقرأ زيد بن علي «تدمر» بفتح التاء وسكون الدال وضم الميم، وقرىء كذلك أيضا إلا أنه بالياء ورفع كلّ على أنه فاعل «يدمر» وهو من دمر دمارا أي هلك، والجملة صفة أيضا والعائد محذوف أي بها أو الضمير من رَبِّها ويجوز أن يكون استئنافا كما في قراءة الجمهور وأراد البيان أن لكل ممكن وقتا مقيضا منوطا بأمر بارئه لا يتقدم ولا يتأخر ويكون الضمير من رَبِّها لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء وفي ذكر الأمر والرب والإضافة إلى الريح من الدلالة على عظمة شأنه عزّ وجلّ ما لا يخفى والفاء في قوله تعالى: فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ فصيحة أي فجأتهم الريح فدمرتهم فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم وجعلها بعضهم فاء التعقيب على القول بإضمار القول مسندا إليه تعالى وادعى أنه ليس هناك قول حقيقة بل هو عبارة عن سرعة استئصالهم وحصول دمارهم من غير ريث وهو كما ترى، وقرأ الجمهور «لا ترى» بتاء الخطاب «إلّا مساكنهم» بالنصب، والخطاب لكل أحد تتأتى منه الرؤية تنبيها على أن حالهم بحيث لو حضر كل أحد بلادهم لا يرى إلا مساكنهم أو لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ أبو رجاء ومالك بن دينار بخلاف عنهما والجحدري والأعمش وابن أبي إسحق والسلمي «لا ترى» بالتاء من فوق مضمومة إِلَّا مَساكِنُهُمْ بالرفع وجمهور النحاة على أنه لا يجوز التأنيث مع الفصل بإلا إلا في الشعر كقول ذي الرمة:
كأنه جمل هم وما بقيت | إلا النحيزة والألواح والعصب |
برى النحز والاجرال ما في غروضها | وما بقيت إلا الضلوع الجراشع |
الرمل وطرحتهم في البحر فهو قوله تعالى: فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ.
وروي أن أول من أبصر العذاب امرأة منهم رأت ريحا فيها كشهب النار،
وروي أن هودا عليه السلام لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطا إلى جنب عين تنبع
، وعن ابن عباس أنه عليه السلام اعتزل ومن معه في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما يلين به الجلود وتلذه الأنفس، وأنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة، وكانت كما أخرج ابن أبي شيبة. وابن جرير عن عمرو بن ميمون تجيء بالرجل الغائب، ومر في سورة الأعراف مما يتعلق بهم ما مر فارجع إليهم إن أردته، ولما أصابهم من الريح ما أصابهم كان صلّى الله عليه وسلّم يدعو إذا عصفت الريح.
أخرج مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وعبد بن حميد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا عصفت الريح قال: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به فإذا أخيلت السماء تغير لونه صلّى الله عليه وسلّم وخرج ودخل وأقبل وأدبر فإذا مطرت سري عنه فسألته فقال عليه الصلاة والسلام: لا أدري لعله كما قال قوم عاد هذا عارض ممطرنا»
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ أي قررنا عادا وأقدرناهم، و (ما) في قوله تعالى: فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ موصولة أو موصولة وإِنْ نافية أي في الذي أو في شيء ما مكناكم فيه من السعة والبسطة وطول الأعمار وسائر مبادي التصرفات كما في قوله تعالى: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ [الأنعام: ٦] ولم يكن النفي بلفظ «ما» كراهة لتكرير اللفظ وإن اختلف المعنى، ولذا قال من ذهب إلى أن أصل مهما ما ما على أن ما الشرطية مكررة للتأكيد قلبت الألف الأولى هاء فرارا من كراهة التكرار، وعابوا على المتنبي قوله:
لعمرك ما ما بأن منك لضارب | بأقتل مما بان منك لعائب |
يرجّي المرء ما أن لا يراه | وتعرض دون أدناه الخطوب |
وجوز أن تكون تبعيضية أي ما أغنى بعض الإغناء وهو القليل، و (ما) في فَما أَغْنى نافية وجوز كونها استفهامية. وتعقبه أبو حيان بأنه يلزم عليه زيادة مِنْ في الواجب وهو لا يجوز على الصحيح. ورد بأنهم قالوا: تزاد في غير الموجب وفسروه بالنفي والنهي والاستفهام، وإفراد السمع في النظم الجليل وجمع غيره لاتحاد المدرك به وهو الأصوات وتعدد مدركات غيره أو لأنه في الأصل مصدر، وأيضا مسموعهم من الرسل متحد. صفحة رقم 184