آيات من القرآن الكريم

يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ
ﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮ

الزبانية يدفعون في النار على وجوههم دفعا قويا جدا، ويساقون إليها سوقا عنيفا، ويلقون في وسط النار ليذوقوا عذابها الشديد.
ومنها: أنه يقال للأثيم الفاجر توبيخا وتقريعا وتهكما واستهزاء: ذق هذا العذاب فإنك كنت تزعم أنك المتعزز المتكرم، والمراد: إنك أنت الذليل المهان.
ومنها: أن ملائكة العذاب زبانية جهنم تقول للكفار: إن هذا العذاب هو ما كنتم تشكون فيه في الدنيا، كما قال تعالى: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ [التكاثر ١٠٢/ ٥- ٧].
ما يلقاه المتقون من ألوان النعيم في الجنان
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٥١ الى ٥٩]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥)
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩)
الإعراب:
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
بدل من مَقامٍ.
يَلْبَسُونَ خبر ثان ل إِنَّ أو حال من الضمير في الجارّ، أو استئناف.
مُتَقابِلِينَ حال من واو يَلْبَسُونَ.
كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ الكاف: إما في موضع الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف، تقديره:

صفحة رقم 238

الأمر كذلك، أو في موضع النصب على أنها وصف لمصدر محذوف، تقديره: يفعل بالمتقين فعلا كذلك.
يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ يَدْعُونَ: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الهاء والميم في زَوَّجْناهُمْ والباء: ليست للتعدية، لأن يَدْعُونَ متعد بنفسه، وإنما هي للحال، تقديره: متلبسين بكل فاكهة، بمنزلة الباء في قولهم: خرج زيد بسلاحه، أي متلبسا بسلاحه.
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى استثناء منقطع، أي لكن قد ذاقوا الموتة الأولى في الدنيا، والبصريون يقدرون «إلا» في الاستثناء المنقطع ب «لكن» والكوفيون يقدرونه ب «سوى».
فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ فَضْلًا: إما منصوب على المصدر المؤكد، وتقديره: ويفضل عليهم فضلا، أو منصوب بفعل مقدر، وتقديره: أعطاهم فضلا.
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ الهاء تعود على الكتاب، وقد تقدم ذكره في أول السورة في قوله تعالى:
حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ.
المفردات اللغوية:
فِي مَقامٍ مجلس أو مكان، والمقام والمقام بمعنى واحد أَمِينٍ يؤمن فيه من كل خوف وهمّ وحزن نَّاتٍ
بساتين عُيُونٍ
ينابيع جارية سُندُسٍ ما رقّ من الديباج أو الحرير إِسْتَبْرَقٍ ما غلظ منه وهما معرّبان مُتَقابِلِينَ في مجالسهم ليستأنس بعضهم ببعض، فلا ينظر بعضهم إلى قفا بعض لدوران الأسرّة بهم.
كَذلِكَ أي الأمر كذلك، أو آتيناهم مثل ذلك وَزَوَّجْناهُمْ قرناهم بِحُورٍ عِينٍ بنساء بيض حسان واسعات الأعين يَدْعُونَ يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه وغيرها لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ أي في الآخرة، بل يحيون فيها دائما إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى الاستثناء منقطع أو متصل، والمراد به المبالغة في تعميم النفي وامتناع الموت، فكأنه قال: لا يذوقون فيها الموت إلا إذا أمكن ذوق الموتة الأولى في المستقبل وَوَقاهُمْ حماهم وحفظهم، وقرئ:
«ووقيهم».
فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ أي أعطوا كل ذلك عطاء وتفضلا منه ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لأنه خلاص عن المكاره وفوز بالمطالب يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ سهلنا القرآن حيث أنزلناه بلغتك، لتفهمه العرب منك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لعلهم يفهمونه فيتعظون به، فيؤمنون بك فَارْتَقِبْ انتظر هلاكهم إذا لم يتذكروا ولم يؤمنوا إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ منتظرون هلاكك وما يحل بك.

صفحة رقم 239

المناسبة:
بعد وعيد الكفار الأشقياء وبيان ما يتعرضون له من أهوال الآخرة، ذكر تعالى وعده للمتقين الأبرار السعداء وما أعده لهم من جنات النعيم ذات المآكل والمشارب والملابس والزوجات الفائقة، وأنه نعيم أبدي. ثم أتبعه بختام للسورة يناسب مطلعها وهو الامتنان على العرب بنزول القرآن بلغتهم لّيعملوا بأحكامه، فإن كذّبوا انتقم اللَّه منهم.
التفسير والبيان:
ذكر اللَّه تعالى في هذه الآيات خمسة أنواع لنعيم الجنان لبيان وعد الأبرار، وهي:
١- إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أي إن المتقين لله في الدنيا باتقاء الشرك والمعاصي وامتثال الفرائض، لهم مساكن آمنة من جميع المخاوف، طيبة المكان والنزهة، فهي في بساتين غناء وينابيع متدفقة بالماء، كما قال تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ، يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ، خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ، وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ، عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ [المطففين ٨٣/ ٢٢- ٢٨].
وهذا في مقابلة ما للكفار من شجرة الزقوم وشرب الحميم.
٢- ٣: يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ أي ملابسهم من الحرير الرقيق والغليظ، ذي البريق واللمعان والجمال الأخّاذ، وجلوسهم على صفة التقابل بقصد الاستئناس ونظر بعضهم لبعض، كقوله تعالى: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ [الصافات: ٣٧/ ٤٣- ٤٤].

صفحة رقم 240

٤- كَذلِكَ، وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أي هذا العطاء، مع تزويجهم أو قرنهم بالزوجات الحسان الحور البيض الواسعات الأعين، اللاتي لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن ٥٥/ ٥٦، ٥٨]. أكثر المفسرين على أنه لا عقود زواج بالحور، وأن المراد: قرناهم بهم.
٥- يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ أي يطلبون في الجنة ما شاؤوا من أنواع الثمار أو الفاكهة، وهم آمنون من انقطاعها وامتناعها، بل يحضر إليهم كلما أرادوا، وآمنون من الأوجاع والأسقام، ومن الموت والتعب والشيطان.
وهذا دليل على أنه اجتمعت لهم أنواع اللذة والشهوة المادية والمعنوية، بهذه الأنواع الخمسة من النعيم في المسكن والملبس والمأكل والزواج والأنس والأمان، وتلك أعلى أصناف الخيرات والراحات.
ثم بيّن اللَّه تعالى أن حياتهم دائمة، فقال:
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى، وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ أي لا يموتون في الآخرة أبدا، ولا يذوقون طعم الموت بعدئذ، لكن الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا قد ذاقوها وانتهى أمرها، وحماهم اللَّه من عذاب النار، ونجاهم منه، وزحزحهم عن العذاب الأليم في دركات الجحيم. قال الزمخشري: هذا من باب التعليق بالمحال، كأنه قيل: إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل، فإنهم يذوقونها. وقيل: الاستثناء منقطع، أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها.
ثبت في الصحيحين أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «يؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت».
وأخرج مسلم وعبد الرزاق عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي اللَّه عنهما قالا: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يقال لأهل

صفحة رقم 241

الجنة: إن لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا، وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا».
وأخرج أبو بكر بن أبي داود السّجستاني عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من اتقى اللَّه دخل الجنة ينعم فيها، ولا يبأس، ويحيا فيها، فلا يموت، ولا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه».
وأخرج أبو القاسم الطبراني وأبو بكر بن مردويه عن جابر رضي اللَّه عنه قال: «سئل نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أينام أهل الجنة؟ فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا ينامون».
فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي تفضل اللَّه عليهم وأعطاهم ذلك عطاء فضلا منه وإحسانا إليهم، أو لأجل إسباغ الفضل منه، ذلك هو الفوز الأكبر الذي لا يعلوه فوز.
ثبت في الصحيح عند مسلم عن جابر عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: «اعملوا وسددوا وقاربوا، واعلموا أن أحدا لن يدخله عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ فقال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني اللَّه برحمة منه وفضل».
وبعد أن بيّن اللَّه تعالى دلائل قدرته، وأوضح الوعد والوعيد، ووصف القرآن في أول السورة بكونه كتابا مبينا (أي كثير البيان والفائدة) ذكر تعالى في خاتمة السورة ما يؤكد ذلك، فقال:
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي إنما يسرنا هذا القرآن وأنزلناه سهلا واضحا بينا جليا بلسانك الذي هو أفصح اللغات وأجلاها، والذي هو لسانهم ولغتهم، وجعلناه ميسرا للفهم، كي يفهمه قومك يا محمد، فيتذكروا ويعتبروا ويعملوا بما فيه، والمعنى: إن ذلك الكتاب المبين الكثير الفائدة إنما

صفحة رقم 242

أنزلناه عربيا بلغتك ليتذكروا ويتعظوا، كما قال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر ٥٤/ ٢٢].
وبالرغم من هذا الوضوح والبيان، كفر بعضهم وعاند وخالف، فسلّى اللَّه رسوله ووعده بالنصر، وتوعد من كذبه بالهلاك، فقال:
فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ أي انتظر أيها النبي ما وعدناك من النصر عليهم وإهلاكهم وما يحل بهم إن استمروا على الكفر، فإنهم منتظرون ما يحل وما ينزل بك من موت أو غيره، وسيعلمون لمن يكون النصر والظفر وعلو الكلمة في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة ٥٨/ ٢١] وقال سبحانه: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ، وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر ٤٠/ ٥١- ٥٢].
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- يفيض اللَّه على عباده المتقين الأبرار في الجنة أنواع النعم الحسية والمعنوية، ذكر منها هنا خمسة أنواع تشمل المساكن، والملابس، والتقابل في الجلسات واستئناس البعض بالبعض، والأزواج، والمآكل الدائمة. قال مجاهد:
إنما سميت الحور حورا لأنهن يحار الطرف في حسنهنّ وبياضهن وصفاء لونهنّ.
وهل الحور العين أفضل أو نساء الآدميات؟ اختلفوا في ذلك، فقال حبّان بن أبي جبلة- فيما ذكره ابن المبارك-: إن نساء الآدميات من دخل منهن الجنة فضّلن على الحور العين بما عملن في الدنيا. وروى ابن المبارك مرفوعا: إن «الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف».

صفحة رقم 243

وقال آخرون: إن الحور العين أفضل،
لقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في دعائه فيما رواه مسلم عن عوف بن مالك: «وأبدله أهلا خيرا من أهله».
وأما مهورهن
فروى أبو هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «مهور الحور العين قبضات التمر، وفلق الخبز»
وعن أبي قرصافة: سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «إخراج القمامة من المسجد مهور الحور العين»
وذكر الثعلبي عن أنس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «كنس المساجد مهور الحور العين».
٢- إن تلك النعم في الجنان لها صفة الدوام والاستمرار، دون أن يطرأ عليها انقطاع، ولا ينشأ عنها أذى أو مكروه.
٣- أهل الجنة وأهل النار في خلود دائم، فكل منهم خالد إما في النعيم وإما في العذاب الأليم، ولا يطرأ عليهم موت، لكن الموتة الأولى في الدنيا قد ذاقوها.
قال المحققون: إن الجنة حقيقتها ابتهاج النفس، وفرحها بمعرفة اللَّه وبمحبته، فالإنسان الكامل هو في الدنيا في الجنة، وفي الآخرة أيضا في الجنة، فقد صح أنه لم يذق في الجنة إلا الموتة الأولى.
واكتفى اللَّه تعالى هنا ببشارة أهل الجنة بالخلود مع أن أهل النار يشاركونهم فيه، للدلالة على أن دوام الحياة مقرون مع ما ذكر سابقا من حصول الخيرات والسعادات.
٤- أكرم اللَّه المتقين بألوان النعيم، وحفظهم من عذاب الجحيم، تفضلا منه عليهم، وتلك هي السعادة، والربح العظيم، والنجاة العظيمة، والفوز الأكبر الذي لا مثيل له على الإطلاق. ودل قوله: ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ على أن التفضيل أعلى درجة من الثواب المستحق، لوصفه بأنه فضل من اللَّه، وكونه فوزا عظيما، أي إن المنحة الإلهية أفضل من الأجر والأجرة.

صفحة رقم 244

٥- إنما أنزل اللَّه القرآن الكريم بلغة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ولغة قومه العرب، وسهله عليهم وعلى كل من يقرؤه ولو من غير العرب، ليتعظوا وينزجروا. وهذا في ختام السورة حث على اتباع القرآن، ودليل على أنه تعالى أراد من كل الناس الإيمان والمعرفة، وأنه ما أراد من أحد الكفر.
٦- هدد اللَّه تعالى المخالفين المكذبين للقرآن ورسول اللَّه بالهلاك والدمار، ووعد نبيه بالنصر عليهم، وسلاه عن مكابدته المشاق معهم، وأمره بانتظار ما وعده به من النصر عليهم، فإنهم منتظرون له الموت والهلاك.

صفحة رقم 245

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الجاثية
مكيّة، وهي سبع وثلاثون آية.
تسميتها:
سميت (سورة الجاثية) أخذا من الآية المذكورة فيها: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً، كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [٢٨] أي كل أمة باركة على الرّكب لشدة الأهوال التي يشاهدها الناس يوم القيامة، انتظارا للحساب، قبل قسمة الخلائق فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجهين:
١- ابتدأت هذه السورة بالكلام عن تنزيل القرآن من اللَّه تعالى، والذي هو مكمّل لما ختمت به السورة المتقدمة من جعل القرآن بلغة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ولغة قومه العرب، فهو عربي اللسان نصا وفحوى، ومعنى وأسلوبا، وفي ذلك حث على اتباعه والإيمان به.
٢- تشابه السورتين في الغايات الكبرى التي يستهدفها القرآن: وهي إثبات وحدانية اللَّه من خلال بيان أدلة القدرة الإلهية في خلق السموات والأرض، ومناقشة المشركين في عقائدهم الفاسدة، وضرب الأمثال من مصائر الأمم الغابرة التي أهلكها اللَّه لتكذيبهم الرسل.

صفحة رقم 246

ما اشتملت عليه السورة:
موضوع هذه السورة كسائر موضوعات السور المكية، وبخاصة آل حم السور السبعة، وهو تأصيل عقيدة الإسلام الأساسية وإثبات عناصرها وأركانها الثلاثة:
وهي الإيمان بالله تعالى وتوحيده، والاعتقاد بنزول القرآن من عند اللَّه، وبنبوة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم ورسالته، والتصديق باليوم الآخر والحساب والبعث والجزاء.
ابتدأت السورة ببيان مصدر القرآن الكريم وهو اللَّه تعالى، وإثبات وجود الخالق ووحدانيته بخلق السموات والأرض، وخلق البشر والدواب، وتعاقب الليل والنهار، وإنزال المطر سبب الحياة، وتسخير الرياح.
ثم هددت وأوعدت كل من كذّب بآيات اللَّه، واستكبر عنها، واتخذها هزوا بعذاب جهنم.
وأخبرت عن نعم اللَّه العظمى وأولها كون القرآن هدى للناس، ثم تسخير البحر لجريان السفن فيه والاتجار بين الأقطار، وتسخير جميع ما في الكون لعباد اللَّه تعالى.
وأردفت ذلك بمبادئ خلقية واجتماعية إنسانية سلمية هي عفو المؤمنين وترفعهم عن زلات الكافرين، فالعمل الصالح أو الفاسد يعود أثره على صاحبه، وتذكير بني إسرائيل بما امتن اللَّه عليهم من نعم روحية ومادية هي التوراة، والحكمة والفقه وفصل الخصومات بين الناس، والنبوة، ورزق الطيبات، والتفضيل على العالمين في عصرهم، والإتيان بالبينات وهي الآيات والمعجزات، وأمر الرسول بعدم إطاعة المشركين واتباع أهوائهم، والتعجب من حالهم، وتجرؤهم على إنكار البعث، واتخاذهم الهوى إلها ومعبودا.
وفي مقابل ذلك بيان استقلال الشريعة الإسلامية وإثبات ذاتيتها، وأمر الرسول والمؤمنين باتباعها وحدها دون ما عداها، والاعتزاز والثقة بالله الذي يمدّ

صفحة رقم 247

نبيه بالعون وأنه ولي المتقين، والتزام منهج اللَّه وهدايته ورحمته وهو القرآن العظيم، ومعرفة قانون اللَّه وعدله وحكمته في التفرقة بين المؤمنين الأبرار والمجرمين الأشرار، وبين المتبصرين بآيات اللَّه، ومن أغلق على نفسه منافذ الهداية، فحجب السمع والبصر والقلب عن نور اللَّه.
ثم رد اللَّه تعالى على المشركين منكري البعث بأن اللَّه هو المحيي والمميت وجامع الناس ليوم القيامة، فهو صاحب القدرة العجيبة ومالك السموات والأرض، والمتفرد بالسلطان الأعظم في الآخرة ذات الأهوال الرهيبة في العرض والحساب وشهادة صحف الأعمال على أصحابها.
وختمت السورة ببيان الجزاء الحق العادل، وقسمة الناس فريقين: فريق الجنة الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وفريق النار الذين كفروا بالله ورسوله، واقترفوا السيئات والمعاصي، وهزئوا بآيات اللَّه، واغتروا بالحياة الدنيا.
وذلك كله يستوجب الحمد لله رب السموات ورب الأرض رب العالمين، وله وحده الكبرياء في السموات والأرض، وهو العزيز الحكيم.
سبب نزولها:
ذكر المهدوي والنحاس عن ابن عباس: أنها نزلت في عمر رضي اللَّه عنه، شتمه رجل من المشركين بمكة قبل الهجرة فأراد أن يبطش به، فأنزل اللَّه عز وجل: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [١٤] ثم نسخت بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة ٩/ ٥]. فالسورة كلها مكية على هذا من غير خلاف. وهي سبع وثلاثون آية.

صفحة رقم 248
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية