هذه: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وإنه يعلّمه شخص غير عربي على ما حكته آية سورة النحل هذه:
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣).
وقد علقنا على ذلك بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورة الفرقان. أما كلمة مجنون فقد تكررت حكاية صدورها من الكفار مرارا عن النبي ﷺ ومرّ من ذلك أمثلة عديدة في سور القلم والأعراف وسبأ والقمر والصافات والتكوير. وعلقنا عليها بما فيه الكفاية وبخاصة في سورة القمر.
وعلى كل حال ففي التعبيرين دلالة على ما كان يظنه الكفار في النبي ﷺ وعلى بواعث جحودهم وتصاممهم عن دعوته، ولذلك جاءت الآيات بالأسلوب التنديدي والإنذاري الذي جاءت به.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١٧ الى ٣٣]
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١)
فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦)
وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١)
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣)
. (١) فتنّا: ابتلينا وامتحنّا.
(٢) أدوا إليّ: تعالوا إليّ وأقبلوا على دعوتي.
(٣) فاعتزلوني: ابتعدوا من طريقي أو دعوني وشأني.
(٤) رهوا: ساكنا أو جافا أو على هيئته التي عبر عليها.
(٥) نعمة: حياة منعمة أو ناعمة.
(٦) اخترناهم على علم: اخترناهم عن بصيرة وعلم بأحوالهم، وقد قال الزمخشري: «واخترناهم على علم بأنهم قد ينحرفون لأجل امتحانهم واختبارهم».
(٧) ما فيه بلاء مبين: ما فيه بلاء واختبار شديدان.
في الآيات إشارة إلى ما كان من رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون وقومه وعاقبتهم وعبارتها واضحة. وقد جاءت على أثر حكاية موقف الكفار والتنديد بهم وإنذارهم جريا على الأسلوب القرآني. واحتوت ما احتوته بأسلوب الإشارة والإجمال المتسق مع ما ورد في القصة مسهبا في المناسبات السابقة. وهذا أيضا من أساليب القصص القرآني حسب ما اقتضته حكمة التنزيل واستهدفت- كما يستلهم من أسلوبها القوي النافذ ومن مضمونها- إنذار الكفار وتطمين النبي ﷺ والمؤمنين. فقد أهلك الله فرعون وقومه، وكانوا أشد منهم قوة ولم يمهلهم ولم تبك عليهم سماء ولا أرض وسلبهم ما كان لهم من زروع وجنات وعيون وما كانوا يتمتعون به من حياة ناعمة مترفة. وأورث ذلك لغيرهم ونجّى بني إسرائيل مما كانوا يقاسونه من عذاب فرعون الشديد المسرف المستكبر ثم جعلهم خير العالمين عن علم بأحوالهم اختبارا وامتحانا لهم. وما جاء في الآيات عن رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون متسق مع ما جاء متصلا في السور السابقة. وليس فيها جديد إلّا أمر الله لموسى أن يترك البحر رهوا ليدخله فرعون وقومه على أثرهم. وهذا ليس واردا في سفر الخروج ولكن نعتقد أنه مما كان يرويه اليهود نقلا عن قراطيس كانت في أيديهم مثل سائر النقاط التي وردت في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة من قصص موسى وفرعون. ويلحظ أن الآيات هنا لم تذكر بني إسرائيل كورثة لفرعون وقومه مع أن ذلك ذكر في سورتي الشعراء والأعراف. ومع ذلك فالعبارة كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) لا تنقض ذلك كما هو المتبادر. والعبرة في الآيات هي
تقرير كون الله قادرا على أن يفعل بكفار العرب ما فعله بفرعون وقومه الذين كانوا أقوى وأعظم منهم وأن يلطف بالمؤمنين فيجعلهم ورثة لهم يرثون ما هم فيه من أسباب الغنى والحياة الناعمة ووسائلها ويختارهم على العالمين بدورهم مثل ما كان من لطفه ببني إسرائيل.
تعليق على آية وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢)
وجمهور المفسرين على أن الْعالَمِينَ (٣٢) في جملة وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) تعني أهل زمانهم ولا تعني أهل الأرض في كل زمن «١».
وهذا هو المعقول، لأن الله جعل العرب الذين آمنوا برسالة النبي ﷺ أو كل من آمن برسالة النبي ﷺ إطلاقا خير أمة أخرجت للناس كما جاء في الآية [١١٠] من سورة آل عمران: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ وهذه الآية تعلل هذه الخيرية بالإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقياسا على ذلك فإن خيرية بني إسرائيل إنما كانت على أهل زمانهم بسبب استجابتهم لدعوة موسى عليه السلام وإيمانهم بالله وحده والتزامهم شرائعه. ولا يتسق مع روح التلقين القرآني ولا مع حكمة الله أن يدوم حكم الخيرية لهم حينما انحرفوا عن عبادة الله إلى عبادة العجل والبعل وانحرفوا عن شرائع الله واقترفوا الفواحش والموبقات وحرفوا كتب الله وكلامه عن مواضعه وافتروا على الله الكذب ونسبوا إليه ما ليس منه في حياة موسى وبعده على ما سجلته عليهم أسفار عديدة من أسفار العهد القديم «٢» وآيات كثيرة
(٢) النصوص كثيرة ومبثوثة في معظم أسفار العهد القديم بحيث يستطيع من يشاء أن يعثر عليها بسهولة وسعة. وسواء منها ما نسب إلى موسى عليه السلام وهي أسفار الخروج والعدد والتثنية واللاويين أو الأحبار أم الأسفار التي دونت بعد موسى عليه السلام كيوشع والقضاة والملوك وأخبار الأيام وأشعيا وأرميا وحزقيال ودانيال وهوشع ويوئيل وعاموس وعوبيديا وميخا وحبقوق وصنفيا وملاخي.
من القرآن الكريم «١» وعلى ما نبهنا عليه في سياق تفسير الآية [١٣٧] من سورة الأعراف.
تعليق على جملة فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ
ومع أن المتبادر أن جملة فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ هي من قبيل المجاز والتمثيل والمبالغة في التبكيت والتهكم عليهم وتهوين شأنهم عند الله رغم ما كانوا عليه من قوة وترف وهو ما قاله الزمخشري في الكشاف فإن المفسرين أوردوا أحاديث تبدو لنا غريبة لأنها في صدد بيان كون بكاء السماء والأرض حقيقة وكونهما تبكيان على المؤمنين حين موتهم. من ذلك «٢» حديث رواه أنس بن مالك عن النبي ﷺ جاء فيه: «ما من عبد إلّا وله في السماء بابان باب يخرج منه رزقه وباب يدخل منه عمله وكلامه فإذا مات فقداه وبكيا عليه وتلا الآية: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ ذكر أنهم لم يكونوا عملوا على الأرض عملا صالحا يبكي عليهم ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي عليهم». ومن ذلك حديث عن ابن عبيد الحصري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ. ألا لا غربة على مؤمن. ما مات مؤمن في غربة غابت عنه بواكيه إلّا بكت عليه السماء والأرض، ثم
(٢) هذه الأحاديث منقولة عن كتاب تفسير ابن كثير في سياق تفسير الآية، انظر أيضا تفسير الطبري والبغوي والخازن والطبرسي.
قرأ: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ ثمّ قال إنهما لا تبكيان على الكافر». ومن ذلك حديث عن عباد بن عبد الله أن رجلا سأل عليّ بن أبي طالب: هل تبكي السماء والأرض على أحد؟ فقال: «إنه ليس من عبد إلا له مصلّى في الأرض ومصعد عمله من السماء وإن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض ولا عمل يصعد إلى السماء ثم قرأ: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) ». ومن ذلك حديث روي عن سعيد بن جبير قال: سأل رجل ابن عباس: هل تبكي السماء والأرض على أحد؟ فقال: «نعم، إنه ليس أحد من الخلائق إلّا وله باب في السماء ينزل منه رزقه فإن فقده بكى عليه وإذا فقده مصلّاه من الأرض التي كان يصلّي فيها ويذكر الله عز وجل فيها بكت عليه وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الأرض آثار صالحة ولم يكن يصعد إلى الله عزّ وجلّ منهم خير فلم تبك عليهم السماء والأرض». وحديث آخر عن ابن عباس أيضا جوابا على سؤال جاء فيه: «أتعجب، وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود، وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دويّ كدويّ النحل».
وحديث عن مجاهد جاء فيه: «ما مات مؤمن إلّا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحا». ومن ذلك حديث عن إبراهيم: «ما بكت السماء منذ كانت الدنيا إلّا على رجلين: يحيى بن زكريا والحسين بن علي حين قتلا»، فسأله السائل: أليس السماء والأرض تبكيان على المؤمن؟ فقال: «ذاك مقامه حين يصعد عمله. ثم قال له:
أتدري ما بكاء السماء؟ قال: لا، قال: تحمرّ وتصير وردة كالدّهان». ومن ذلك حديث عن يزيد بن أبي زياد قال: «لما قتل الحسين بن علي احمرّت آفاق السماء أربعة أشهر واحمرارها بكاؤها». وذكروا أيضا- وهذه عبارة ابن كثير- في مقتل الحسين: «إنّه ما قلب حجر يومئذ إلّا وجد تحته دم عبيط وإن الشمس كسفت والأفق احمرّ وسقطت حجارة».
ولم يرد من هذه الأحاديث في كتب الأحاديث الصحيحة المشهورة إلّا حديث واحد رواه الترمذي عن أنس عن النبي ﷺ قال: «ما من مؤمن إلّا وله بابان