
قريشاً حين كذبوه يعني: صلّى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كسِنِّي يُوسُف- عَلَيْهِ السَّلام-» فأصابهم سنة، وشدة الجوع، حتى أكلوا الكلاب، والجيف والعظام، حتى كان يرى أحدهم كأن بينه وبين السماء دخاناً.
فذلك قوله: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يعني: انتظر بهلاكهم يوم تأتى السماء بدخان مبين يَغْشَى النَّاسَ يعني: أهل مكة هذا عَذابٌ أَلِيمٌ يعني: يقولون: هذا الجوع عذاب أليم ثم إن أبا سفيان وعتبة بن ربيعة والعاص بن وائل وأصحابهم قالوا: يا رسول الله استسق الله لنا، فقد أصابنا شدة.
قوله تعالى: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ يعني: الجوع إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى يعني: من أين لهم التوبة والعظة والتذكرة وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ بلغتهم ومفقه لهم ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ يعني: أعرضوا عما جاء به، فلم يصدقوه ومع ذلك وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ يعلمه جبر ويسار أسماء الرجلين غلامي الخضر إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ إلى المعصية، فعادوا فانتقم منهم يوم بدر، فذلك قوله: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى يعني:
نعاقب العقوبة العظمى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ منهم بكفرهم ويقال: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى يعني: يوم القيامة. ويقال: آية الدخان لم تمض، وستكون في آخر الزمان.
وروى إسرائيل عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي- رضي الله عنه- قال: لم تمض آية الدخان يأخذ المؤمن كهيئة الزكام، وينتفخ الكافر حتى يصير كهيئة الجمل. وروى ابن أبي مليكة، عن ابن عباس قال: «أخْبِرْتُ أنَّ الكَوْكَب ذَا الذَّنب قد طَلَعَ، فَخَشِيتُ أنْ يَكونَ الدُّخَانَ قَد طَرق» ويقال: هذا كله يوم القيامة، إذا خرجوا من قبورهم، تأتي السماء بدخان مبين، محيط بالخلائق فيقول الكافرون: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ أي: ردنا إلى الدنيا إِنَّا مُؤْمِنُونَ يقول الله تعالى: من أين لهم الرجعة، وقد جاءهم رسول مبين فلم يجيبوه.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١٧ الى ٢٩]
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لاَّ تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١)
فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦)
وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩)

قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ يعني: ابتلينا قبل قومك قوم فرعون.
وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ على ربه، وهو موسى- عليه السلام-. ويقال: رسول كريم. أي:
شريف أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ يعني: أرسلوا معي بني إسرائيل، واتبعوني على ديني إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ قد جئتكم من عند الله تعالى. ويقال: كريم لأنه كان يتجاوز عنهم، ويقال أمين فيكم قبل الوحي، فكيف تتهموني اليوم. ويقال كريم حيث يتجاوز عنهم، حين دعا موسى، ورفع عنهم الجراد، والقمل، والضفادع والدم إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فيما بينكم وبين ربكم.
قوله تعالى: وَأَنْ لاَّ تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ يعني: لا تخالفوا أمر الله تعالى. ويقال: لا تستكبروا عن الإيمان، ولا تعلوا بالفساد، لأن فرعون لعنه الله، كان عاليا من المسرفين إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ يعني: آتيكم بحجة بينة اليد والعصى، وغير ذلك. وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ يعني: أعوذ بالله أَنْ تَرْجُمُونِ يعني: أن تقتلون. ومعناه: أسأل الله تعالى، أن يحفظني لكي لا تقتلوني. قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي عُذْتُ بإدغام الذال في التاء، لقرب مخرجيهما، والباقون بغير إدغام، لتبيين الحرف.
ثم قال: وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ يعني: إن لم تصدقوني فاتركوني. قوله تعالى:
فَدَعا رَبَّهُ يعني: دعا موسى ربه، كما ذكر في سورة يونس رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ [يونس: ٨٨] وقوله: وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) [يونس: ٨٦] أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ
يعني: مشركون فأبوا أن يطيعوني فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا فأوحى الله تعالى إليه، أن أدلج ببني إسرائيل إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ يعني: إنَّ فرعون يتبع أثركم، فخرج موسى ببني إسرائيل، وضرب بعصاه البحر، فصار طريقاً يابسا.
وهذا كقوله: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً [طه: ٧٧] فلما جاوز موسى مع بني إسرائيل البحر، فأراد موسى أن يضرب بعصاه البحر، ليعود إلى الحالة الأولى، فأوحى الله تعالى إليه بقوله وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً قال قتادة: يعني: طريقاً يابساً واسعاً. وقال الضحاك:
رَهْواً يعني: سهلاً. وقال مجاهد: يعني: منفرجاً. وقال القتبي: يعني: طريقاً سالكاً. كما هو. ويقال: رهواً أي: سككاً جدداً، طريقاً يابساً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ وذلك، أن بني إسرائيل خشوا أن يدركهم فرعون، فقالوا لموسى: اجعل البحر كما كان، فإننا نخشى أن يلحق بنا.
قال الله تعالى: إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ يعني: سيغرقون، فدخل فرعون وقومه البحر، فأغرقهم الله تعالى، وبقيت قصورهم وبساتينهم قوله تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يعني: بساتين وأنهاراً جارية وَزُرُوعٍ يعني: الحروق وَمَقامٍ كَرِيمٍ يعني: مساكن ومنازل حسن. كذلك يعني: هكذا أخرجناهم من النعم وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ يعني: معجبين.