آيات من القرآن الكريم

۞ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ
ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ

يقول تعالى ولقد اختبرنا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون وهم قبط مصر، ﴿ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ﴾ يعني موسى الكليم ﷺ ﴿ أَنْ أدوا إِلَيَّ عِبَادَ الله ﴾، كقوله عزّ وجل :﴿ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ ﴾ [ طه : ٤٧ ] الآية، وقوله جلّ وعلا :﴿ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴾ أي مأمون على ما أبلغكموه، وقوله تعالى :﴿ وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى الله ﴾ أي لا تستكبروا عن ابتاع آياته والانقياد لحججه والإيمان ببرهنيه، كقوله عزّ وجلّ :﴿ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [ غافر : ٦٠ ]، ﴿ إني آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾ أي بحجة ظاهرة واضحة وهي ما أرسله الله تعالى به من الآيات البينات والأدلة القاطعات، ﴿ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ ﴾ قال ابن عباس : هو الرجم باللسان وهو الشتم، وقال قتادة : الرجم بالحجارة أي أعوذ بالله الذي خلقني وخلقكم من أن تصلوا إلي بسوء من قولٍ أو فعل، ﴿ وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فاعتزلون ﴾ أي فلا تتعرضوا لي ودعوا الأمر مسالمة إلى أن يقضي الله بيننا، فلما طال مقامه ﷺ بين أظهرهم، وأقام حجج الله تعالى عليهم، كل ذلك وما زادهم إلاّ كفراً وعناداً، دعا ربه عليهم عدوة نفذت فيهم، كما قال تبارك وتعالى :﴿ وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فاستقيما ﴾ [ يونس : ٨٨-٨٩ ]، وهكذا قال ههنا ﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هؤلاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ ﴾ فعند ذلك أمره الله تعالى أن يخرج ببني إسرائيل من بين أظهرهم، من غير أمر فرعون ومشاورته واستئذانه، ولهذا قال جلّ جلاله :﴿ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ ﴾، كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى ﴾ [ طه : ٧٧ ]، وقوله عزّ وجلّ :﴿ واترك البحر رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ ﴾، وذلك أن موسى عليه الصلاة السلام لما جاوز هو وبنو إسرائيل البحر أراد موسى أن يضربه بعصاه حتى يعود كما كان ليصير حائلاً بينهم وبين فرعون، فلا يصل إليهم، فأمره الله تعالى أن يتركه على حاله ساكناً، وبشره بأنهم جند مغرقون فيه، وأنه لا يخاف دركاً ولا يخشى، قال ابن عباس :﴿ واترك البحر رَهْواً ﴾ كهيئته وامضه، وقال مجاهد ﴿ رَهْواً ﴾ طريقاً يبساً كهيئته، يقول لا تأمره يرجع اتركه حتى يرجع آخرهم، ثم قال تعالى :﴿ كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ ﴾ وهي البساتين ﴿ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ ﴾ والمراد بها الأنهار والآبار ﴿ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ﴾ وهي المساكن الحسنة، ﴿ وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ ﴾ أي عيشة كانوا يتفكهون فيها، فيأكلون ما شاءوا ويلبسون ما أحبوا، مع الأموال والجاهات والحكم في البلاد، فسلبوا ذلك جميعه في صبيحة واحدة، وفارقوا الدنيا، وصاروا إلى جهنم وبئس المصير واستولى على البلاد المصرية والمماليك القبطية بنو إسرائيل، كما قال تبارك وتعالى :

صفحة رقم 2310

﴿ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ ﴾ [ الشعراء : ٥٩ ] وقال في الآية الأخرى :﴿ وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ [ الأعراف : ١٣٧ ] وقال عزّ وجلّ هاهنا :﴿ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ ﴾ وهم بنو إسرائيل كما تقدم.
وقوله سبحانه وتعالى :﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض ﴾ أي لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله تعالى فيها فقدتهم، فلهذا استحقوا أن لا ينظروا ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم وعتوهم وعنادهم، روى الحافظ الموصلي، عن أنَس بن مالك رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال :« ما من عبد إلاّ وله في السماء بابان : باب يخرج منه رزقه، وباب يدخل منه عمله وكلامه، فإذا مات فقداه وبكيا عليه »، وتلا هذه الآية :﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض ﴾ وذكر أنهم لم يكونوا عملوا على الأرض عملاً صالحاً يبكي عليهم، ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم، ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي عليهم، وروى ابن أبي حاتم، عن عباد بن عبد الله قال : سأل رجل علياً رضي الله عنه هل تبكي السماء والأرض على أحد؟ فقال له : لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك؛ إنه ليس من عبد إلاّ له مصلى في الأرض ومصعد عمله من السماء، وإن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض، ولا عمل يصعد في السماء، ثم قرأ علي رضي الله عنه :﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ ﴾. وقال ابن جرير، عن سعيد بن جبير قال : أتى ابنَ عباس رضي الله عنهما رجلٌ فقال : يا أبا العباس، أرأيت قول الله تعالى :﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ ﴾ فهل تبكي السماء والأرض على أحد؟ قال رضي الله عنه : نعم إنه ليس أحد من الخلائق إلاّ وله باب في السماء منه ينزل رزقه، وفيه يصعد عمله، فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه ففقده بكى عليه، وإذا فقده مصلاة من الأرض التي كان يصلي فيها ويذكر الله عزَّ وجلَّ فيها بكت عليه، وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الأرض آثار صالحة، ولمك يكن يصعد إلى الله عزَّ وجلَّ منهم خير، فلم تبك عليهم السماء والأرض. وقال سفيان الثوري : تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحاً، وقال مجاهد : ما مات مؤمن إلاّ بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً، فقلت له : أتبكي الأرض : فقال : أتعجب؟ وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دوي كدوي النحل، وقال قتادة : كانوا أهون على الله عزَّ وجلَّ من أن تبكي عليهم السماء والأرض.

صفحة رقم 2311

وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بني إِسْرَائِيلَ مِنَ العذاب المهين * مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المسرفين ﴾ يمتن عليهم تعالى بذلك حيث أنقذهم مما كنوا فيه من إهانة فرعون وإذلاله لهم، وتسخيره إياهم في الأعمال المهينة الشاقة، وقوله تعالى :﴿ مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً ﴾ أي مستكبراً جباراً عنيداً كقوله عزّ وجلّ :﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض ﴾ [ القصص : ٤ ]، وقوله جلَّت عظمته :﴿ فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ ﴾ [ المؤمنون : ٤٦ ]، ﴿ مِّنَ المسرفين ﴾ أي مسرف في أمره سخيف الرأي على نفسه، وقوله جلّ جلاله :﴿ وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين ﴾ قال مجاهد : على من هم بين ظهريه، وقال قتادة : اختبروا على أهل زمانهم ذلك، وكان يقال : إن لكل زمان عالماً، وهذا كقوله عزّ وجلّ لمريم عليها السلام ﴿ واصطفاك على نِسَآءِ العالمين ﴾ [ آل عمران : ٤٢ ] أي في زمانها، فإن خديجة رضي الله عنها أفضل منها، أو مساوية لها في الفضل، وكذا آسية امرأة فرعون، وفضل عائشة رضي الله عنها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، وقوله جلّ جلاله :﴿ وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الآيات ﴾ الحجج والبراهين وخوارق العادات ﴿ مَا فِيهِ بَلاَءٌ مُّبِينٌ ﴾ أي اختيار ظاهر جلي لمن اهتدى به.

صفحة رقم 2312
تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد نسيب بن عبد الرزاق بن محيي الدين الرفاعي الحلبي
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية