وحذرتهم عقب ذلك من الإعراض عن ذكر الله، ورغّبتهم في النعيم الأبدي في الآخرة، وامتنّت عليهم بأن القرآن شرف لنبي الله صلّى الله عليه وسلّم ولهم على السواء:
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ [٤٤].
ثم ختمت السورة ببيان وصف نعيم الجنة الذي لا مثيل له، والمخصّص للمؤمنين بآيات الله المسلمين المنقادين لربهم، وإيضاح أهوال القيامة وشدائد الأشقياء أهل النار حيث يتقلّبون في عذاب جهنم، وإفلاسهم من شفاعة الأصنام والآلهة المزعومة، وإعلان اليأس من إيمان هؤلاء المشركين والإعراض عنهم، فسوف يعلمون ما يلقونه من العذاب.
القرآن كلام الله بلغة العرب وعقاب المستهزئين بالأنبياء
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١ الى ٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤)أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨)
الإعراب:
جَعَلْناهُ قُرْآناً بمعنى صيرناه معدى إلى مفعولين، أو بمعنى خلقناه معدى إلى واحد، وقُرْآناً حال. صفحة رقم 114
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ: خبران ل «إن» وفِي أُمِّ الْكِتابِ متعلق ب «علي» أو حال منه، ولَدَيْنا بدل من أُمِّ الْكِتابِ أو حال من الْكِتابِ.
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ.. صَفْحاً: منصوب على المصدر، لأن معنى أَفَنَضْرِبُ أفنصفح. وأَنْ كُنْتُمْ بالفتح بتقدير لأن كنتم، وقرئ بالكسر: «إن» على أنها شرطية. وفاء أَفَنَضْرِبُ للعطف على محذوف، أي أنهملكم فنضرب عنكم الذكر صفحا.
فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً أَشَدَّ: مفعول به، أو حال، وبَطْشاً: تمييز.
البلاغة:
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً... استفهام على سبيل الإنكار والتوبيخ، يعني أنا لا نترك هذا التذكير والإنذار بسبب كونكم مسرفين.
المفردات اللغوية:
حم هذه الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن وعلى خطورة الأحكام المبينة في السورة وَالْكِتابِ أي أقسم بالقرآن على أنه مجعول قرآنا عربيا الْمُبِينِ الموضح لطريق الهدى والشرائع والأحكام إِنَّا جَعَلْناهُ أوجدنا القرآن- الْكِتابِ- قُرْآناً عَرَبِيًّا بلغة العرب لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لكي تفهموا معانيه أيها العرب.
وَإِنَّهُ مثبت، معطوف على إِنَّا فِي أُمِّ الْكِتابِ اللوح المحفوظ، فإنه أصل الكتب السماوية لَدَيْنا عندنا لَعَلِيٌّ رفيع الشأن لكونه معجزا من بينهما، مهيمنا على الكتب قبله حَكِيمٌ ذو حكمة بالغة، أو محكم لا ينسخه غيره.
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أي أنهملكم ونترككم فنمسك عنكم القرآن إمساكا، فلا تؤمرون ولا تنهون لأجل ما. أو أننحي عنكم القرآن، وتنحيته عنهم إعراض، يقال: ضربت وأضربت عنه:
تركته، والذِّكْرَ: القرآن، وصَفْحاً: إعراضا. والمراد إنكار أن يكون الأمر على خلاف ما ذكر من إنزال الكتاب بلغتهم ليفهموه.
أَنْ كُنْتُمْ أي لأن كنتم قَوْماً مُسْرِفِينَ متجاوزين الحد في الإسراف، مشركين بالله، وهو في الحقيقة علة مقتضية لترك الإعراض عنهم، أي لا نترككم لكونكم مشركين وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي ما أتاهم نبي إلا استهزءوا به، وهذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم عن استهزاء قومه.
فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً أشد من قومك قوة وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي سبق وسلف في آيات الله بيان قصتهم العجيبة وإهلاكهم، فكذلك يكون قومك مثلهم، والآية وعد للرسول، ووعيد لهم بمثل ما جرى على الأولين.
الغاية والهدف من الآيات:
يريد الله تعالى أن يؤكد كون القرآن بلغة العرب، مما يقتضي إيمان العرب قاطبة به، فهم أقدر الناس على فهمه وإدراك معانيه، ويؤكد أيضا أن القرآن كلام الله ومن عنده، فهو محفوظ مصون في اللوح المحفوظ، وليس من عند محمد صلّى الله عليه وسلّم كما تزعمون، وأن الإعراض عنه لا يكون سببا لترك تذكيرهم به، فضلا من الله ونعمة ورحمة، وليعتبروا بمصائر أمثالهم من الأمم التي أهلكها الله.
التفسير والبيان:
حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ تقدم بيان المراد من حم. ثم يقسم الله بالقرآن نفسه البيّن الواضح الجلي المعاني والألفاظ، المبين طريق الهدى وكل ما يحتاج إليه الناس في الدنيا والآخرة.
إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي إنا أنزلنا هذا القرآن بلسان العرب أو اللغة العربية التي هي أفصح اللغات للتخاطب بين الناس، وقد جعلناه بلغة العرب فصيحا واضحا، لتفهموه أيها العرب، وتتدبروا معانيه، كما جاء في آية أخرى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء ٢٦/ ١٩٥].
والآية جواب القسم، وهو من الأيمان الحسنة البديعة لتناسب القسم والمقسم عليه وكونهما من واد واحد. ولعل: للتمني والترجي وهو لا يليق بمن كان عالما بعواقب الأمور، فكان المراد هاهنا كما ذكر الرازي وغيره: أنزلناه قرآنا عربيا لكي تعقلوا معناه، وتحيطوا بفحواه.
هذا في الأرض، وأما في السماء فقال تعالى:
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ أي وإن هذا القرآن في اللوح المحفوظ عندنا رفيع القدر، عالي الشأن في البلاغة والإرشاد وغير ذلك «١»، عظيم الشرف والمكانة، ذو حكمة بالغة، ومحكم النظم لا يوجد فيه لبس واختلاف ولا تناقض، كما قال تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الواقعة ٥٦/ ٧٧- ٨٠] وقال سبحانه: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ [عبس ٨٠/ ١١- ١٦] «٢».
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ؟ أي أنترككم دون إنذار، ونطوي عنكم القرآن طيا دون تذكير، ولا وعظ ولا أمر ولا نهي، لأنكم قوم منهمكون في الإسراف، مصرّون على الشرك؟ لا نفعل ذلك لطفا ورحمة منا بكم، فلا نترك دعوتكم إلى الخير وإلى الذكر الحكيم وهو القرآن، وإن كنتم مسرفين معرضين عنه، بل نأمر به ليهتدي المهتدون في قدر الله وعلمه، وتقوم الحجة على الأشقياء «٣».
ثمّ سلّى الله رسوله عما يلقاه من صدود قومه، فقال:
وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ كَمْ: هنا خبرية، أي ما أكثر ما أرسلنا من الأنبياء في الأمم السابقة، فكذبوهم، كما قال تعالى:
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي وما أتاهم من نبي ولا رسول إلا كانوا به يكذبون ويسخرون، كتكذيب قومك واستهزائهم بك.
(٢) وقد استنبط العلماء من هاتين الآيتين أن المحدث لا يمس المصحف، تشبها بالملائكة الأطهار، لتعظيمه.
(٣) تفسير ابن كثير: ٤/ ١٢٢.
فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً، وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي فدمرنا وأهلكنا قوما أشد قوة من هؤلاء القوم المكذبين لك يا محمد، وقد سلف في القرآن ذكرهم أكثر من مرة وعرفت سنة الله فيهم، وإذا علمتم ما آل إليه أمرهم بسبب تكذيب الرسل، فاحذروا الوقوع في مثل مصائرهم.
فالمثل: سنتهم أو عقوبتهم كقوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [غافر ٤٠/ ٨٢].
أو المثل: عبرتهم، أي جعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين أن يصيبهم ما أصابهم، كقوله تعالى: فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ [الزخرف ٤٣/ ٥٦] وقوله سبحانه: سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ [غافر ٤٠/ ٨٥].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى الأحكام والمبادئ التالية:
١- القرآن الكريم أنزله الله بلسان العرب، لأن كل نبي أنزل كتابه بلسان قومه، وجميع ما في القرآن عربي مادة ومعنى، لفظا ونظما، فقد أقسم الله سبحانه بالقرآن أنه جعله عربيا، وأنه جعله مبيّنا، فهو المبيّن للذين أنزل إليهم، لأنّه بلغتهم ولسانهم، ولأنه الذي أبان طريق الهدى من طريق الضلالة، وأبان فيه أحكامه وفرائضه.
٢- ليس إنزال القرآن باللغة العربية دليلا على أنه خاص بالعرب دون العجم، لأن نصوصه قاطعة الدلالة على عالمية الإسلام للناس كافة، كما هو معروف في مواضع متقدمة، لذا كان تفسير ابن زيد لقوله لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ:
لعلكم تتفكرون هو الأولى، لأنه على هذا التأويل يكون خطابا عاما للعرب
والعجم. أما على تفسير ابن عيسى: لعلكم تفهمون أحكامه ومعانيه، فيكون خاصا للعرب دون العجم «١».
والظاهر إرادة كلا المعنيين ولا يلزم التخصيص بالعرب، لأن عموم الرسالة الإسلامية من المبادئ الكبرى المعروفة.
وقوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ يدل- كما ذكر الرازي- على أن القرآن كله معلوم، وليس فيه شيء مبهم مجهول، خلافا لمن يقول: بعضه معلوم، وبعضه مجهول «٢».
٣- وصف الله تعالى القرآن في السماء بأنه في اللوح المحفوظ لقوله تعالى:
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج ٨٥/ ٢١- ٢٢]، ثم وصف اللوح المحفوظ بأربع صفات هي:
الأولى- أنه أُمِّ الْكِتابِ وأصل كل شيء: أمه، أي أن القرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ.
الثانية- وأنه لدى الله بقوله لَدَيْنا. وإنما خصه الله بهذا التشريف لكونه الكتاب المشتمل على جميع ما يقع في ملك الله وملكوته.
الثالثة- كونه عليا، أي كونه عاليا عن وجوه الفساد والبطلان.
الرابعة- كونه حكيما، أي محكما في وجوه البلاغة والفصاحة، وذو حكمة بالغة. ويرى مفسرون آخرون أن هذه الصفات كلها صفات القرآن.
وهذا على تفسير أم الكتاب باللوح المحفوظ، وفي تفسير آخر أنه الآيات المحكمات لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ، مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ [آل عمران ٣/ ٧]
(٢) تفسير الرازي: ٢٧/ ١٩٣.
والمعنى: أن سورة حم واقعة في الآيات المحكمة التي هي الأصل والأم.
٤- إن اختيار المشركين دين الشرك لا يمنع من تذكيرهم، ووعظهم، وأمرهم، ونهيهم، لطفا من الله ورحمة بهم، وقطعا لحجتهم بعدم البيان والتكليف.
٥- إن عادة الأمم مع الأنبياء الذين يدعونهم إلى الدين الحق هو التكذيب والاستهزاء، فلا داعي أيها الرسول وأتباعه للتأذي من أقوام، بسبب إقدامهم على التكذيب والاستهزاء، لأن المصيبة إذا عمّت خفّت.
٦- إن عدد الأنبياء في البشر كثير، فما أكثر ما أرسل الله من الأنبياء، ولكن الله تعالى أهلك أقوامهم الذين كذبوهم واستهزءوا بهم، بالرغم من أنهم كانوا أقوى من هؤلاء المشركين في أبدانهم وأتباعهم. ومضى مثلهم في الأمم الغابرة.
والمثل: العقوبة أو السنّة أو الوصف والخبر، أي سلفت عقوبتهم، أو صفة الأولين بأنهم أهلكوا على كفرهم، أو مضت سنة الله فيهم.
فإذا سلك كفار مكة وغيرهم في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم، فليحذروا أن ينزل بهم من الخزي مثل ما نزل بهم، فقد ضرب الله لهم مثلهم، كما قال: وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ [الفرقان ٢٥/ ٣٩] وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ [إبراهيم ١٤/ ٤٥].