آيات من القرآن الكريم

وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ۚ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ
ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ

وما ذكر هنا مقتضبا من رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون وموقف فرعون منها جاء مسهبا بعض الشيء في سور سابقة وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار.
والجديد هنا هو ما جاء في الآيات [٥١- ٥٣] من خطاب فرعون لقومه. وهذا ليس واردا في الأسفار المتداولة، ولكن ليس ما يمنع أن يكون ورد في قراطيس كانت في يد اليهود وأن العرب السامعين كانوا يعرفون ذلك من طريقهم.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية [٥٤] مدنية. وظاهر أنها منسجمة انسجاما تاما نظما وموضوعا في الآيات مما يسوغ القول بعدم صحة الرواية.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٥٧ الى ٥٩]
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩)
. (١) يصدون: قيل إنها بمعنى يضجون فرحا وجلبة وصخبا. من التصدية وهي في أصلها بمعنى التصفيق. وقيل إنها بمعنى الإعراض والتعطيل من الصدّ والمقام يتحمل كلا المعنيين وإن كان حمله على المعنى الأول أولى وأقوى.
(٢) خصمون: عنيدون في الجدل والخصومة.
حكت الآيات موقف المشركين العرب حينما كان يذكر عيسى ابن مريم عليه السلام حيث كانوا كلما ذكر في معرض الرد والتمثيل والعظة يزدادون إعراضا وجدلا أو يشتدون في الصخب والضجة ويتساءلون عما إذا كان هو خيرا أم آلهتهم. وقد ردّت عليهم بأن تساؤلهم وموقفهم وصخبهم ليس إلّا من قبيل الجدل والمكابرة التي برعوا فيها ثم استطردت إلى ذكر حقيقة عيسى فقررت أنه ليس إلّا عبدا من عبيد الله أنعم الله عليه بالاصطفاء وجعله موضع عنايته وآية معجزة لبني إسرائيل لإثبات قدرته ومثلا من أمثاله وآياته لهم.

صفحة رقم 514

تعليق على آية وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وما بعدها
والآيات ليست منقطعة الصلة بالآيات السابقة، وبخاصة بالآيات التي سبقت قصة موسى وفرعون. وقد احتوت صورة من صور اللجاج والخصومة القوية التي كان عليها نبهاء العرب وفصلا من فصول الجدل التي كانت تقع بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم.
والمتبادر أن المشركين قالوا ردا على استشهاد القرآن برسل الله وكتبه على كونه لم يأذن بعبادة آلهة غيره على ما جاء في الآية [٤٥] إن هذا مناقض للواقع من حيث إن النصارى وهم مؤمنون برسل الله وعندهم كتاب سماوي قد اتخذوا عيسى إلها وعبدوه. ثم استمروا في ردهم الذي ظنوه مفحما وملزما فتساءلوا عن الأفضل والصواب آلملائكة الذين يعبدونهم أم عيسى؟ ويبدو أن تساؤلهم هذا قائم على ما كانوا يرونه من اتساق المنطق في صلة الله الأبوية بالملائكة التي كانوا يقولون بها- وهي كون الملائكة بنات الله- أكثر من صلة الله الأبوية بعيسى التي كان يقول النصارى بها- وهي وكون عيسى ابن الله- من حيث كون أوصاف الملائكة وحقيقتهم أكثر انسجاما أو تماثلا مع أوصاف الله من وصف عيسى وحقيقته لأن هذا ولد وعاش ومات كما يولد ويعيش ويموت سائر البشر كما يقرره النصارى أنفسهم. في حين أن الملائكة نورانيون غير ماديين وغير مرئيين لا يموتون ولا يتزاوجون ولا يتوالدون وكل هذا من صفات الله! وقد نسفت الآيات بردها هذا الأساس الذي أقاموا عليه حجتهم فأوضحت أن عيسى ليس إلّا عبدا من عباد الله وأن خلقه ليس إلّا آية ومعجزة ومثلا من آيات الله ومعجزاته وأمثاله.
ولقد روى الطبري وابن كثير والخازن والبغوي أن الآيات نزلت بمناسبة اعتراض الكفار حين نزلت آية سورة الأنبياء هذه: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) بقولهم كيف يكون هذا

صفحة رقم 515

ومن المعبودين عيسى وهو من أنبياء الله. والرواية لم ترد في كتب الصحاح ونحن نشك فيها أو على الأقل في كونها سبب نزول هذه الآيات لأن المناسبة بينها وبين ما قبلها قائمة ولأن روح الآيات تلهم أن ما فرضناه هو الأكثر وجاهة. ولأن مقتضى الرواية أن تكون آية سورة الأنبياء هي السابقة في النزول مع أن الواقع هو عكس ذلك.
ومع أن الطبرسي الشيعي روى الرواية التي رواها المفسرون المذكورون فإنه يروي رواية أخرى قال: إن سادة أهل البيت يروونها عن علي بن أبي طالب قال:
«جئت إلى رسول الله ﷺ يوما فوجدته في ملأ من قريش فنظر إليّ ثم قال: يا عليّ إنّما مثلك في هذه الأمة كمثل عيسى ابن مريم أحبّه قوم فأفرطوا في حبّه فهلكوا وأبغضه قوم فأفرطوا في بغضه فهلكوا واقتصد فيه قوم فنجوا فعظم ذلك عليهم فضحكوا وقالوا يشبهه بالأنبياء والرسل فنزلت الآية.
والهوى الحزبي بارز على هذه الرواية كما هو ظاهر.
تعليق على جملة ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) وما ورد في سياقها من نهي النبي عن التجادل في القرآن وضرب بعضه ببعض
وجملة ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) تدل على ما كان من قوة وشدة حجاج ولجاج نبهاء المشركين في أثناء جدالهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حجاجهم الذي شرحناه في صدد عيسى مثل على ذلك فضلا عن أمثلة عديدة من ذلك مرّت في السور السابقة.
ولقد روى المفسرون في سياق هذه الجملة حديثا عن النبي ﷺ في صيغ مختلفة، كلّها عن أبي أمامة رضي الله عنه، منها حديث رواه الترمذي ومسلم «١»
في سياق تفسير الجملة جاء فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ضلّ قوم بعد هدى كانوا

(١) التاج ج ٤ ص ٢٠٥ كتاب التفسير.

صفحة رقم 516

عليه إلّا أوتوا الجدل ثم تلا قول الله تعالى: ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) » ومنها حديث رواه الطبري «١» عن أبي كريب عن أحمد بن عبد الرحمن عن عباد بن عباد عن جعفر بن القاسم عن أبي أمامة جاء فيه: «إنّ رسول الله ﷺ خرج عليهم وهم يتنازعون في القرآن فغضب غضبا شديدا حتى كأنما صبّ على وجهه الخلّ ثم قال لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض فإنه ما ضلّ قوم قط إلّا أوتوا الجدل ثم تلا قول الله: ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) ».
والمتبادر أن النبي ﷺ أراد من الجدل الذي غضب منه ونهى عنه ما يكون مقصودا به اللجاج والحجاج والعناد والتعنت وأراد من تعبير: (لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض) لا تتجادلوا في آيات قد يبدو ظاهرها مناقضا لظاهر آيات أخرى جدالا يؤدي إلى تكذيب آيات الله ببعضها. والحق أن على المسلم واجب الإيمان بأنه ليس في كتاب الله اختلاف ولا تناقض. وأن عليه في حالة قصور فهمه عن إدراك حكمة الله في عبارة قرآنية أو في حالة توهمه مناقضة بين آية وأخرى أن يبحث عن حل وتأويل وتفسير في الآيات الأخرى أو يفوض الأمر إلى علم الله وحكمته ويعترف بقصور الفهم واحتمال التوهم. والعقل الإنساني مهما اتسع يظل قاصرا عن إدراك كلّ كلام الله وآياته وحكمته ونواميسه والمغيبات عنه. ومع ذلك فإن المرء لواجد في القرآن إذا آتاه الله فهما وأناة لكل آية مطلقة أو مشكلة في الظاهر تأويلا وتفسيرا وتوضيحا وحلا في آيات أخرى بحيث يصح القول إن القرآن إذا اعتبر ككل وهو حق وواجب لا يوجد فيه أي تناقض ولا غموض ولا إشكال.
وقد حاولنا في السور السابقة أن نجد لكل ما يبدو في الظاهر مطلقا أو مشكلا أو غامضا أو متناقضا تأويلا وحلا وتوضيحا وتوفيقا. ونرجو أن يكون الله قد سددنا

(١) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري. في التاج حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة مقارب في صيغته لهذا الحديث وهذا نصه: «خرج علينا رسول الله ونحن نتنازع في القدر فغضب حتى احمرّ وجهه كأنما فقىء في وجنتيه الرّمان فقال: أبهذا أمرتم أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنّما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر عزمت عليكم عزمت عليكم ألّا تتنازعوا فيه» التاج ج ٤ ص ٢٢٣.

صفحة رقم 517
التفسير الحديث
عرض الكتاب
المؤلف
محمد عزة بن عبد الهادي دروزة
الناشر
دار إحياء الكتب العربية - القاهرة
سنة النشر
1383
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية