
القويم الحق وطريقه المستقيم الصدق «وَجَعَلَها كَلِمَةً» أي جعل براءته تلك من الأوثان «باقِيَةً» تردد «فِي عَقِبِهِ» ذريته وبعض من بعده وهي كلمة لا إله إلا الله، لأن قوله (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) جاريا مجرى لا إله وقوله (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) جاريا مجرى إلا الله، فلا يزالون يلهجون بها ويوحدون الله بالعبادة «لَعَلَّهُمْ» إذا تلقوها عنه عقبا بعد عقب، وقد أشرك بعضهم فلم يقلها «يَرْجِعُونَ» ٢٨ عن الشرك إلى التوحيد اقتداء بجدهم الكريم، وان من أشرك منهم يرجع إلى الله بدعاء من وجد منهم، لأن ذريته عليه السلام لم تخل قط ممن يوحد الله ويدعو إليه منذ نشأ إلى يومنا هذا، وإلى يوم القيامة إن شاء الله القائل «بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ» قومك يا محمد «وَآباءَهُمْ» من قبلهم بالنعم المترادفة ولم أعاقبهم «حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ» من عندنا وهو القرآن «وَرَسُولٌ مُبِينٌ» ٢٩ موضح لهم الحق من الباطل من الأحكام والحدود والأخبار «وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ» بدل أن يصدقوه «قالُوا هذا سِحْرٌ» قد افتريته من عندك يا محمد «وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ» ٣٠ فزادوا بالطين بلة والنار شرارة إذ ضموا العناد إلى الكفر والاستخفاف إلى البهت، فسموا القرآن سحرا وكفروا به، وسموا الرسول ساحرا وكذبوه
«وَقالُوا» فوق ذلك كله مفترحين علينا رأيهم الفاسد «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» ٣١ صفة لرجل، وفيه دليل على جواز الفصل بين الصفة والموصوف يريدون أعماهم الله الوليد بن المغيرة من قريش مكة وعروة ابن مسعود من الطائف من ثقيف، فرد الله تعالى عليهم مؤنبا لهم جرأتهم هذه «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ» كلا لا حقّ لهم بذلك ولم تكن النبوة خاصة بالأشراف والأغنياء الذين يزعمون، وإنما هي فضل الله يختص به من يشاء من عباده الذين هم أهل لها، قال تعالى (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) الآية ١٢٥ من الأنعام المارة، فهو أعلم بمن يصطفيه لها، ثم ضرب مثلا بقوله عز قوله «نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» فجعلنا هذا غنيا وهذا فقيرا وهذا شريفا وهذا حقيرا «وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ» متفاوتة في الأموال والأولاد والنسب والعشرة والجاه والمنصب «لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً

سُخْرِيًّا»
في مصالحهم ويستخدموهم بأشغالهم حتى يتعايشوا وبترافدوا. وهذا لا لكمال في الموسع عليه ولا لنقص في المفتر عليه، بل ليستقيم نظام العالم، ولولا ذلك لما سخر أحد لأحد، ولأفضى الحال إلى خراب الكون، إذ لا يستغني أحد عن معاونة الآخر، وفي التساوي تنعدم الفائدة، إذ لا ينقاد أحد لغيره، فعلى العاقل أن يتدرج في هذه الدنيا ولا ينظر إلى ما يجمعه الأغنياء من الحطام، بل ينظر إلى ما هو نافع له في عقباد «وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» ٣٢ لأنهم وما يجمعونه فان ورحمة الله باقية، وهذا مما يزهد في الانكباب على الدنيا ويعين على التوكل والانقطاع إليه تعالى، قال ابن الوردي:
فاعتبر نحن قسمنا بينهم | تلقه حقا وبالحق نزل |
فأعددت للمرت الإله وعفوه | وأعددت للفقر التجلد والصبرا |
مطلب هو ان الدنيا عند الله وأهل الله وتناكر القرينين يوم القيامة والإشارة بأن الخلافة القريش وما نزل في بيت المقدس:
قال تعالى «وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً» فيجتمعون على الكفر ويطبقون عليه رغبة فيه إذا رأوا السعة عند الكفرة «لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ» مصاعد من فضة أيضا «عَلَيْها يَظْهَرُونَ» ٣٣ إلى العلو كالدرج والسلم الذي يصعد عليه للعلو «وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً» من فضة أيضا «وَسُرُراً» من فضة «عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ» ٣٤ خصّ السرر لأنها مما يجلس عليها المنعّمون «وَزُخْرُفاً» وجعلنا ذلك كله مزينا بالذهب والجواهر مرصعا بالأحجار الكريمة «وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا» يتمتع بها الإنسان مدة حياته أو بعضها ثم تذهب بذهابه وهي سريعة الزوال خاصة عند فقدان الشكر «وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ» ٣٥ الكفر والمعاصي الصارفين جوارحهم وأموالهم في رضاء الله فهذه هي النعم الدائمة التي يجب أن يمتع بها المؤمن قال:
تمتع من شميم عرار نجد | فما بعد العشية من عرار |
ولولا كثرة الباكين عندي | على إخوانهم لقتلت نفسي |
وما يبكون مثل أخي ولكن | أعزّي النفس عني بالتأسي |