آيات من القرآن الكريم

وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا ۚ أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ۚ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ
ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ

خَلَقَ تِلْكَ الْبَهِيمَةَ عَلَى وُجُوهٍ مَخْصُوصَةٍ فِي خَلْقِهَا الظَّاهِرِ، وَفِي خَلْقِهَا الْبَاطِنِ يَحْصُلُ مِنْهَا هَذَا الِانْتِفَاعُ، أَمَّا خَلْقُهَا الظَّاهِرُ: فَلِأَنَّهَا تَمْشِي عَلَى أَرْبَعِ قَوَائِمَ، فَكَانَ ظَاهِرُهَا كَالْمَوْضِعِ الَّذِي يَحْسُنُ اسْتِقْرَارُ الْإِنْسَانِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا خَلْقُهَا الْبَاطِنُ، فَلِأَنَّهَا مَعَ قُوَّتِهَا الشَّدِيدَةِ قَدْ خَلَقَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِحَيْثُ تَصِيرُ مُنْقَادَةً لِلْإِنْسَانِ وَمُسَخَّرَةً لَهُ، فَإِذَا تَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ فِي هَذِهِ الْعَجَائِبِ وَغَاصَ بِعَقْلِهِ فِي بِحَارِ هَذِهِ الْأَسْرَارِ، عَظُمَ تَعَجُّبُهُ مِنْ تِلْكَ الْقُدْرَةِ الْقَاهِرَةِ وَالْحِكْمَةِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَقُولَ سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فُلَانٌ مُقْرِنٌ لِفُلَانٍ، أَيْ ضَابِطٌ لَهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَكَأَنَّ اشْتِقَاقَهُ مِنْ قَوْلِكَ ضرب له قرنا، ومعن أَنَا قِرْنٌ لِفُلَانٍ، أَيْ مِثَالُهُ فِي الشِّدَّةِ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا مِنَ الْقُوَّةِ وَالطَّاقَةِ أَنْ نَقْرِنَ هَذِهِ الدَّابَّةَ وَالْفُلْكَ وَأَنْ نَضْبُطَهَا، فَسُبْحَانَ مَنْ سَخَّرَهَا لَنَا بِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ،
رَوَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا وَضَعَ رِجْلَيْهِ فِي الرِّكَابِ قَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ، فَإِذَا اسْتَوَى عَلَى الدَّابَّةِ، قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا، إِلَى قَوْلِهِ لَمُنْقَلِبُونَ»
وَرَوَى الْقَاضِي فِي «تَفْسِيرِهِ» : عَنْ أَبِي مَخْلَدٍ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: رَأَى رَجُلًا رَكِبَ دَابَّةً، فَقَالَ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا، فَقَالَ لَهُ مَا بِهَذَا أُمِرْتَ، أُمِرْتَ أَنْ تَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنَا مِنْ خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، ثُمَّ تَقُولَ: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا،
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَافَرَ وَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ، كَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ يَقُولُ:
سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِي سَفَرِي هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا السَّفَرَ وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَ الْأَرْضِ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ عَلَى الْأَهْلِ، اللَّهُمَّ اصْحَبْنَا فِي سَفَرِنَا، وَاخْلُفْنَا فِي أَهْلِنَا»

وَكَانَ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ يَقُولُ «آئبون تَائِبُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ»
قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» :
دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ فَذَكَرَهُ بِلَامِ كَيْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنَّا هَذَا الْفِعْلَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ الْكُفْرَ مِنْهُ، وَأَرَادَ الْإِصْرَارَ عَلَى الْإِنْكَارِ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ لِتَسْتَوُوا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ مُعَلَّلٌ بِالْأَغْرَاضِ الثَّالِثُ:
أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ خَلْقَ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى هَذِهِ الطَّبَائِعِ إِنَّمَا كَانَ لِغَرَضِ أَنْ يَصْدُرَ الشُّكْرُ عَلَى الْعَبْدِ، فَلَوْ كَانَ فِعْلُ الْعَبْدِ فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى، لَكَانَ مَعْنَى الْآيَةِ إِنِّي خَلَقْتُ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ لِأَجْلِ أَنْ أَخْلُقَ سُبْحَانَ اللَّهِ فِي لِسَانِ الْعَبْدِ:
وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ هَذَا اللفظ في لسانه بدون هذه الوسائط.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ مَعْلُومٌ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ اتِّصَالِ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ أَنَّ رُكُوبَ الْفُلْكِ فِي خَطَرِ الْهَلَاكِ، فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا تَنْكَسِرُ السَّفِينَةُ وَيَهْلِكُ الْإِنْسَانُ وَرَاكِبُ الدَّابَّةِ أَيْضًا كَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّابَّةَ قَدْ يَتَّفِقُ لَهَا اتِّفَاقَاتٌ تُوجِبُ هَلَاكَ الرَّاكِبِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَرُكُوبُ الْفُلْكِ وَالدَّابَّةِ يُوجِبُ تَعْرِيضَ النَّفْسِ لِلْهَلَاكِ، فَوَجَبَ عَلَى الرَّاكِبِ أَنْ يَتَذَكَّرَ أَمْرَ الْمَوْتِ، وَأَنْ يَقْطَعَ أَنَّهُ هَالِكٌ لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّهُ مُنْقَلِبٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَغَيْرُ مُنْقَلِبٍ مِنْ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، حَتَّى لَوِ اتَّفَقَ لَهُ ذَلِكَ الْمَحْذُورُ كان قد وطن نفسه على الموت.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١٥ الى ١٩]
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩)

صفحة رقم 622

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ «١» [الزخرف: ٩] بَيَّنَ أَنَّهُمْ مَعَ إِقْرَارِهِمْ بِذَلِكَ، جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى قِلَّةِ عُقُولِهِمْ وَسَخَافَةِ عُقُولِهِمْ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: جُزْءٌ بِضَمِّ الزَّايِ وَالْهَمْزَةِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ وَهُمَا لُغَتَانِ، وَأَمَّا حَمْزَةُ فَإِذَا وَقَفَ عَلَيْهِ قَالَ جُزًا بِفَتْحِ الزَّايِ بِلَا هَمْزَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا لَهُ وَلَدًا، وَتَقْرِيرُ الْكَلَامِ أَنَّ وَلَدَ الرَّجُلِ جُزْءٌ مِنْهُ،
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي»
وَلِأَنَّ الْمَعْقُولَ مِنَ الْوَالِدِ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْهُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، ثُمَّ يَتَرَبَّى ذَلِكَ الْجُزْءُ وَيَتَوَلَّدُ مِنْهُ شَخْصٌ مِثْلُ ذَلِكَ الْأَصْلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَوَلَدُ الرَّجُلِ جُزْءٌ مِنْهُ وَبَعْضٌ مِنْهُ، / فَقَوْلُهُ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً مَعْنَى جَعَلُوا حَكَمُوا وَأَثْبَتُوا وَقَالُوا بِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا لَهُ جُزْءًا، وَذَلِكَ الْجُزْءُ هُوَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَوْ قَالَ وَجَعَلُوا لِعِبَادِهِ مِنْهُ جُزْءًا، أَفَادَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا أَنَّهُ حَصَلَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ فِي بَعْضِ عِبَادِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْوَلَدُ، فَكَذَا قَوْلُهُ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً مَعْنَاهُ وَأَثْبَتُوا لَهُ جُزْءًا، وَذَلِكَ الْجُزْءُ هُوَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا لِلَّهِ وَلَدًا، وَذَكَرُوا فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهًا أُخَرَ، فَقَالُوا الْجُزْءُ هُوَ الْأُنْثَى فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَاحْتَجُّوا فِي إِثْبَاتِ هَذِهِ اللُّغَةِ بِبَيْتَيْنِ فَالْأَوَّلُ قَوْلُهُ:

إِنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يَوْمًا فَلَا عَجَبَ قَدْ تُجْزِئُ الحرة المذكاة أحيانا
وقوله:
زوجتها من نبات الْأَوْسِ مُجْزِئَةً لِلْعَوْسَجِ اللَّدْنِ فِي أَبْيَاتِهَا غَزَلُ
وَزَعَمَ الزَّجَّاجُ وَالْأَزْهَرِيُّ وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَنَّ هَذِهِ اللُّغَةَ فَاسِدَةٌ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ مَصْنُوعَةٌ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِثْبَاتُ الشُّرَكَاءِ لِلَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَثْبَتُوا الشُّرَكَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى فَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ كُلَّ الْعِبَادِ لَيْسَ لِلَّهِ، بَلْ بَعْضُهَا لِلَّهِ، وَبَعْضُهَا لِغَيْرِ اللَّهِ، فَهُمْ مَا جَعَلُوا لِلَّهِ مِنْ عِبَادِهِ كُلِّهِمْ، بَلْ جَعَلُوا لَهُ مِنْهُمْ بَعْضًا وَجُزْءًا مِنْهُمْ، قَالُوا وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَوْلَى مِنْ الْأَوَّلِ، أَنَّا إِذَا حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى إِنْكَارِ الشَّرِيكِ لِلَّهِ، وَحَمَلْنَا الآية التي بعدها على إِنْكَارِ الْوَلَدِ لِلَّهِ، كَانَتِ الْآيَةُ جَامِعَةً لِلرَّدِّ عَلَى جَمِيعِ الْمُبْطِلِينَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةَ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ إِثْبَاتَ الولد لله محال،
(١) في تفسير الرازي المطبوع لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وهي تتطابق مع سورة الزمر، الآية ٣٨، والرازي يقول: «اعلم أنه تعالى لما قال» فمقصده أن تكون الآية من سورة الزخرف فليتنبه.

صفحة رقم 623

وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَثْبُتَ الْوَلَدُ فَجَعْلُهُ بِنْتًا أَيْضًا مُحَالٌ، أَمَّا بَيَانُ أَنَّ إِثْبَاتَ الْوَلَدِ لِلَّهِ مُحَالٌ، فَلِأَنَّ الْوَلَدَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنَ الْوَالِدِ، وَمَا كَانَ لَهُ جُزْءٌ كَانَ مُرَكَّبًا، وَكُلُّ مُرَكَّبٍ مُمْكِنٌ، وَأَيْضًا مَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ الِاتِّصَالَ وَالِانْفِصَالَ وَالِاجْتِمَاعَ وَالِافْتِرَاقَ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ عَبْدٌ مُحْدَثٌ، فَلَا يَكُونُ إِلَهًا قَدِيمًا أَزَلِيًّا.
وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ بِنْتًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِابْنَ أَفْضَلُ مِنَ الْبِنْتِ، فَلَوْ قُلْنَا إِنَّهُ اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ الْبَنَاتَ وَأَعْطَى الْبَنِينَ لِعِبَادِهِ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ حَالُ الْعَبْدِ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ مِنْ حَالِ اللَّهِ، وَذَلِكَ مَدْفُوعٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ، يُقَالُ أَصْفَيْتُ فُلَانًا بِكَذَا، أَيْ آثَرْتُهُ بِهِ إِيثَارًا حَصَلَ لَهُ عَلَى سَبِيلِ الصَّفَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ مُشَارِكٌ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ [الإسراء: ٤٠] ثُمَّ بَيَّنَ نُقْصَانَ الْبَنَاتِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ:
قَوْلُهُ وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي بَلَغَ حَالُهُ فِي النَّقْصِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ كَيْفَ يَجُوزُ لِلْعَاقِلِ إِثْبَاتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى! وَعَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ أَنَّ امْرَأَتَهُ وَضَعَتْ أُنْثَى، فَهَجَرَ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الْمَرْأَةُ، فَقَالَتْ:

مَا لِأَبِي حَمْزَةَ لَا يَأْتِينَا يَظَلُّ فِي البيت الذي يلينا
غضبان أَنْ لَا نَلِدَ الْبَنِينَا لَيْسَ لَنَا مِنْ أمرنا ماشينا
وَإِنَّمَا نَأْخُذُ مَا أُعْطِينَا «١»
وَقَوْلُهُ ظَلَّ أَيْ صَارَ، كَمَا يُسْتَعْمَلُ أَكْثَرُ الْأَفْعَالِ النَّاقِصَةِ، قَالَ صاحب «الكشاف» : قرئ مسود ومسواد، وَالتَّقْدِيرُ وَهُوَ مُسْوَدٌّ، فَتَقَعُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَوْقِعَ الخبر والثاني: قوله أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وحفص عن عاصم ينشؤ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الشِّينِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، أَيْ يُرَبَّى، وَالْبَاقُونَ يُنْشَأُ، بِضَمِّ الْيَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الشِّينِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» :
وَقُرِئَ يُنَاشَأُ، قَالَ وَنَظِيرُ الْمُنَاشَأَةِ بِمَعْنَى الْإِنْشَاءِ، الْمُغَالَاةُ بِمَعْنَى الْإِغْلَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثانية: المراد من قوله أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى نُقْصَانِهَا، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يُرَبَّى فِي الْحِلْيَةِ يَكُونُ نَاقِصَ الذَّاتِ، لِأَنَّهُ لَوْلَا نُقْصَانٌ فِي ذَاتِهَا لَمَا احْتَاجَتْ إِلَى تَزْيِينِ نَفْسِهَا بِالْحِلْيَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ نُقْصَانَ حَالِهَا بِطَرِيقٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ يَعْنِي أَنَّهَا إِذَا احْتَاجَتِ الْمُخَاصَمَةَ وَالْمُنَازَعَةَ عَجَزَتْ وَكَانَتْ غَيْرَ مُبِينٍ، وَذَلِكَ لِضَعْفِ لِسَانِهَا وَقِلَّةِ عَقْلِهَا وَبَلَادَةِ طَبْعِهَا، وَيُقَالُ قَلَّمَا تَكَلَّمَتِ امْرَأَةٌ فَأَرَادَتْ أَنْ تَتَكَلَّمَ بِحُجَّتِهَا إِلَّا تَكَلَّمَتْ بِمَا كَانَ حُجَّةً عَلَيْهَا، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ نَقْصِهَا، فَكَيْفَ يَجُوزُ إِضَافَتُهَنَّ بِالْوَلَدِيَّةِ إِلَيْهِ! الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ التَّحَلِّيَ مُبَاحٌ لِلنِّسَاءِ، وَأَنَّهُ حَرَامٌ لِلرِّجَالِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَايِبِ وَمُوجِبَاتِ النُّقْصَانِ، وَإِقْدَامُ الرَّجُلِ عَلَيْهِ يَكُونُ إِلْقَاءً لِنَفْسِهِ فِي الذُّلِّ وَذَلِكَ حَرَامٌ،
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ»
وَإِنَّمَا زِينَةُ الرَّجُلِ الصَّبْرُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَالتَّزَيُّنُ بِزِينَةِ التَّقْوَى، قَالَ الشَّافِعِيُّ:
تَدَرَّعْتُ يَوْمًا لِلْقُنُوعِ حَصِينَةً أَصُونُ بِهَا عِرْضِي وَأَجْعَلُهَا ذُخْرَا
وَلَمْ أَحْذَرِ الدَّهْرَ الْخَئُونَ وَإِنَّمَا قُصَارَاهُ أَنْ يَرْمِي بِيَ الْمَوْتَ وَالْفَقْرَا
فَأَعْدَدْتُ لِلْمَوْتِ الْإِلَهَ وَعَفْوَهُ وأعددت للفقر التجلد والصبرا
(١) لهذا الرجز تتمة أو هي رواية أخرى رواها الجاحظ في «البيان والتبيين» :
كأنما ذلك في أيدينا ونحن كالأرض لزارعينا
نخرج ما قد بذروه فينا

صفحة رقم 624
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية