آيات من القرآن الكريم

وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ

فالعفو عن العاجز المعترف بجرمه محمود، والانتصار من المخاصم المصرّ على جرمه والمتمادى فى غيّه محمود، وإلى هذا أشار المتنبي بقوله:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
فوضع الندى فى موضع السيف بالعلا مضرّ كوضع السيف فى موضع الندى
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٠ الى ٤٣]
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣)
تفسير المفردات
السيئة: مأخوذة من السوء، وهو القبيح، وانتصر: أي سعى فى نصر نفسه بجهده، من سبيل: أي من عقاب ولا عتاب، لمن عزم الأمور: أي لمن الأمور المشكورة والأفعال التي ندب إليها عباده، ولم يرخّص بالتهاون فيها.
المعنى الجملي
بعد أن مدح فيما سلف الذين ينتصرون لأنفسهم ممن بغى عليهم- أردف ذلك ما يدل على أن ذلك الانتصار مقيد بالمثل، لأن النقصان حيف، والزيادة ظلم، والتساوي هو العدل الذي قامت به السموات والأرض، ثم ندب إلى العفو والإغضاء

صفحة رقم 54

عن الزلات، ثم ذكر أنه لا مؤاخذة على من ينتصر لنفسه، وإنما المؤاخذة على من يظلم الناس، ويبغى فى الأرض بغير الحق، وأن الصبر وغفران السيئة مما حث عليه الدين، وأجزل ثواب فاعله.
الإيضاح
(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) أي وجزاء سيئة المسيء عقوبته بما شرعه الله من عقوبة مماثلة لجرمه، وسمى هذا الجزاء سيئة مع أنه عقوبة مشروعة من الله مأذون بها، لأنها تسوء من تنزل به كما قال تعالى فى آية أخرى: «وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ» يريد ما يسوءهم من المصايب والبلايا.
وفى الآية حثّ على العفو، لأن الانتصار إنما يحمد إذا حصلت المماثلة فى الجزاء، وتقديرها عسر شاقّ، وربما صار المظلوم حين استيفاء القصاص ظالما.
ونحو الآية قوله: «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» وقوله: «وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ» وقوله «وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها».
وقد أمر صلّى الله عليه وسلّم بردّ الشتم على الشاتم.
أخرج النسائي وابن ماجه وابن مردويه عن عائشة قالت: «دخلت علىّ زينب وعندى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأقبلت علىّ تسبنى فردعها النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم تنته، فقال لى سبيها، فسبيتها حتى جفّ ريقها فى فمها، ووجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتهلل سرورا».
وكان هذا بمنزلة التعزيز منه لزينب بلسان عائشة، لما أن لها حقا فى الرد وقد رأى فيه المصلحة.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن مردويه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: المستبّان ما قالا من شىء فعلى البادي حتى يعتدى المظلوم ثم قرأ (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) »

صفحة رقم 55

وقصارى ذلك- إن كل جناية على النفس أو المال تقابل بمثلها قصاصا، لأن إهدارها يوجب فتح باب الشرور والمفاسد، إذ فى طبع الإنسان الظلم والبغي والعدوان، فإذا لم يزدجر عنه تمادى فيه ولم يتركه، والزيادة على قدر الذنب ظلم، والشرائع تتنزه عن ذلك، ومن ثم شرع الله القصاص، وندب إلى الفضل وهو العفو فقال:
«وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ» وجاء تتمة لهذه الآية.
(فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) أي فمن عفا عن المسيء وأصلح ما بينه وبين من يعاديه بالعفو والإغضاء عما صدر منه، فأجره على الله، فيجزيه أعظم الجزاء.
وفى إبهام الأجر وجعله حقا على العظيم الكريم جل شأنه زيادة فى الترغيب فى العفو والحثّ عليه.
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادى: ألا ليقم من كان له على الله أجر فلا يقوم إلا من عفا فى الدنيا وذلك قوله: (فَمَنْ عَفا) الآية».
ثم ذكر سبحانه خروج الظلمة عن محبته التي هى سبب الفوز والنجاة فقال:
(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي إنه تعالى لا يحب المتجاوزين الحد فى الانتقام، وفى هذا تصريح بما تضمنه سالف الكلام من حسن رعاية طريق المماثلة وأنها قلّما تخلو من الاعتداء والتجاوز عن الواجب، ولا سيما حال الحرد والتهاب الحميّة، وحينئذ يدخل المنتقمون فى زمرة من لا يحبهم الله.
(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) أي والله لمن انتصر ممن ظلمه بعد ظلمه إياه، فأولئك المنتصرون لا سبيل للمنتصر منهم أن يوجهو إليهم عقوبة ولا أذى لأنهم انتصروا منهم بحق، ومن أخذ حقه ممن وجب له عليه ولم يتعدّ- لم يظلم فلا سبيل لأحد عليه.

صفحة رقم 56
تفسير المراغي
عرض الكتاب
المؤلف
أحمد بن مصطفى المراغي
الناشر
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر
الطبعة
الأولى، 1365 ه - 1946 م
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية