
شرح الكلمات:
فما أوتيتم من شيء: أي فما أعطيتم من شيء من متاع الدنيا كالمال والولد والمطعم والمشرب والملبس والمسكن والمنكح والمركب.
فمتاع الحياة الدنيا: أي يتمتع به زمناً ثم يزول ولا يبقى.
وما عند الله خير وأبقى: أي وما عند الله من ثواب الآخرة فهو خير في نوعه وأبقى في مدته.
للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون: أي ما عند الله خير وأبقى لأصحاب الصفات التالية:
الإيمان، والتوكل على الله، واجتناب كبائر الإثم والفواحش، والتجاوز عمن أساء إليهم، والاستجابة لربهم في كل ما دعاهم إليه فعلاً أو تركاً، وإقام الصلاة والمشورة (١) بينهم والإنفاق مما رزقهم الله، والانتصار عند البغي عليهم هذه عشرة صفات أصحابها ما أعده الله تعالى لهم يوم يلقونه خير من متاع الدنيا بكامله.
وجزاء سيئة سيئة مثلها: أي جزاء سيئة المسيء عقوبته بما أوجبه الله عليه.
فمن عفا وأصلح فأجره على الله: أي فمن عفا عمن أساء إليه وأصلح ما بينه وبينه فأجره على الله ثابت له.
إنه لا يحب الظالمين: أي لا يحب البادئين بالظلم، ومن لم يحبه الله أذن في عقوبته.
ولمن انتصر بعد ظلمه: أي ومن ظلمه ظالم فأخذ منه بحقه.
فأولئك ما عليهم من سبيل: أي لمؤاخذتهم، لأنهم ما بدأوا بالظلم.
معنى الآيات:
قوله تعالى: ﴿فَمَا أُوتِيتُمْ (٢) مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ هذا شروع في بيان صفات الكمال في المسلم التي يستوجب بها نعيم الآخرة ضمن التعريض بزينة الحياة الدنيا الفانية فقال تعالى ﴿فَمَا أُوتِيتُمْ﴾ أيها الناس من مؤمن وكافر من شيء في هذه الحياة الدنيا من لذيذ الطعام والشراب وجميل اللباس، وفاخر المساكن وأجمل المناكح وأفره المراكب كل ذلك متاع الحياة الدنيا يزول ويفنى. أما ما عند الله أي ما أعده الله لأوليائه في الدار الآخرة فهو خير وأبقى لكن لمن أعده؟
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن
برأي لبيب أو مشورة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة
فإن الخوافي قوة للقوادم
الخوافي ريشات إذا ضم الطير جناحيه خفيت، والقوادم عشر ريشات في مقدم الجناح وهي كبار الريش.
٢- قال القرطبي في قوله تعالى: ﴿فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا﴾ يريد من الغنى والسعة في الدنيا

والجواب للذين آمنوا أي بالله وآياته ولقائه ورسوله وبكل ما جاء به والذين على ربهم لا على سواه يتوكلون ثقة في كفايته واعتماداً عليه، والذين يجتنبون أي يتركون كبائر (١) الإثم كالشرك والقتل والظلم وشرب الخمر وأكل الحرام والفواحش كالزنى واللواط. والذين إذا غضبوا يتجاوزون (٢) عمن أغضبهم ويغفرون له زلته أو إساءته إليهم والذين استجابوا لربهم (٣) عندما ناداهم ودعاهم لكل ما طلبه منهم، والذين أقاموا الصلاة فأدوها على وجهها المطلوب لها من خشوع مراعين شرائطها وأركانها وواجباتها وسننها وآدابها، والذين أمرهم شورى بينهم أي أمرهم الذي يهمهم في حياتهم أفراداً وجماعات وأمماً وشعوباً يجتمعون عليه ويتشاورون (٤) فيه ويأخذون بما يلهمهم ربهم بوجه الصواب فيه. والذين مما رزقهم الله من مال وعلم وجاه وصحة بدن ينفقون شكرا لله على ما رزقهم واستزادة للثواب يوم الحساب. والذين إذا أصابهم البغي أي إذا بغى عليهم البغاة الظلمة من الكافرين ينتصرون لأنفسهم إعذارا لها وإكراما لأنها أنفس الله وليها فالعزة واجبة لها. هذه عشر صفات متى اتصف بها العبد لا يضره شيء لو عاش الدهر كله فقيراً نقياًّ محروماً من لذيذ الطعام والشراب ومن جميل اللباس، والسكن والمركب إذ ما عند الله تعالى له خير أبقى مع العلم أن أهل تلك الصفات سوف لا يحرمون من طيبات الحياة الدنيا بل هم أولى بها من غيرهم إلا أنها ليست شيئاً يذكر إلى جانب ما عند الله يوم يلقونه ويعيشون في جواره.
وقوله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ هذا هو الحكم الشرعي جزاء المسيء العقوبة بما أوجب الله تعالى له في كتابه أو على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقوله تعال فمن عفا عمن أساء إليه، أصلح ما بينه وبينه فعادت المودة وعاد الإخاء فأجره على الله وهو خير له وأبقى من شفاء صدره بعقوبة أخيه الذي أساء إليه. وقوله تعالى ﴿إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ تعليل لعظم الأجر لمن عفا أي كونه تعالى لا يحب الظالمين ضاعف الأجر وأجزل المثوبة للمظلوم إذا عفا وأصلح. وقوله: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٥) ﴾ أي وللذي ظلم فانتصر لنفسه وردّ الظلم عنها فهؤلاء لا سبيل لكم إلى أذيتهم وعقوبتهم. هذا حكم الله وشرعه.
٢- وإذا ما غضبوا هم يغفرون أي يتجاوزون ويحملون عمن ظلمهم، قيل نزلت في عمر حين شتم بمكة وقيل في أبي بكر حين لامه الناس على إنفاقه ماله كله وحين شتم فحلم.
٣- قال ابن زيد: هم الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أنفذ إليهم اثني عشر نقيباً منهم قبل الهجرة.
٤- قال ابن العربي: الشورى ألفة للجماعة ومسبار للعقول وسبب إلى الصواب وما تشاور قوم قط إلا هدوا وفي الحديث "ما خاب من استخار ولا ندم من استشار وما عال من اقتصد". والشورى والمشورة بمعنى واحد.
٥- لقد مدح الله تعالى المنتصر من الظلم ومدح العفو عن الجرم، فالانتصار يكون من الظالم المعلن الفجور الوقح في الجمهور المؤذي للصغير والكبير فهذا الانتقام منه أفضل، والعفو يكون في الفلتة، وفيمن يعترف بالزلة ويطلب العفو.