
١- بيان أن من الذنوب ما يعفو (١) الله تعالى عنه ولا يؤاخذ به تكرماً وإحسانا.
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥)
شرح الكلمات:
ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام: أي ومن علامات ربوبيته للخلق إيجاد السفن كالجبال في البحار وتسخير البحار للسير فيها لمنافع العباد.
إن يشأ يسكن الريح: أي يوقف هبوب الريح فلا نسيم ولا عواصف.
فيظللن رواكد على ظهره: أي تقف السفن وتظل راكد حابسة على ظهر البحر.
إن في ذلك لآيات: أي في هذه المظاهر من خلق السفن والبحار وتسخير البحار وسير السفن وركودها عند سكون الرياح لدلالات واضحة على وجود الله وقدرته وعمله وحكمته.
لكل صبار شكور: أي إن هذه الآيات لا يراها ولا ينتفع بها إلا من كان صباراً عند الشدائد والمحن شكوراً عند الآلاء والنعم.
أو يوبقهن بما كسبوا: أي وإن يشأ يجعل الرياح عواصف فيهلك تلك السفن ويغرقها بمن فيها بسبب ذنوب أصحابها، وهو على ذلك قدير.
ويعفو عن كثير: أي إنه تعالى ليعفو عن كثير من الذنوب والخطايا فلا يؤاخذ بها إذ لو آخذ بكل ذنب ما بقي أحد على وجه الأرض لقلة من لا يذنب فيها.
ويعلم الذين يجادلون في آياتنا: أي ويعلم المكذبون بآيات الله من المشركين عندما تعصف العواصف وتضطرب السفن ويخاف الغرق.
ما لهم من محيص: أي ليس لهم من مهرب إلا إلى الله فيجأرون بدعائه وحده ناسين آلهتهم الباطلة.

معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر مظاهر الربوبية المستلزمة لألوهية الله تعالى ووجوب عبادته وحده دون سواه فقال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ (١) فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ﴾ أي ومن حججه عليكم يا عباد الله الدالة على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته أيضاً هذه السفن الجوار في البحر كأنها جبال عالية تسير من إقليم إلى إقليم بتسخير الله تعالى البحار وإرسال الرياح وهي تجري بمنافعكم حيث تنقل الركاب والبضائع من إقليم إلى آخر. فهذا مظهر قدرة الله ورحمته، وإن يشأ تعالى إسكان الريح فإنها تسكن فلا تهب ولا تنسم بنسيم ألبتة فتقف السفن وتركد على سطح (٢) الماء فلا تتحرك، وإن يشأ أيضاً يرسل عليها عواصف من الريح فتضطرب وتغرق بما فيها ومن فيها وذلك بذنوب أصحابها إن القاعدة الثابتة المقررة أنه ما من مصيبة إلا بذنب. وهذا معنى قوله ﴿إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ﴾.
وقوله تعالى ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ أي إن في هذه المظاهر من خلق السفن والبحار وتسخير البحار وسير السفن عليها وركودها عند سكون الريح لحجج واضحة قوية على وجود الله وقدرته وعلمه ورحمته وحكمته ولكن لا يراها ولا ينتفع بها أمثال البهائم، ولكن هي من نصيب كل عبد صبار على طاعة الله وبلائه شكور لآلائه ونعمه عليه.
وقوله ﴿أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا (٣) ﴾. وقوله ﴿وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٤) ﴾ أي ولا يؤاخذ بكل ذنب فقد يعفو عن كثير من الذنوب. إذ لو عاقب على كل ذنب وآخذ بكل خطيئة لما بقي على وجه الأرض أحد إذ ما من أحد إلا ويذنب اللهم إلا ما كان من المعصومين من الأنبياء والمرسلين فإنهم لا يذنبون، ولكن قد يذنب أصولهم وفروعهم فيهلكون ومن أين يوجدون!!
قال الخليل كل شيء مرتفع عند العرب فهو علم واستشهد بقول الخنساء وهي ترثي أخاها صخرا:
وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار
٢- يقال راكد الماء ركوداً سكن وكذلك الريح والسفن والشمس إذا قام قائم الظهيرة وكل ثابت في مكان فهو راكد والرواكد جمع راكدة مؤنث راكد.
٣- أي وإن يشأ يجعل الرياح عواصف فيوبق السفن أي يغرقهن بذنوب أهلها إذ الباء سببية.
٤- ويعفو عن كثير أي من أهلها فلا يغرقهم معها، كما يتجاوز عن كثير من الذنوب فلا يؤاخذ بها. ويعف مجزوم بحذف آخره لأنه معطوف على إن يشأ يسكن الريح أي وإن يشأ يعف.

وقوله تعالى: ﴿وَيَعْلَمَ (١) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٢) ﴾ أي وعندما تكون الريح عاصفة وتضطرب السفن وتشرف على الغرق هنا يعلم المشركون الذين يخاصمون رسول الله ويجادلونه في الوحي الإلهي ويكذبون به يعلمون أنهم في هذه الحال ما لهم من محيص أي من ملجأ ولا مهرب من الله إلا إليه فيجأرون بدعاء الله وحده كما قال تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- مظاهر ربوبية الله وألوهيته على خلقه.
٢- فضل الصبر والشكر وفضيلة الصابرين الشاكرين.
٣- تقرير قاعدة ما من مصيبة إلا بذنب مع عفو الله عن كثير.
٤- عند معاينة العذاب يعرف الإنسان ربه ولا يعرف غيره.
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١)
٢- المحيص مصدر ميمي من حاص يحيص حيصاً إذا أخذ في الفرار والهرب مائلاً في سيره وفي حديث أبي سفيان: فحاصوا حيصة حمر الوحش. والمعنى ما لهم من فرار ومهرب من لقاء الله تعالى.