
فإن ما يختص أحد الشيئين المجاورين يصح نسبته إليهما، كقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «١» وإنما يخرج المرجان من الملح، ولا يبعدُ أن يخلق الله في السموات حيواناً يمشون مشي الأناسيّ على الأرض، أو:
يكون للملائكة مشي مع الطيران، فوصفوا بالدَّبيب لذلك. وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ أي: حشرهم بعد البعث للحساب إِذا يَشاءُ أي: في الوقت الذي يشاء قَدِيرٌ لا يعجزه شيء الإشارة: مِن تعرفاته: إظهار السموات والأرض، وهذه رسوم المعاني، وما بثّ فيهما من دابة، وهذه أشكال توضح أسرار المعاني، فإذا قبضت المعاني محيت الرسوم والأشكال. وقوله تعالى: وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ، قال القشيري: الإشارة في هذا: أنَّ الحقَّ تعالى يغار على أوليائه أن يَسْكنَ بعضُهم بقلبه إلى بعض، فأبداً يُبَدّدُ شملهم، ولا يكاد تتفق الجماعة من أهل القلوب إلا نادراً، وذلك أيضاً مدة يسيرة، كما أنشدوا:
رمى الدهرُ بالفتيان حتى كأنَّهم | بأكنافِ أطرافِ السماء نجومُ «٢» |
قلت: مما جرت به عادة الله تعالى في أوليائه: أنه لا يجتمع في موضع واحد منهم اثنان فأكثر إلا قام أحدهما بالآخر، ويفقد نظامهما، فلا تكاد تحد أهل النور القوي إلا متباعدي الأوطان، لئلا يطفي نور إحداهما نورَ الآخر، وقد يجتمعون نادراً في وقت مخصوص، وذلك وقت النفحات. كما تقدّم للقشيري.
ثم ذكر سبب نزول المصائب بعباده، فقال:
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١)
(٢) البيت منسوب للقشيرى كما فى تبيين كذب المفترى للدمشقى/ ٣٥٦.
(٣) بتصرف. [.....]

يقول الحق جلّ جلاله: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ غمّ، أو ألم، أو مكروه فَبِما «١» كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ أي: بجنايةٍ كسبتموها، عقوبةً لكم. ومَن قرأ بالفاء ف «ما» شرطية. ومَن قرأ بغيرها فموصلة. وتَعَلقَ بهذه الآية من يقول بالتناسخ، ومعناه عندهم: أن أرواح المتقدمين حين تموت أشباحها تنتقل إلى أشباح أُخر، فإن كانت صالحة انتقلت إلى جسم صالح وإن كانت خبيثة انتقلت إلى جسم خبيث، وهو باطل وكفر. ووجه التعلُّق: أنه لو لم يكن للأطفال حالة كانوا عليها قبل هذه الحالة لما تألّموا. ويجاب: بأن تألم الأطفال إما زيارة في درجات آبائهم إن عاشوا، أو في درجاتهم إن ماتوا لأنهم يلحقون بآبائهم في الدرجة، ولا عمل لهم إلا هذا التألُّم. والله أعلم.
والآية مخصوصة بالمكلّفين بدليل السياق، وهو قوله: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أي: من الذنوب فلا يُعاقب عليها، أو: عن كثير من الناس، فلا يعاجلُهم بالعقوبة. وفى الحديث عنه صلّى الله عليه وسلم: «واللهُ أكرم من أن يُثَنّي عليكم العقوبة في الآخرة، وما عفا عنه فالله أحلم من أن يعود فيه بعد عفوه» «٢» وقال ابن عطاء: مَن لم يعلم أنَّ ما وصل إليه من الفتن والمصائب باكتسابه، وأن ما عفا عنه مولاه أكثر، كان قليل النظر في إحسان ربه إليه. وقال محمد بن حامد: العبدُ ملازِمٌ للجنايات في كلّ أوان، وجناياته في طاعته أكثر من جناياته في معاصيه لأن جناية المعصية من وجه، وجناية الطاعة من وجوه، والله يُطهِّر العبد من جناياته بأنواع من المصائب ليخفّف عنه أثقاله في القيامة، ولولا عفوه ورحمته لهلك في أول خطوة.
وعن عليّ- كرّم الله وجهه-: هذه أرجى آيةٍ للمؤمنين في القرآن لأنّ الكريمَ إذا عاقب مرةً لا يُعاقِب ثانياً، وإذا عفا لا يعود. هـ. وقد تقدّم حديثاً. قال في الحاشية الفاسية: قلت: وإنما يعفو في الدنيا عما يشاء، ويؤخر عقوبة مَن شاء إلى الآخرة، فلا يلزم إبطال وعيد الآخرة. ثم الآية إما خاصة بالحدود، أو بالمجرم المذنب، وأما مَن لا ذنب له فما يُصيبه من البلاء اجتباء وتخصيص، لا تمحيص. هـ.
قلت: لكل مقام ذنب، حسنات الأبرار سيئات المقربين، فالتمحيص جار في كل مقام، وراجع ما تقدم عند قوله: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ... «٣» وسيأتي عند قوله: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ.. «٤» ما يبين هذا. والله أعلم
الحجة للفارسى، (٦/ ١٢٩) والإتحاف (٢/ ٤٥٠).
(٢) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (١/ ٨٥) والحاكم (٤/ ٣٨٨) وزاد السيوطي عزوه فى الدر المنثور (٥/ ٧٠٥) لابن راهويه، وابن منيع، وعبد بن حميد، والحكيم الترمذي، وأبى يعلى، وابن المنذر، وابن أبى حاتم، وابن مردويه، عن سيدنا علي- كرّم الله وجهه-.
(٣) من الآية ١١٧ من سورة التوبة.
(٤) من الآية ١٩ من سورة سيدنا محمد.