
دينا لم يشرعه الله ولم يأذن به. وإنذار للظالمين المنحرفين عن حدود الله المتمردين على عبادته وحده بالعذاب الأليم على ما بدا منهم من الجرأة والزعم، وتعليل لتأخر هذا العذاب بالحكمة الربانية التي اقتضت تأجيل الفصل بين الناس إلى يوم القيامة.
وفي الآية الثانية صورة لما سوف يكون من أمر الظالمين في ذلك اليوم حيث يستولي عليهم الخوف من نتائج تمردهم وسوء أعمالهم التي هي واقعة عليهم حتما في حين يكون الذين آمنوا بالله وحده وقدموا صالح الأعمال منعمين في روضات الجنات يتمتعون بما يشاءون واحتوت الفقرة الأخيرة تنويها بهذا المصير السعيد الذي هو فضل عظيم للمؤمنين على الظالمين.
والآيتان استمرار للسياق والموضوع كما هو المتبادر، ولقد كان المشركون يزعمون أن ما هم عليه متصل بما شرعه الله وأن الله راض عنهم مما حكته آيات عديدة عنهم مرت أمثلة منها في السور السابقة. والظاهر أنهم كرروا ذلك في ظروف نزول هذه السورة وما ورد فيها من الإشارة إلى ما شرعه الله للناس على لسان أنبيائه فاحتوت الآيات تنديدا وردّا وإنذارا واستطرادا إلى ذكر المؤمنين الصالحين ومصيرهم بالمقابلة، جريا على الأسلوب القرآني.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٢٣]
ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣)
. في الآية تنبيه على أن ما ذكر في الآية السابقة من المصير السعيد هو الذي يبشر الله به عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وأمر للنبي ﷺ بأن يقول للمخاطبين إني لا أسألكم أجرا إلّا المودة في القربى، وتقرير بأن الذي يفعل الحسنة يزاد له فيها ويضاعف أجره لأن الله غفور شكور يعامل عباده الصالحين بالمغفرة والتقدير.
وكلمة ذلِكَ تبدو بمثابة الرابطة بين هذه الآية وما سبقها كما هو المتبادر.

وفي الآية أمر مؤكد للأوامر السابقة للنبي بإعلان قومه بأنه لا يطلب منهم على مهمته نفعا ولا أجرا إلا المودة في القربى. وفيها حث على الاستجابة إلى الله وترغيب في عمل الصالحات وتبشير بصفات الله الغفور الشكور وتقرير لقابلية الناس على الاختيار وجزاؤهم على اختيارهم أيضا.
ويلحظ أن الفقرة الأخيرة من الآية احتوت توكيدا للمعنى الذي انطوى في الفقرة الأخيرة من الآية [٢٠] السابقة بأسلوب آخر حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت مواصلة تطمين الذين يفعلون الأفعال الحسنة التي ترضي الله تعالى بمضاعفة ثوابهم في آيات متتالية. وفي هذا ما فيه من حثّ على العمل الصالح وقد تكرر كثيرا ومرت منه أمثلة عديدة.
تعليق على جملة قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى
ولقد تعددت الأقوال والروايات في معنى الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن هذه الآية والآيتين اللتين بعدها مدنيات. وروى الطبرسي في مجمع البيان نقلا عن تفسير أبي حمزة الثمالي عن ابن عباس أن الأنصار جاءوا إلى النبي ﷺ بعد أن استحكم الإسلام في المدينة فقالوا له: إن تعرك أمور فهذه أموالنا تحكم فيها في غير حرج ولا محظور عليك فنزلت الآية فقرأها عليهم وقال: تودون قرابتي من بعدي فخرجوا من عنده مسلمين فقال المنافقون: إن هذا لشيء افتراه في مجلسه أراد أن يذلنا لقرابته من بعده فأنزل الله الآية: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً... فتلاها عليهم فبكوا واشتد عليهم فأنزل الله الآية التي بعدها: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ فأرسل في أثرهم فبشرهم، وقد أخرج الطبراني حديثا عن ابن عباس مقاربا لما جاء في هذه الرواية «١».

هذا من جهة رواية مدنية الآية والآيتين اللتين بعدها، وسبب نزولها، وهناك روايات وأقوال عديدة في تأويل الآية بصورة عامة استقصاها الطبري والطبرسي أكثر من غيرهما فمما رواه الطبري أن ابن عباس سئل عن الآية فقال ابن جبير:
القربى فيها هي قربى آل محمد. فقال ابن عباس: «عجلت إنّ النبيّ لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة فنزلت الآية تذكر ذلك وتقول لقريش (إلا أن تصلوا القرابة التي بيني وبينكم) وقد روى البخاري والترمذي هذه الرواية في كتابيهما أيضا «١». ومما رواه الطبري عن ابن عباس قوله: «كان لرسول الله ﷺ قرابة في جميع قريش فلما كذبوه وأبوا أن يبايعوه قال: يا قوم إذا أبيتم أن تبايعوني فاحفظوا قرابتي فيكم لا يكن غيركم من العرب أولى بحفظي ونصرتي منكم وذلك قول الآية: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ومما رواه الطبري أيضا عن ابن عباس في الآية قوله: «قال محمد لقريش: لا أسألكم من أموالكم شيئا ولكنّي أسألكم أن لا تؤذوني لقرابة ما بيني وبينكم فإنّكم قومي وأحقّ من أطاعني وأجابني» ومثل هذه الأقوال ومن بابها أقوال مروية في الآية عن عكرمة وحصين بن مالك وقتادة ومجاهد والضحاك وعطاء بن دينار وابن وهب.
وإلى جانب هذه الأقوال التي يرويها الطبري يروي أيضا روايات مناقضة لها حيث يروي أن رجلا من أهل الشام قال لعلي بن الحسين لما جيء به إلى دمشق بعد مقتل أبيه: الحمد الله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة. فقال له:
أقرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: أما قرأت قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى؟ قال: نعم وإنّكم لأنتم هم؟ قال: نعم. وحيث يروى أيضا أنّ سعيد بن جبير قال: إن كلمة الْقُرْبى في الآية تعني قربى رسول الله ﷺ وأن عمرو بن شعيب أوّلها بمثل ذلك. وقد روى الطبري إلى جانب هذه الروايات وتلك عن الحسن أن القربى في الآية بمعنى القربى إلى الله. وعن قتادة أن الجملة في الآية بمعنى التودد والتقرب إلى الله بالطاعة.

ومما رواه الطبرسي في تفسيره (مجمع البيان) عن الحسن والجبائي وأبي مسلم أن معنى الآية: «لا أسألكم أجرا إلا التواد والتحابب وما يقرب إلى الله من العمل الصالح» أو «التقرب إلى الله والتودد إليه بالطاعة». كما روى عن ابن عباس أنها تعني: «لا أسألكم إلّا أن تودّوني في قرابتي منكم وتحفظوني لها». وعن قتادة ومجاهد: «أن تودوني لأجل القرابة التي بيني وبينكم». وعن سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب وأبي جعفر وأبي عبد الله: «أن تودوا قرابتي وعترتي وتحفظوني فيهم». وعن الحسن: «إنّا أهل البيت الذين افترض الله مودّتهم على كلّ مسلم فقال: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى». وعن ابن عباس: «لما نزلت الآية قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين أمرنا الله بمودّتهم؟ فقال: هم عليّ وفاطمة وولدهما» «١».
وتعليقا على ما تقدم نقول: أما من ناحية مدنية الآية فالملحوظ أنها متصلة أوثق اتصال بالآية السابقة لها نظما وموضوعا. وهذا ما يلحظ أيضا بالنسبة للآيتين التاليتين لها اللتين ذكرت الروايات أنهما مدنيتان مثلها، ويلحظ أن رواية نزولها في المدينة معزوة إلى ابن عباس الذي رويت روايات عديدة عنه في تأويل الآية تأويلا يصرفها عن قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنها حديث صحّ عند البخاري والترمذي وليس يخفى ما في رواية نزولها في المدينة من غرابة بل وتهافت وقصد تلفيق وتطبيق.
ولعل قصد صرف الآية إلى أقارب رسول الله ﷺ ذو صلة بها لأن ذلك يكون ممتنعا البتة في حالة مكية الآية حيث كان أكثر أقارب رسول الله ﷺ في العهد المكي ومنهم أعمامه أبو طالب وأبو لهب والعباس كفارا، ولم تكن فاطمة رضي الله عنها قد تزوجت، ولم يكن الحسن والحسين قد ولدا بعد. ولذلك فنحن نشك في رواية مدنية الآية والآيتين التاليتين لها. وأما من ناحية صرف الآية إلى أقارب

النبي ﷺ أو فاطمة وعلي وولدهما فمع أن البرّ بالصالحين المتقين من أهل بيت رسول الله ﷺ ومودتهم واحترامهم واجب مسلّم به بقطع النظر عما إذا كان هناك نصّ قرآني أو حديث نبوي «١» فإن حمل العبارة على ذلك في معرض أجر للنبي ﷺ على مهمته ودعوته لا يتسق قط مع علوّ شأن النبوة ومصدرها الرباني ولا مع الآيات العديدة التي تضمنت أوامر للنبي ﷺ بأن يقول للناس إنه لا يسألهم على مهمته أجرا ولا خرجا وليس له أي غاية شخصية دنيوية مما مرّ منه أمثلة عديدة.
ولذلك نرى التأويلات الأخرى التي وردت في صدد الزيادة الاستثنائية التي نشأ عنها ذلك المفهوم هي الأولى والأصوب من حيث إنها قصدت أن تأمر النبي ﷺ بإعلان قومه أنه لا يسألهم على رسالته أجرا ولا يقصد نفعا خاصا وكل ما يطلبه أو يرجوه هو هدايتهم أو مودته أو عدم أذيته أو عدم الصد عن دعوته وأن هذا هو ما توجبه القرابة التي بينه وبينهم، ولا سيما أن من هذه التأويلات ما صح عند
التاج ج ٣ ص ٣٠٨- ٣٠٩.
وهناك صيغ عديدة أخرى لهذا الحديث من طرق أخرى، وهذه الصيغة أوسعها إسهابا وأوثقها سندا، وروى الترمذي عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحبّوا الله تعالى لما يغذوكم من نعمه وأحبّوني بحبّ الله وأحبّوا أهل بيتي بحبّي». تفسير الآية لابن كثير.
وهناك أحاديث أخرى منها ما هو في صدد أفراد معينين من آل البيت. وفيها الجيد السند وفيها الضعيف فاكتفينا بما أوردناه الوارد في جميع أهل بيت النبي ﷺ عامة والقوي الإسناد.