٣- إن الأديان قائمة على توحيد الله، فلا تلتقي مع الشرك والمشركين، وإنما ترفض الشرك والوثنية، وتقبّح عقائد المشركين، لذا كان يشقّ على المشركين سماع كلمة التوحيد- شهادة أن لا إله إلا الله.
٤- يستخلص الله لدينه من رجع إليه، ويهدي إليه من وجد فيه الخير.
٥- لم تتفرّق الأمم في أديانها إلا بعد علمهم بالحقّ والحقيقة، وآثروا الفرقة والاختلاف على الوحدة والجماعة للبغي والظلم والاشتغال بالدنيا، فما على المسلمين إلا أن يحذروا الفرقة والتّشتت ويحرصوا على الجماعة والوحدة، وينبذوا الخلافات والعصبيات المذهبية الضّارة.
٦- اقتضت الحكمة الإلهية تأخير العذاب إلى يوم القيامة، وتأخير الفصل بين المختلفين إلى يوم المعاد والحساب.
٧- إن الذين توارثوا التوراة والإنجيل لفي شكّ من كتبهم ومما أوصى به الأنبياء.
الأمر بالدعوة والاستقامة على المتفق عليه ودحض حجة المجادلين فيه
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١٥ الى ١٩]
فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩)
الإعراب:
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ.. حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ الَّذِينَ: مبتدأ، وحُجَّتُهُمْ:
مبتدأ ثان، وداحِضَةٌ: خبره، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول.
أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ متعلق ب أَنْزَلَ.
لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ذكّر قَرِيبٌ من أربعة وجوه: ذكّره على النّسب، أي ذات قرب، مثل إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ [الأعراف ٧/ ٥٦] أي ذات قرب، أو لأن التقدير: لعل وقت الساعة قريب، أو حملا على المعنى، لأن الساعة بمعنى البعث، أو للفرق بينه وبين قرابة النسب. وقال الكسائي: قَرِيبٌ نعت ينعت به المذكر والمؤنث والجمع بمعنى ولفظ واحد.
ولَعَلَّ علق فعل يُدْرِيكَ عن العمل، وسدّ ما بعده مسدّ المفعولين.
البلاغة:
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها بينهما طباق السلب.
المفردات اللغوية:
فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ اللام في موضع إلى، أي فلذلك الائتلاف والاتّفاق على الملّة الحنيفية ادع الناس يا محمد، واستقم عليه وداوم واثبت. وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ في تركه.
آمَنْتُ صدقت. لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ في الحكم والقضاء دون حيف ولا ميل لجانب: اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ، لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ فيجازي كلّا بعمله. لا حُجَّةَ لا احتجاج ولا خصومة، إذ الحق قد ظهر. اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا يوم القيامة لفصل القضاء. وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ المرجع.
يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ يخاصمون في دينه. اسْتُجِيبَ لَهُ استجاب الناس لدينه، ودخلوا فيه لظهور حجته ومعجزاته. داحِضَةٌ زائفة باطلة. وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ بمعاندتهم. وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ على كفرهم.
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ القرآن أو جنس الكتاب. وَالْمِيزانَ العدل والمساواة بين الناس. وَما يُدْرِيكَ يعلمك. لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ لعل إتيانها قريب. يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها يتساءلون استهزاء: متى تأتي؟ وظنّا منهم أنها غير آتية. مُشْفِقُونَ مِنْها خائفون منها مع العناية والاهتمام، والفعل (أشفق) إذا عدّي بمن كما هنا فالخوف أظهر، وإذا عدّي
بعلى، مثل: أشفقت على اليتيم، فالعناية أظهر. الْحَقُّ الأمر المحقق الكائن حتما. يُمارُونَ يجادلون. لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ عن الحق، فإن البعث أشبه الغيبيات إلى المحسوس، فمن لم يهتد إليه لتوافر الدواعي على الاعتقاد به، فهو أبعد عن الاهتداء إلى غيره.
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يتلطّف بهم جميعا، سواء البرّ منهم والفاجر، حيث رزقهم ولم يهلكهم بمعاصيهم. يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ من يريد، كما يشاء ويريد. الْقَوِيُّ الباهر القدرة.
الْعَزِيزُ المنيع الذي لا يغلب.
سبب النزول: نزول الآية (١٦) :
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ..: أخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قال المشركون بمكة لمن بين أظهرهم من المؤمنين.
قد دخل الناس في دين الله أفواجا، فاخرجوا من بين أظهرنا، فعلام تقيمون بين أظهرنا؟ فنزلت: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ الآية.
وأخرج عبد الرزاق عن قتادة في هذه الآية قال: هم اليهود والنصارى قالوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبيّنا قبل نبيّكم، ونحن خير منكم.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى وحدة الدّين في أصوله الأولى، أمر نبيّه بالدعوة إلى الاتفاق على الملّة الحنيفيّة، والاستقامة عليها والثبات على أحكامها، وأنهى المحاجّة والمخصومة بين المؤمنين والمشركين لوضوح الحجّة، ثم ذكر أن الذين يخاصمون في الدّين بعد الاستجابة إليه، حجّتهم زائفة باطلة، وأردفه استعجال المشركين استهزاء وإنكارا بيوم القيامة، وإيمان المؤمنين به حتما واستعدادهم له، وأن المماراة والشكّ فيه ضلال واضح، لكثرة الأدلّة على وقوعه.
التفسير والبيان:
اشتملت الآية الأولى: فَلِذلِكَ فَادْعُ.. على عشرة أوامر ونواه، كلّ منها مستقل بذاته، ولا نظير لها سوى آية الكرسي، فإنّها أيضا عشرة موضوعات. والأمر بهذه الأوامر والنهي عن هذه النواهي، وإن وجه إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فهي له ولأمته.
١- ٢: فَلِذلِكَ فَادْعُ، وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أي ادع أيها الرسول إلى ذلك الأمر المتفق عليه، واثبت وداوم واستمر على عبادة الله وتبليغ الرسالة، كما أمرت من ربّك، فيكون قوله: فَلِذلِكَ أي إلى ذلك، وتكون اللام بمعنى إلى، كقوله تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة ٩٩/ ٥].
ويصحّ أن يكون المراد باللام التعليل، أي فلأجل ذلك التّفرق والشّك المذكورين، ولأجل تلك الاختلافات المتشعبة في الدين، ادع إلى الاتفاق والائتلاف على الملّة الحنيفية القديمة، واستقم عليها وعلى الدعوة إليها كما أمرك الله، فتكون اللام على بابها للتعليل، والمعنى: فمن أجل ذلك المتقدّم ذكره فادع واستقم.
أو فلأجل ما شرعه الله من الدّين الواحد، فادع إلى الله وإلى توحيده، واستقم على ما دعوت إليه، واستمر على تبليغ الرسالة كما أمرت بذلك.
٣- وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ أي ولا تتبع أيها الرسول أهواء المشركين فيما اختلقوه وافتروه من عبادة الأوثان، ولا تتبع أيضا أهواء الذين أورثوا الكتاب فيما وقعوا فيه من شكوك وحيرة وتحريف وتبديل.
٤- وَقُلْ: آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ أي وقل أيها الرسول:
صدّقت بجميع الكتب المنزلة من السماء التي أنزلها الله على أنبيائه ورسله، من
التوراة والإنجيل والزّبور وصحف إبراهيم وموسى، لا نفرّق بين أحد منهم، فلست من الذين آمنوا ببعض الكتب، وكفروا ببعض، وهذا تعريض بأهل الكتاب (اليهود والنصارى) الذين حصل منهم ذلك.
٥- وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ أي وأمرني الله بأن أعدل بينكم في الحكم والقضاء إذا ترافعتم إلي، ولا أحيف عليكم بزيادة أو نقص.
٦- اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ أي الله هو المعبود بحقّ، لا إله غيره، فنحن نقرّ بذلك اختيارا، فهو إلهنا وإلهكم، وخالقنا وخالقكم.
٧- لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ أي إن ثواب أعمالنا وعقابها خاص بنا، ولكم ثواب أعمالكم وعقابها، فهو خاص بكم، ونحن برآء منكم ومن أعمالكم، كما قال تعالى: قُلْ: لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا، وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سبأ ٣٤/ ٢٥]، وقال سبحانه: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ: لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس ١٠/ ٤١].
٨- لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ أي لا خصومة بيننا وبينكم ولا احتجاج، لأن الحقّ قد ظهر ووضح كالشمس.
٩- ١٠: اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا، وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي الله يجمع بيننا في المحشر يوم القيامة، فيقضي بيننا بالحق في خلافتنا، كما قال تعالى: قُلْ: يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا، ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ، وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [سبأ ٣٤/ ٢٦]. وإليه وحده سبحانه المرجع والمآب يوم الحساب والقيامة، فيجازي كل نفس بما كسبت. قيل: إن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة، وقد سألا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يرجع عن دعوته ودينه إلى دين قريش، على أن يعطيه الوليد نصف ماله، ويزوجه شيبة بابنته.
ثم بيّن الله تعالى بطلان حجة المجادلين في دين الله، فقال:
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ، حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ، وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ أي والذين يخاصمون في دين الله من بعد ما استجاب الناس له، ودخلوا فيه، حجّتهم باطلة عند ربّهم، أي لا ثبات لها، كالشيء الذي يزلّ عن موضعه، وعليهم غضب عظيم من الله لمجادلتهم بالباطل، ولهم عذاب شديد يوم القيامة. وسميت دعاويهم الزائفة وأباطيلهم حجّة ودليلا، مجاراة لهم على زعمهم.
قال مجاهد: وهؤلاء قوم توهّموا أن الجاهلية تعود، فجادلوا الذين استجابوا للإسلام، لعلهم يردّونهم إلى الجاهلية.
وقال قتادة: هم اليهود والنصارى، ومحاجّتهم قولهم: نبيّنا قبل نبيّكم، وكتابنا قبل كتابكم. والظاهر هذا الرأي، روي أن اليهود قالوا للمؤمنين: ألستم تقولون: إن الأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف؟ فنبوّة موسى وحقيّة التوراة معلومة بالاتّفاق، ونبوّة محمد ليست متّفقا عليها، فوجب أن يكون الأخذ باليهودية أولى، فدحض تعالى هذه الحجة، لأن الإيمان بموسى عليه السلام إنما وجب لظهور المعجزات على يديه، للدلالة على صدقه، وقد ظهرت المعجزات على يدي محمد صلّى الله عليه وسلّم، فوجب الإقرار بنبوّته.
ثم ردّ تعالى عليهم بقوله:
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ أي لقد أنزل الله جميع الكتب المنزلة على الرّسل إنزالا مشتملا على الحقّ مقترنا به، وعلى أنواع الدلائل والبيّنات، وأنزل الميزان في كتبه المنزلة، أي العدل والتسوية والإنصاف، ليحكم به بين البشر، وسمي العدل ميزانا، لأن الميزان آلة الإنصاف والتّسوية بين الناس
في بيعهم وشرائهم، كقوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ، وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ، لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد ٥٧/ ٢٥].
وبعد تقرير هذه الدلائل خوّف الله تعالى المنكرين بعذاب القيامة، فقال:
وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ أي وما يعلمك أيها الرسول والمخاطب أن مجيء الساعة عسى أن يكون قريبا حصوله. وفي هذا ترغيب باتباع شرع الله، وترهيب من القيامة، وطلب الاستعداد لها.
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها أي يتعجّل بقدوم الساعة الذين لا يصدّقون بها، قائلين استهزاء وإنكارا وتكذيبا وعنادا: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟
وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أي والمؤمنون خائفون وجلون من وقوعها، ويعلمون أنها كائنة لا محالة، فهم عاملون من أجلها، مستعدون لها، كقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ [المؤمنون ٢٣/ ٦٠].
ثبت في حديث متواتر أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بصورت جهوري، وهو في بعض أسفاره، فناداه، فقال: يا محمد، فقال له نحوا من صوته: «هاؤم»، فقال له: متى الساعة؟ فقال له: «ويحك إنها كائنة، فما أعددت لها؟» فقال: حبّ الله ورسوله، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أنت مع من أحببت» أو «المرء مع من أحب».
أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي ألا أيها السامع، إن الذين يجادلون في وجود القيامة، ويخاصمون فيها مخاصمة شكّ وريبة، لفي جهل بيّن. وانحراف شديد عن الحقّ، ولو تفكّروا لعلموا أن الذي خلقهم ابتداء
قادر على الإعادة، ومن خلق السموات والأرض قادر على إحياء الموتى بطريق الأولى والأحرى، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم ٣٠/ ٢٧].
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ، يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ، وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ أي إن الله تعالى كثير اللطف بعباده، بالغ الرأفة بهم، فيوصل إليهم أعظم المنافع ومنها إنزال الكتاب المقترن بالحقّ، ويدفع عنهم أعظم المضار والبلايا ومنها تأخير العذاب عن الخلق، كما في الآيات المتقدمة، ومن ألطافه ومنافعه أنه يرزق جميع عباده، البرّ منهم والفاجر، يرزق من يشاء منهم كيف يشاء، فيوسع على هذا، ويضيق على هذا، وهو العظيم القوة، الباهر القدرة، الذي يغلب كل شيء، ولا يغلبه شيء، فلا يعجزه شيء.
ونحو الآية في الإمداد بالأرزاق قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها، كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [هود ١١/ ٦]، ونظائر أخرى كثيرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يلي:
١- النّبي صلّى الله عليه وسلّم ومن بعده كل مؤمن مأمور بالدعوة إلى ذلك الدين الذي شرعه الله للأنبياء ووصّاهم به، وإلى القرآن المتضمن تلك الشرائع، وهو مأمور أيضا بالاستقامة والثبات على تبليغ الرسالة والعمل بها، ومنهي عن اتّباع الأهواء والحظوظ النفسية وعدم الاهتمام بخلاف من خالف.
وهو مأمور كذلك بالعدل في الأحكام كما أمر الله، وبإعلان أن الله ربّ الناس جميعا، لا ربّ المسلمين وحدهم، ولا ربّ فئات أخرى وحدها، وأن كل
واحد مخصوص بعمل نفسه، وأن كل إنسان مسئول عن عمله، فلنا ديننا ولكم دينكم، ولا خصومة بيننا وبينكم، لأن البراهين قد ظهرت، والحجج قد قامت، فلم يبق إلا العناد، وبعد العناد لا حجّة ولا جدال.
والله سيجمع جميع الخلائق إليه يوم القيامة، وإليه المرجع، فهو يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، ويجازي كلّا بما كان عليه.
٢- إن المشركين واليهود والنصارى الذين يجادلون في دين الله، بعد انتشاره في الآفاق أو المشارق والمغارب، حجتهم باطلة زائفة لاثبات لها، وعليهم غضب من الله في الدنيا، ولهم عذاب شديد دائم في الآخرة.
٣- إن الله تعالى هو منزّل القرآن وسائر الكتب المنزلة مقترنة بالحق والصدق، ومنزل في كتبه العدل، وسمي العدل ميزانا، لأن الميزان- كما تقدم- آلة الإنصاف والعدل.
٤- وردت في القرآن آيات كثيرة للترغيب والترهيب تدلّ على قرب يوم القيامة وتحقق وقوعها حتما لا محالة.
٥- إن شاء الكفار دائما ومعهم الملاحدة والماديون والطبيعيون ينكرون وقوع القيامة استهزاء وكفرا وعنادا وتكذيبا بها، ظنّا منهم أنها غير آتية، أو إيهاما للضّعفة أنها لا تكون.
وعقيدة المؤمن: الإيمان الجازم بمجيء القيامة، فهي الحقّ الذي لا شكّ فيه، وهم دائما يعملون لها ويستعدون من أجلها، خوفا من أهوالها، وحساب الله الشديد فيها.
وإن الذين يشكون ويخاصمون في قيام الساعة لفي ضلال بعيد عن الحق