وتتمثل أيضا في إظهار الآيات الكونية الدالة على وحدانية الله وقدرته، فكيف يسوغ لإنسان عاقل إنكار هذه الآيات الباهرة؟
وإذا كنتم أيها المشركون لا تنكرون أن هذه الأشياء من الله، فلم تنكرون قدرته على البعث والنشر؟! أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها [النازعات ٧٩/ ٢٧- ٢٨] ؟! وإن تلك الآيات كثيرة لا يمكن إنكار شيء منها عقلا.
تهديد المكذبين المجادلين في آيات الله وتركهم الشرك حين رؤية العذاب
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٨٢ الى ٨٥]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥)
الإعراب:
كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَيْفَ: خبر مقدم لكان وعاقِبَةُ:
اسمها المؤخر، ومِنْ قَبْلِهِمْ صلة الموصول.
فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ما الأولى: نافية أو استفهامية منصوبة بأغنى، والثانية: موصولة أو مصدرية مرفوعة به.
فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ مِنَ: للتبيين، أي تبيين «ما» أي فرحوا بالشيء الذي عندهم من العلم. أو تبيين «البينات» وفي الآية تقديم وتأخير، والتقدير: فلما جاءتهم رسلهم بالبينات من العلم، فرحوا بما عندهم. والأوجه هو الأول.
سُنَّتَ اللَّهِ منصوب على المصدر، بفعل مقدر من لفظه، أي سن الله ذلك سنة ماضية في العباد، وهي من المصادر المؤكدة بمنزلة «وعد الله» وما أشبهه من المصادر المؤكدة.
البلاغة:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ.. ؟ استفهام للإنكار، إنكار عدم السير المترتب عليه النظر السليم.
المفردات اللغوية:
كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ.. استئناف مبين لحالهم وَآثاراً فِي الْأَرْضِ ما أبقوه من القصور والمصانع والحصون ونحوها بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات والآيات الواضحات فَرِحُوا أي الكفار فرح استهزاء وضحك، متنكرين له بِما عِنْدَهُمْ عند الرسل مِنَ الْعِلْمِ أي واستحقروا علم الرسل، والمراد بالعلم: عقائدهم الزائغة وشبههم الداحضة، وسماها علما على زعمهم تهكما بهم، والآية كقوله تعالى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ [النحل ١٦/ ٦٦] أي تكامل واستحكم علمهم بأحوالها في الآخرة، وهو تهكم بهم لفرط جهلهم بها، وعلمهم: هو قولهم: لا نبعث ولا نعذب، وما أظن الساعة قائمة، ونحوها.
وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي نزل بهم ما هزئوا به من العذاب، وهذا يؤيد أن المراد بفرحهم: استهزاؤهم بالرسول وضحكهم منه بَأْسَنا شدة عذابنا وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ يعنون الأصنام فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ أي لم يصح ولم يستقم، لامتناع قبوله سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ أي سن الله ذلك سنة ماضية في العباد أو الأمم ألا ينفعهم الإيمان وقت نزول العذاب وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ تبين خسرانهم لكل أحد، وهم خاسرون في كل وقت قبل ذلك. وهُنالِكَ أي وقت رؤيتهم البأس، وهو اسم مكان أستعير للزمان.
وسبب ترادف الفاءات هو كما أبان الزمخشري: أما قوله تعالى: فَما أَغْنى عَنْهُمْ فهو نتيجة لقوله: كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ. وأما قوله: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فهو كالتفسير
والبيان لقوله تعالى: فَما أَغْنى عَنْهُمْ كقولك: رزق زيد المال، فمنع المعروف، فلم يحسن إلى الفقراء. وقوله: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا تابع لقوله: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ كأنه قال: فكفروا، فلما رأوا بأسنا آمنوا، لأن رؤية البأس مسببة عن مجيء الرسل. وكذلك فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ تابع لإيمانهم لما رأوا بأس الله، وامتناع نفع الإيمان مسبب عن رؤية البأس «١».
المناسبة:
اشتملت السورة على فصلين: فصل في دلائل الألوهية وكمال القدرة والرحمة والحكمة، وفصل في التهديد والوعيد، وهذه الآيات التي ختمت بها السورة متعلقة بالفصل الثاني في تهديد الكفار الذين يجادلون في آيات الله، المتكبرين على رسله المكذبين لهم، اغترارا منهم بدنياهم وأموالهم وأولادهم، وطلبا للرياسة والجاه، وهو تهديد يبين نهاية من هم أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا، فلم ينفعهم شيء من ذلك حين حلول بأس الله، بل إن إيمانهم بالله وتركهم الشرك حين رؤية البأس لم ينفعهم أيضا.
التفسير والبيان:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ، وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي أفلم يسر في البلاد هؤلاء المجادلون في آيات الله من المشركين، فينظروا في أسفارهم كيف كان مصير الأمم السابقة التي عصت الله، وكذبت رسلها، ويشاهدوا آثارهم الموجودة في ديارهم التي تدل على ما نزل بهم من عقوبة وعذاب شديد، مع أنهم كانوا أكثر من مشركي قريش عددا، وأقوى منهم أجسادا، وأوسع منهم أموالا، وأبقى في الأرض آثارا بالعمائر والمصانع والحصون والمزارع والسدود، ونحو ذلك من مظاهر الحضارة والعمران والفن والعلوم.
فلما حل بهم العذاب لم يغن عنهم كل ما عملوه في دنياهم من مكاسب وجاه، ولم ينفعهم ما لهم ولا أولادهم، ولا رد عنهم أمر الله، أو نزول العذاب الشديد بهم، ولا أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم.
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي فلما جاءت الرسل بالحجج الواضحات والمعجزات الظاهرات إلى تلك الأمم المكذبة، لم يلتفتوا إليهم، ولا أقبلوا عليهم، واستغنوا بما عندهم من العلم، أي الشبهات الداحضة والدعاوي الزائغة التي ظنوها علما نافعا لهم، مثل قولهم: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية ٤٥/ ٢٤] وقولهم: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا [الأنعام ٦/ ١٤٨] وقولهم: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس ٣٦/ ٧٨] وفرحوا بهذه الترهات والأباطيل، لأنهم كما قال تعالى:
يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الروم ٣٠/ ٧].
ولكن نزل وأحاط بهم ما كانوا يكذبون به ويستبعدون وقوعه وهو العذاب، استهزاء وسخرية، أي نزل بالكفار عقاب استهزائهم برسالات الرسل.
وقد سمى الله تعالى ما عندهم من العقائد الزائفة والشبه الداحضة «علما» تهكما بهم واستهزاء منهم، كما تقدم.
ثم صوّر تعالى ما يكون من شأن الإنسان حين تطبيق العقاب عليه، فقال:
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا، قالُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ أي فلما عاينوا وقوع العذاب بهم، صدقوا بالله ووحدوه، وكفروا بمعبوداتهم الباطلة التي اتخذوها شركاء لله، وهي الأصنام التي كانوا يعبدونها، ولكن لم ينفعهم ذلك الإيمان، ولم تنفعهم المعذرة، كما قال تعالى:
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا أي لم يصح ولم يستقم أن إيمانهم ينفعهم عند معاينة عذابنا، لأن ذلك الإيمان ليس بالإيمان النافع لصاحبه، فهو
إيمان اضطراري عن إكراه، وإنما ينفع الإيمان الاختياري، لا الإيمان الاضطراري، لأنه عند معاينة الأمر الحتمي لا يبقى للتكليف مجال، فالكل يؤمن حينئذ، وهكذا لا ينفع الإيمان عند رؤية العذاب أو الموت أو الغرق أو في الآخرة، ولم يكن الشخص آمن في الدنيا.
وهذا كما فرعون حين أدركه الغرق: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ، وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فقال الله تعالى: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ، وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس ١٠/ ٩٠- ٩١] فلم يقبل الله منه إيمانه.
ثم ذكر الله تعالى حكما عاما، فقال:
سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ، وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ أي إن هذا حكم الله في جميع من تاب عند معاينة العذاب أنه لا يقبل، وإن الله سبحانه سن هذه السنة في الأمم كلها أنه لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب.
وخسر الكفار وقت رؤيتهم بأس الله ومعاينتهم لعذابه، والكافر خاسر في كل وقت، ولكنه يتبين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب.
جاء في الحديث الثابت: «إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» «١»
أي فإذا غرغر، وبلغت الروح الحنجرة، وعاين الملك، فلا توبة حينئذ، ولهذا قال تعالى هنا: وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ وقال: وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ [غافر ٤٠/ ٧٨]. فليحذر الكافر والمقصر، وليتدارك الأمر قبل فوات الأوان، ولات ساعة مندم.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- إن آثار تدمير الأمم الغابرة بسبب كفرهم وتكذيبهم الرسل عبرة
للمعتبر، فلو سار الناس في نواحي الأرض، لعرفوا أن عاقبة المتكبرين المتمردين، ليست إلا الهلاك والبوار والدمار، مع أنهم كانوا أكثر عددا ومالا وجاها من هؤلاء المتأخرين، والدنيا كلها فانية ذاهبة، فلا يغترن أحد بمال ولا جاه ولا سلطان.
٢- كان سبب تدمير أولئك الأقوام في الماضي هو تكذيبهم رسلهم الذين جاءوهم بالمعجزات والآيات الواضحات، وفرحهم بعقائدهم الزائفة وشبههم الباطلة، مثل قولهم: لن نعذب ولن نبعث، واستهزاؤهم بما جاء به الرسل، فأحدق بهم العقاب من كل جانب.
٣- لقد آمن هؤلاء المشركون بالله وحده، وكفروا بالأوثان التي أشركوها في العبادة مع الله، عند رؤية العذاب.
٤- ولكن الإيمان بالله عند معاينة العذاب، وحين رؤية البأس لا ينفع ولا يفيد صاحبه.
٥- سنّ الله عز وجل في الكفار أنه لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب، وأضحى عدم قبول الإيمان حال اليأس من النجاة سنة الله المطردة في كل الأمم.
٦- والغاية أن يحذر أهل مكة وغيرهم من المشركين سنة الله في إهلاك الكفرة، وأن يعلموا أن الإيمان وقت رؤية الهلاك لا ينفع، وأن ما يدّعونه من علم وحضارة لا يغني عن دين الله ورسالة الأنبياء، فشريعة الله هي الأصح.
٧- ليعلم أولئك الذين يصفون شريعة الإسلام بالهمجية والوحشية والقسوة، وهم الذين احتضنوا أفكار الغرب غير الدينية، وآمنوا بالقوانين الوضعية الحديثة، وأحلوها محل شريعة الله تعالى، ليعلموا أنهم جهلة بهذه الشريعة، وأنهم كفروا بالإسلام من حيث لا يشعرون، وأن بواعث تحضّرهم،
وادعاءهم إرادة التقدم والمدنية والأخذ بمعطيات الحضارة الحديثة يؤدي لهدم شرع الله تعالى. ولو فهموا هذا الشرع بدقة لحقق لهم كل ما يريدون ضمن ضوابط شاملة، ولم يتورطوا بوصف الشريعة الإسلامية بأنها من الشرائع البدائية أو التقليدية في أنظمة المعاملات المدنية أو الجنائية أو قواعد الإثبات، فإن التزام قواعد الشريعة خير وأحكم وأمنع مما يعيش به مجتمع القرن العشرين من فقد الأمن وكثرة الجريمة وانحلال القيم والأخلاق، وإن قواعد الإثبات فيها أولى من إعطاء حرية الإثبات المطلقة لتقدير القاضي وقناعته الشخصية، فذلك قد يؤدي إلى إهدار الحقوق، وتجريم البريء.
صفحة رقم 178
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة فصّلت أو: السجدةمكيّة، وهي أربع وخمسون آية.
تسميتها:
سمّيت سورة فصلت لافتتاحها بقوله تعالى: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ.. وقد فصّل الله تعالى فيها الآيات، وأوضح الأدلة والبراهين على وجوده وقدرته ووحدانيته، من خلقه هذا الكون العظيم وتصرفه فيه. وتسمى أيضا حم، السجدة لأن رسول الله ص عند قراءة أولها على زعماء قريش حتى انتهى إلى السجدة منها، سجد.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبتها لما قبلها وهي سورة غافر من وجهين:
الأول- افتتاح كلتيهما بوصف الكتاب الكريم وهو القرآن العظيم.
الثاني- اشتراكهما في تهديد ووعيد وتقريع المشركين المجادلين في آيات الله في مكة وغيرها، ففي آخر السورة المتقدمة توعدهم بقوله: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ [٨٢]، وفي القسم الأول من هذه السورة هددهم مرة أخرى بقوله:
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [١٣]. وهذا كله مناسب لآخر سورة المؤمن من عدم انتفاع مكذّبي الرّسل حين رؤية العذاب، كما صفحة رقم 179
أن قريشا لم ينتفعوا حينما حلّ بصناديدهم القتل والأسر والنهب والسّبي، واستؤصلوا مثلما حلّ بعاد وثمود من استئصال.
مشتملاتها:
موضوع هذه السورة مثل موضوع باقي السّور المكية وهو إثبات أصول العقيدة: «الوحدانية، الرّسالة والوحي، البعث والجزاء».
ابتدأت بوصف القرآن العظيم بأنه المنزّل من عند الله بلسان عربي مبين، والذي يبيّن أدلة قدرة الله وتوحيده، وكونه المبشّر المنذر، والذي يثبت صدق النّبي محمد ص فيما جاء به من عند ربّه.
وأبانت موقف المشركين وإعراضهم عن تدبّره، وقررت حقيقة الرسول ص وأنه بشر خصّه الله تعالى بالوحي المتضمن إعلان وحدانية الله عزّ وجلّ، وإيضاح جزاء الكافرين وجزاء المؤمنين الذين عملوا الصالحات.
ثم أنكرت على المشركين الكفر، وأقامت الأدلة على وحدانية الله من خلق السموات والأرض، وأنذرتهم بإنزال عقاب مماثل لعقوبة الأمم الغابرة، كعاد وثمود الذين أهلكوا ودمرت ديارهم بسبب تكذيب رسل الله، ولكن بعد إنجاء المؤمنين المتّقين.
وحذّرت من حساب القيامة، وأخبرت بأن أعضاء الإنسان تشهد عند الحشر على أصحابها، وأن قرناء السوء زيّنوا لهم أعمالهم، وأنّهم هم صدّوا عن سبيل الله ودينه، وقالوا: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ وطلبوا إهانة من أضلوهم ليكونوا من الأسفلين.
وفي مواجهة أولئك أشاد تعالى بأهل الاستقامة وبشّرهم بالجنة والكرامة، ووصف من يلقّى الجنة وهم الصابرون على طاعة الله تعالى.
ثم عاد الله تعالى إلى إيراد أدلة أخرى من إيجاد العالم العلوي والسفلي على وجود الله ووحدانيته وقدرته، وبيان إحكام القرآن وكونه كتاب هداية وشفاء ورحمة، وأن من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها دون جور ولا ظلم.
وأعقب ذلك التعريف بعلم الله المحيط بكل شيء، والإشارة لعظيم قدرته، والكشف عن طبع الإنسان من التّكبر عند الرّخاء، والتّضرع عند الشدة والعناء.
وختمت السورة بوعد الله أن يطلع الناس في كل زمان على بعض أسرار الكون والتّعرف على آيات الله في الآفاق والأنفس الدالة على الوحدانية والقدرة الإلهية، ثم ذكرت أن المشركين يشكون في البعث والحشر، ولكن الله محيط بهم وبكل شيء، وذلك ردّ حاسم عليهم.
فضلها:
أخرج الإمام العالم عبد بن حميد في مسنده وأبو يعلى والبغوي وغيرهم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «اجتمعت قريش يوما، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي قد فرّق جماعتنا، وشتّت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه ولننظر ماذا يردّ عليه. فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة.
فقالوا: ائته يا أبا الوليد، فأتاه عتبة فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله؟
فسكت رسول الله ص، فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله ص، فقال عتبة: إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك، فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم، فتكلّم حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرّقت جماعتنا، وشتّت أمرنا، وعبت ديننا وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن
في قريش كاهنا، والله، ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفاني.
أيها الرّجل، إن كان إنما بك الحاجة، جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا واحدا، وإن كان إنما بك الباءة «١»، فاختر أي نساء قريش شئت، فلنزوجك عشرا؟ فقال رسول الله ص:
فرغت؟ قال: نعم، فقال رسول الله ص:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ..- حتى بلغ-: فَإِنْ أَعْرَضُوا، فَقُلْ: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فقال عتبة: حسبك حسبك، ما عندك غير هذا؟ فقال رسول الله ص: لا.
فرجع إلى قريش، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمون به إلا كلمته، قالوا: فهل أجابك؟ قال: نعم، لا، والذي نصبها بنية (أي الكعبة) ما فهمت شيئا مما قاله غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، قالوا: ويلك، يكلّمك الرجل بالعربية، لا تدري ما قال، قال: لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة».
وفي رواية البغوي: «والله لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا، ولكني أتيته، وقصصت عليه القصة، فأجابني بشيء، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، وقرأ السورة إلى قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ».
وفي رواية محمد بن إسحاق في سيرته: «قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟