ولما كانوا في الدنيا قد جمعت أيديهم إلى أذقانهم بجوامع السطوة، ثم وصلت بسلاسل القهر يساقون بها عن مقام الظفر بالنجاح إلى أهويات الكفر بالجدال بالباطل ومهامه الضلال المبين كما قال تعالى ﴿إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً﴾ [يس: ٨] الآية، فجعل باطن تلك السلاسل الدنيوية
صفحة رقم 113والأغلال ظاهراً في ذلك المجمع قال: ﴿إذ﴾ أي حين تكون ﴿الأغلال﴾ جمع غل، قال في ديوان الأدب، هو الذي يعذب به الإنسان. وقال القزاز: الغل من الحديد معروف، ويكون من القد، وقال في النهاية: هو الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه، ويقال لها جامعة أيضاً - انتهى. وأصله الإدخال، يدخل فيه العنق واليد فتجمعان به، وذلك معنى قول الصغاني في مجمع البحرين: في رقبته غل من حديد، وقد غلت يده إلى عنقه ﴿في أعناقهم﴾ أي جامعة لأيديهم إلى تراقيهم، وعبر بإذ ومعناها المضي مع سوف ومعناها الاستقبال، لأن التعبير بالمضي إنما هو إشارة إلى تحقق الأمر مع كونه مستقبلاً ﴿والسلاسل﴾ أي في أعناقهم أيضاً يقيدهم ذلك عن كل تصرف لكونهم لم يتقيدوا بكتاب ولا رسول، والسلسلة من: تسلسل الشيء: اضطرب، قال الراغب: كأنه تصور منه تسلسل متردد، فردد لفظه تنبيهاً على تردد معناه، وما سلسل متردد في مقره حتى صفا، حال كونهم ﴿يسحبون *﴾ أي بها، والسحب: الجر بعنف ﴿في الحميم *﴾ أي الماء الحار الحاضر الذي يكسب الوجوه سواداً، والأعراض عاراً، والأرواح
صفحة رقم 114
عذاباً والأجسام ناراً، والقلوب هماً واللحوم ذوباناً واعتصاراً، وذلك عوض ترفيعهم لأنفسهم عن سحبها بأسباب الأدلة الواضحات في كلف العبادات ومرارات المجاهدات وحرارات المنازلات.
ولما أخبر عن تعذيبهم بالماء الحار الذي من شأنه أن يضيق الأنفاس، ويضعف القوى، ويخفف القلوب، أخبر بما هو فوق ذلك فقال: ﴿ثم في النار﴾ أي عذابها خاصة ﴿يسجرون *﴾ أي يلقون فيها وتوقد بهم مكردسين مركوبين كما يسجر التنور بالحطب - أي يملأ - وتهيج ناره، وكما يسجر - أي يصب - الماء في الحلق، فيملؤونها فتحمى بهم ويشتد اضطرامها لكونهم كانوا في الدنيا وقود المعاصي، والفتن بهم يشب وقودها ويقوى عودها، ويثبت عمودها، لأنهم لم يلقوا أنفسهم في نيران الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومخالفات الشهوات في أبواب الأوامر والنواهي، التي هي في الظاهر نيران، وفي الحقيقة جنان.
ولما كان المدعو إنما يدخر لأوقات الشدائد، قال موبخاً لهم مندماً مقبحاً لقاصر نظرهم لأنفسهم بانياً للمفعول لأن المنكىء هذا القول
مطلقاً لا لكونه من قائل معين: ﴿ثم قيل لهم﴾ أي بعد أن طال عذابهم، وبلغ منهم كل مبلغ، ولم يجدوا ناصراً يخلصهم ولا شافعاً يخصصهم: ﴿أين﴾ والتعبير عنهم بأداة ما لا يعقل في أحكم مواضعه في قوله: ﴿ما كنتم﴾ أي دائماً ﴿تشركون *﴾ أي بدعائكم لهم في مهماتكم دعاء عبادة مع تجديده في كل وقت؛ ثم بين سفولهم بقوله لافتاً القول عن مظهر العظمة إلى أعظم منه فقال: ﴿من دون الله﴾ أي المحيط بجميع العز وكل العظمة، لتطلبوا منهم تخليصكم مما أنتم فيه أو تخفيفه: ﴿قالوا﴾ أي مسترسلين مع الفطرة وهي الفطرة الأولى على الصدق: ﴿ضلوا عنا﴾ فلا نراهم كما ضللنا نحن في الدنيا عما ينفعنا.
ولما رأوا أن صدقهم قد أوجب اعترافهم بالشرك، دعتهم رداءة المكر ورذالة الطباع إلى الكذب، فاسترسلوا معها فبادروا أن أظهروا الغلظ فقالوا ملبسين على من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ظانين أن ذلك ينفعهم كما كان ينفعهم عند المؤمنين في دار الدنيا: ﴿بل لم نكن ندعو﴾ أي لم يكن ذلك في طباعنا. ولما كان مرادهم نفي دعائهم أصلاً ورأساً في لحظة فما فوقها، لا النفي المقيد بالاستغراق، فإنه لا ينفي ما دونه، أثبتوا الجار فقالوا: ﴿من قبل﴾ أي قبل هذه
الإعادة ﴿شيئاً﴾ لنكون قد أشركنا به، فلا يقدرهم الله إلا على ما يزيد في ضرهم ويضاعف ندمهم ويوجب لعن أنفسهم ولعن بعضهم بعضاً بحيث لا يزالون في ندم كما كان حالهم في الدنيا ﴿انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون﴾ [الأنعام: ٢٤] فالآية من الاحتباك: ذكر الإشراك أولاً دليلاً على نفيهم له ثانياً، والدعاء ثانياً دليلاً على تقديره أولاً.
ولما كان في غاية الإعجاب من ضلالهم، كان كأنه قيل: هل يضل أحد من الخلق ضلال هؤلاء، فأجيب بقوله: ﴿كذلك﴾ أي نعم مثل هذا الضلال البعيد عن الصواب ﴿يضل الله﴾ أي المحيط علماً وقدرة، عن القصد النافع من حجة وغيرها ﴿الكافرين *﴾ أي الذين ستروا مرائي بصائرهم لئلا يتجلى فيها ثم صار لهم ذلك ديدناً.
ولما تم جواب السؤال عن التعجب من هذا الضلال، رجع إلى خطاب الضلال فقال معظماً لما ذكر من جزائهم بأداة البعد وميم الجمع نصاً على تقريع كل منهم: ﴿ذلكم﴾ أي الجزاء العظيم المراتب، الصعب المراكب الضخم المواكب ﴿بما كنتم﴾ أي دائماً ﴿تفرحون﴾ أي تبالغون في السرور وتستغرقون فيه وتضعفون عن حمله للإعراض عن العواقب. ولما كانت الأرض سجناً، فهي في الحقيقة
دار الأحزان، حسن قوله: ﴿في الأرض﴾ أي ففعلتم فيها ضد ما وضعت له، وزاد ذلك حسناً قوله: ﴿بغير الحق﴾ فأشعر أن السرور لا ينبغي إلا إذا كان مع كمال هذه الحقيقة، وهي الثبات دائماً للمفروح به، وذلك لا يكون إلا في الجنة ﴿وبما﴾ أي وبسبب ما ﴿كنتم تمرحون *﴾ أي تبالغون في الفرح مع الأشر والبطر والنشاط الموجب الاختيال والتبختر والخفة بعدم احتمال الفرح.
ولما كان السياق لذم الجدال، وكان الجدال إنما يكون عن الكبر، وكان الفرح غير ملازم للكبر، لم يسبب دخول النار عنه، بل جعله كالنتيجة لجميع ما مضى فقال: ﴿ادخلوا﴾ أي أيها المكذبون.
ولما كان في النار أنواع من العذاب، دل على تعذيبهم بكل نوع بذكر الأبواب جزاء على ما كانوا يخوضون بجدالهم في كل نوع من أنواع الأباطيل فقال: ﴿أبواب جهنم﴾ أي الدركة التي تلقي صاحبها بتكبر وعبوسة وتجهم ﴿خالدين فيها﴾ أي لازمين لما شرعتم فيه بالدخول من الإقامة لزوماً لا براح منها أصلاً.
ولما كانت نهاية في البشاعة والخزي والسوء، وكان دخولهم فيها مقروناً بخلودهم سبباً لنحو أن يقال: فهي مثواكم، تسبب عنه قوله: ﴿فبئس مثوى﴾ دون أن يقال: مدخل ﴿المتكبرين *﴾ أي موضع
إقامتهم المحكوم بلزومهم إياه لكونهم تعاطوا ما ليس لهم، ولا ينبغي أن يكون إلا الله يقول الله تعالى: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعنيهما قصمته» ولم يؤكد جملة ﴿بئس﴾ هنا لأن مقاولتهم هذه بنيت على تجدد علمهم في الآخرة بأحوال النار، وأحوال ما سببها، والتأكيد يكون للمنكر ومن في عداده، وحال كل منهما مناف للعلم، وزاد ذلك حسناً أن أصل الكلام مع الأعلم للسر الذي تقدم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبعد جداً من التأكيد. ولما كان هذا في الجزاء أعظم الشماتة بهم، فكان فيهم أعظم التسلية لمن جادلوه وتكبروا عليه، سبب عنه قوله: ﴿فاصبر﴾ أي ارتقاباً لهذه النصرة، ثم علل بقوله مؤكداً لأجل تكذيبهم بالوعد: ﴿إن وعد الله﴾ أي الجامع لصفات الكمال ﴿حق﴾ أي في نصرتك في الدارين فلا بد من وقوعه، وفيه أعظم تأسية لك ولذلك سبب عنه مع صرف القول إلى ما يأتي الاعتراض إشارة إلى أنه لا يسأل عما يفعل، قوله تعالى: ﴿فإما نرينك﴾ وأكده ب «ما» والنون ومظهر العظمة لأنكارهم لنصرته عليهم ولبعثهم ﴿بعض الذي نعدهم﴾ أي بما لنا من العظمة مما يسرك فيهم من عذاب أو متاب قبل وفاتك، فذاك إلينا وهو علينا هين.
ولما ذكر فعل الشرط وحذف جوابه للعلم به، عطف عليه قوله:
﴿أو نتوفينَّك﴾ أي قبل أن ترى ذلك فيهم وأجاب هذا المعطوف بقوله: ﴿فإلينا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿يرجعون *﴾ أي معي في الدنيا فتريهم بعد وفاتك من نصر أصحابك عليهم بما تسرك به في برزخك فإنه لا بقاء لجولة باطلهم، وحساً في القيامة فنريك فيهم فوق ما تؤمل من النصرة المتضمنة لتصديقك وتكذيبهم، وإكرامك وإهانتهم، والآية من الاحتباك: ذكر الوفاة ثانياً دليلاً على حذفها أولاً، والرؤية أولاً دليلاً على حذفها ثانياً.
ولما قسم له الله سبحانه الحال إلى إصابتهم أو وفاته (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وكان قد بقي مما هو أقر لعينه وأشفى لصدره أن يريهم في حياته آية تلجئهم إلى الإيمان، وتحملهم على الموافقة والإذعان، فيزول النزاع بحسن الاتباع، كما وقع لقوم يونس عليه الصلاة والسلام، قال عاطفاً على ما تقديره في تعليل الأمر بالصبر، فلقد أرسالناك إليهم ولننفذن أمرنا فيهم، وأما أنت فما عليك إلا البلاغ: (ولقد أرسلنا) أي على ما لنا من العظمة) رسلاً) أي بكثرة.
ولما كان الإرسال إنما هو في بعض الزمان الماضي وإن كان بلوغ رسالة كل لمن بعده موجبة لانسحاب حكم رسالته إلى مجيء الرسول الذي يقفوه، أثبت الجار لإرادة الحقيقة فقال: (من قبلك) أي إلى أممهم ليبلغوا عنا ما أمرناهم به:
(منهم من قصصنا) أي بما لنا من الإحاطة) عليك) أي أخبارهم وأخبار أممهم) ومنهم من لم نقصص (وإن كان لنا العلم التام والقدرة الكاملة) عليك (لا أخبارهم ولا أخبار أممهم ولا ذكرناهم لك بأسمائهم) وما) أي أرسلناهم والحال أنه ما) كان لرسول (أصلاً) أن يأتي بآية) أي ملجئة أو غير ذلك مما يجادل فيه قومه أو يسلمون استعجالاً لاتباع قومه له، أو اقتراحاً من قومه عليه أو غير ذلك مما يجادل فيه قومه أو يسلمون له أو ينقادون، وصرف الكلام عن المظهر المشير إلى القهر إلى ما فيه - مع الإهانة - الإكرام فقال: (إلا بإذن الله) أي بأمره وتمكينه، فإن له الإحاطة بكل شيء، فلا يخرج شيء عن أمره، فإن لم يأذن في ذلك رضوا وسلموا وصبروا واحتبسوا، وإن أذن في شيء من ذلك من عذاب أو آية ملجئة أو غير ذلك جاءهم ما أذن فيه) فإذا جاء (وزادالأمر عظماً لمزيد الخوف والرجاء بالإظهار دون الإضمار فقال: (أمر الله) أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً، وأمره ما توعد به من العذاب عند العناد بعد الإجابة إلى المقترح، ومن القيامة وما فيها، وتكرير الاسم الأعظم لتعظيم المقام باستحضار ما له من صفات الجلال والإكرام، ولثبات ما أراد ولزومه عبر عنه
صفحة رقم 121بالقضاء، فقال مشعراً بصيغة المفعول بغاية السهولة: (قُضَي) أي بأمره على أيسر وجه وأسلهه) بالحق) أي الأمر الثابت الذي تقدم الوعد به وحكم بثبوته من إهلاك ناس وإنجاء آخرين أو إيمان قوم وكفر آخرين - وهذا كله هو الذي أجرى سبحانه سنته القديمة بثبوته، واما الفضل من الإمهال والتطول بالنعم فإنما هو قبل الإجابة إلى المقترحات، والدليل على أن هذا من مراد الآية ما يأتي من قوله: (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا (وما أشبهه) وخسر) أي هلك أو تحقق وتبين بالمشاهدة أنه خسر) هنالك) أي في ذلك الوقت العظيم بعظمة ما أنزلنا فيه، ظرف مكان استعير للزمان إيذاناً بغاية الثبات والتمكن في الخسارة تمكن الجالس) المبطلون) أي المنسوبون إلى إيثار الباطل على الحق، إما باقتراح الآيات مع إيتانهم بما يغنيهم عنها وتسميتهم له سحراً أو بغير ذلك، إما بتيسرهم على الرجوع عما هم فيه من العناد من غير إذعان وإما الهلاك، وإما بإدحاض الحجج والحكم عليهم بالغلب ثم النار ولو بعد حين، ومن هذه الآية أخذ سبحانه في رد مقطع السورة على مطلعها، فهذه الآية ناظرة إلى قوله تعالى) وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه () وما كان لرسول أن يأتي بآية (إلى) وجادلوا بالباطل
صفحة رقم 122
(و) أفلم يسيروا في الأرض (إلى) فأخذتهم فكيف كان عقاب (وهذا وما بعده مما اشتمل عليه من الحكمة والقدرة إلى الثلاث الآيات الأول.
ولما كان المبطلون ليسوا أشد ولا أقوى من بعض الحيوانات العجم، دل على ما أخبر به من نافذ نصرته فيهم بقوله مذكراً لهم نعمته مستعطفاً إلى طاعته دالاً على التوحيد بعد تليينهم بالوعيد مظهراً الاسم الجامع إشارة إلى أن هذه الآية من الدلالات لا يحصى: (الله) أي الملك الأعظم) الذي جعل لكم (لا غيره) الأنعام) أي الأزواج الثمانية بالتذليل والتسخير) لتركبوا منها (وهي الإبل مع قوتها ونفرتها، والتعبير باللام في الركوب مطلقاً ثم فيه مقيداً ببلوغ الأماكن الشاسعة إشارة إلى أن ذلك هو المقصود منها بالذات، وهو الذي اقتضى تركيبها على ما هي عليه، فنشأ منه بقية المنافع فكانت تابعة.
ولما كان الاقتيات منها - في عظيم نفعه وكثرته وشهوته - بحيث لا يناسبه غيره، عد الغير عدماً فقال تعالى: (منها) أي من الأنعام كلها) تأكلون (بتقديم الجار.
ولما كان التصرف فيها غير منضبط، أجمله بقوله: (ولكم فيها) أي كلها) منافع) أي كثيرة بغير ذلك في الدر والوبر والصوف وغيرها.
ولما كان سوقها وبلوغ الأماكن الشاسعة عليها في أقرب مدة لنيل الأمور الهائلة عظيم الجدوى جداً، نبه على عظمته بقطعه
عما قبله بإجمال المنافع ثم تفصيله منه فقال: (ولتبلغوا) أي مستعلين) عليها (وهي في غاية الذل والطواعية، ونبههم على نقصهم وعظيم نعمته عليهم بقوله: (حاجة) أي جنس الحاجة.
ولما كان في مقام التعظيم لنعمه لأن من سياق الامتنان وإظهار القدرة وحدها وجمع ما تضمر فيه فقال: (في صدوركم (إشارة إلى أن حاجة واحدة ضاقت عنها قلوب الجميع حنى فاضت منها فملأت مساكنها.
ولما كان الحمل يكون مع مطلق الاستعلاء سواء كان على أعلى الشيء أولاً بخلاف الركوب، قال معبراً بأداة الاستعلاء فيها وفي الفلك غير سفينة نوح عليه الصلاة والسلام، فإنهاكانت مغطاة كما حكي فكانوا في بطنها لا على ظهرها: (وعيلها) أي في البر) وعلى الفلك) أي في البحر) تحملون) أي تحمل لكم أمتعتكم فإن حمل الإنسان نفسه تقدم بالركوب.
وأشار بالنباء للمفعول أنه سخر ذلك تسخيراً عظيماً لا يحتاج معه إلى علاج في نفس الحمل.
ولما كانت هذه آية عظيمة جعلها سبحانه مشتملة على آيات كثيرة، عبر فيها بالماضي وعطف بالمضارع تنبيهاً على ما تقديره: فأراكم هذه الآيات البينات منها، قوله: (ويريكم) أي في لحظة) آياته) أي الكثيرة الكبيرة فيها وفي غيرها من أنفكسم ومن الآفاق، ودل على كثرة الآيات وعظمتها بإسقاط تاء التأنيث كما هو المستفيض
في غير النداء بإظهار الاسم الأعظم في قوله: (فأيّ آيات الله) أي المحيط بصفات الكمال) تنكرون (حتى تتوجه لكم المجادلة في آياته التي من أوضحها البعث.
ولما وصل الأمر إلى حد من الوضوح لا يخفى على أحد، تسبب عنه لفت الخطاب عنهم دلالة على الغضب الموجب للعقاب المقتضي للرهيب فقال: (أفلم
سيروا) أي هؤلاء الذين هم أضل من الأنعام) في الأرض (أيّ أرض كانت، سير اعتبار) فينظروا (نظر ادكار فيما سلكوه من سلبها ونواحيها، ونبه زيادة العظمة فيما حثهم على النظر فيه بسوقه مساق الاستفهام تنبيهاً على خروجه عن أمثاله، ومباينته لأشكاله، بقوله: (كيف كان عاقبة) أي آخر أمر) الذين (ولما كانوا لا يقدرون على استغراق نظر جميع الأرض وآثار جميع أهلها، نبه بالجار على ما تيسر فقال تعالى: (من قبلهم) أي مع قرب الزمان والمكان، لوما كانوا معتمدين في مغالبة الرسول (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ومجادلته بالباطل في الآيات الظاهرة على كثرتهم وقوتهم وقلة أصحابه مع ضعفهم، وكان قد تقدم الإنكار عليهم في المجادلة لإدحاض الحق، وعظيم النكيرعليهم بعدم النظر عن المسير في
الأرض بأعين الاعتبار في الآثار، من المساكن والديار، لمن مضى من الأشرار، وأثبت لهم الأشدية وأنها لم تغن عنهم، وذكر فرعون وما كان له من المكنة بالمال والرجال، وأنه أخذه أخذة صارت مثلاً من الأمثال، وكان قد بقي مما قد يتعلل به في المبالغة الكثرة، ذكرها مضمومة إلى الشدة تأكيداً لمضمون الخبر في أنه لا أمر لأحد مع أمره، فقال مستانفاً جواباً لمن يقول: ما كانت عاقبتهم؟ فقال: (كانوا أكثر منهم) أي عدداً أضعافاً مضاعفة ولا سيما قوم نوح عليه الصلاة والسلام: (وأرشد قوة (في الأبدان كقوم هود عليه الصلاة والسلام الذين قالزا كما يأتي في التي بعدها
﴿من أشد منا قوة﴾ [فصلت: ١٥] ) وآثاراً في الأرض (بنحت البيوت في الجبال،
بقوة أبدانهم وعظم عقولهم واحتيالهم وما تبوا من المصانع لنجاتهم حين جاءهم أمرنا بل كانوا كأمس الذاهب.
ولما أخبر عن كثرتهم وقوتهم وآثارهم الدالة على مكنتهم، سبب عنه شرح حالهم، الذي أدى إلى هلاكهم واغتيالهم، فقال مبيناً لما أغنى: (فلما جاءتهم رسلهم) أي الذين أرسلناهم إليهم وهم منهم يعرفون صدقهم وأمانتهم) بالبينات) أي الدالة على صدقهم لا محالة) فرحوا) أي القوم الموصوفون) بما عندهم من العلم (الذي أثروا به تلك الآثار في الأرض من إنباط المياه وجر الأثقال وهندسة الأبنية ومعرفة الأقاليم وإرصاد الكواكب لأجل معرفة أحوال المعاش، وغير ذلك من ظواهر العلوم المؤدية إلى التفاخر والتعاظم والتكاثر وقوفاً مع الوهم، وتقييداً بالحاضر من الرسم من علم ظاهر الحياة الدنيا وقناعة بالفاني كما قال التي قبلها ﴿ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم﴾ [الزمر: ٤٩] وكما قال قارون لما قيل له) وأحسن كما أحسن الله إليك (: (قال) :(إنما أوتيته على علم عندي (وفرحهم به
لأداهم إلى التوسع في الدنيا والتلذذ بما واستهزوا بما اتتهم به الرسل من علم الباطن الداعي إلى الإعراض عن الفاني والإقبال على الباقي والخوف مما بعد الموت من الأمور الغائبة والأهوال الآتية والكوائن العظيمة المستورة بحجاب هذه الحياة الدنيا الواهي، على ما فيها من الذوات والمعاني والأحوال والأوجال والدواهي، والذي حركهم إلى الفرح بما عندهم هو ما هم فيه من الزهرة مع ما يرون من تقلل الرسل وأتباعهم من الدنيا، وإسراع المصائب إليهم، وكثرة ما يعانونه من الهموم والأنكاد، ويكابدونه من الأنداد والأضداد، فاشتد استهزاؤهم بهم وبما أتوا به من بعدّهم ذلك محالاً وباطلاً وضلالاً، وكانوا لا ينفكون من فعل الفرح الأشر البطر بالتضاحك والتمايل كما قال الله تعالى) فلما جاءهم إذا هم منها يضحكون (ونصبوا للرسل واتباعهم المكايد، وأحاطوا بهم المكر والغوايل، وهموا بأخذهم فأنجينا رسلنا ومن آمن بهم منهم وأتيناهم بما أزال فرحهم، وأطال غمهم وترحهم) وحاق) أي أحاط على وجه الشدة) بهم بما كانوا) أي عادة مستمرة.
ولما كان استهزائهم بالحق عظيماً جداً، عد استهزائهم بغيرة عدماً، وأشار إلى ذلك بتقديم الجال فقال: (به يستهزؤون (من الوعيد الذي
كانوا قاطعين ببطلانه فعلم قطعاً أنه إنما يفرح من العلم بما تضمن النجاة والسعادة الأبدية على أن سوق الكلام هكذا مليء بالاستهزاء بهم والتهكم عليهم لأنهم نصبوا العالم المطيق المنطيق الذي إذا غلب خصمه فأسكته وألقمه الحجر فأخرسه وأفحمه بواضح الحجة وقويم المحجة ظهر عليه السرور وغلبه الفرح فإن عاند خصمه ووقف مع وهمه استهزأ به وتضاحك منه - هذا مع ما عنده من عمايات الجهل التي لا يكفرون على إنكارها بدليل اعتراف هؤلاء الذين أرسل إليهم هذا النبي الكريم أن أهل الكتاب أعلم منهم، فكانوا يوجهون ركابهم إلى اليهود يسألونهم عن أمرهم وأمره على أنه قد أتاهم بما يعلي به قدرهم على أهل الكتاب، ويجعلهم المخصوصين بالسيادة على مر الأحقاب، وهم يأبون بمجادلتهم بالباطل إلا سفولاً وإعراضاً عن الصواب، وعدولاً ونكوصاً ونكولاً، والآية مرشدة إلى أنه لا يتعلم إلا من ظن من نفسه القصور، ولهذا كل أقبل شيء للعلم الصغار، والآية من الاحتباك: إثبات الفرح أولاً دليل عل حذف
صفحة رقم 129
ضده ثانياً، وإثبات الاستهزاء ثانياً دليل على حذف مثله أولاً.
ولما كانت هذه السورة في بيان العزة التي هي نتيجة كمال العلم وشمول القدرة،
وكان عظم العزة بحسب عظمة المأخوذ بها المعاند لها، كرر ذكر المجادلة في هذه السورة تكريراً أذن بذلك فقال في أولها) ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا (ثم دل على أنهم مأخوذون من غير أن يغني عنهم جدالهم الذي أنتجه ضلالهم، وعلى توابع ذلك ترغيباً وترهيباً إلى أن قال) هو الذي يريكم آياته (وذكر بعض ما اشتد إلفهم له حتى سقطت غرابته عندهم، فنبههم على ما فيه ليكفهم عن الجدال ويغتنوا به على اقتراح غيره، ثم ذكر قصة موسى عليه الصلاة والسلام مذكراً لهم ما حصل من تعذيب المكذبين المجادلين بعد وقوع ما اقترحوا من الآيات بقولهم) فائت بآية إن كنت من الصادقين (ومضى يذكر وينذر ويحذر في تلك الأساليب التي هي أمضى من السيوف، وأجلى من الشموس في الصحو دون الكسوف، حتى قال) الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا (ثم شرع في إتمام قصة موسى عليه السلام إلى ان قال) إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم لشدة الإلف وضوحها جدال المجادل، وضلال المماحك المماحل، لولا أنه قد
أخرجتها شدة الألف لها من حيز الغرابة من خلق الخافقين وتكوير الملوين، وبسط الأرض ورفع السماء وتصوير الإنسان وما فيه من عظيم الشأن، فكشفت ستورها، وبين دلالتها وظهورها، ولفت الكلام إلى تهديد المجادلين بقوله منكراً عليهم) ألم تر إلى الذين يجادلون خصمه بما هو من حججه كالشمس نوراً وطلعة وظهوراً أنكر بالاستفهام الذي هو أمر من وقع السهام.
فلما ثبت بذلك عنادهم وغلظتهم وقوتهم في لددهم واشتدادهم، بين جهلهم بذلهم عند ما أحكموا عقده من شرهم، فقال مبيناً لما أجمل من الحيق مسبباً عنه لافتاً القول إلى مظهر العظمة ترهيباً: (فلما رأوا) أي عاينوا) بأسنا) أي عذابنا الشديد على ما له مجامع العظمة، ومعاقد العز ونفوذ الكلمة، كما ظهر لنا في هذا البأس من غير إشكال ولا إلباس، وأكدوا ذلك نافين لما كانوا فيه من الشرك: بقولهم) وحده (ودل على إنحلال عراهم ووهي قواهم بزيادة التصريح في قولهم: (وكفرنا بما كنا) أي جبلة وطبعاً) به مشركين (لأنا علمنا أنه لا يغني من دون الله شيء.
ولما كان الكفر بالغيب سببا لعدم قبول الإيمان عند الشهادة قال: (فلم يك) أي لم يصح ولم يقبل بوجه من الوجوه لأنهع لا كون يساعد على ذلك ولا بأدنى درجات الكون، فأشار بكان إلى أن هذا أمر مستقر وشأن مستمر لكل أمة ليس خاصا بالمحدث عنهم ومن مضى قبلهم وبحذف لام الكلمة إلى أنهم أمعنوا في الترقق بتقرير الإيمان وتكريره وتسريحه، والوقت ضيق والمجال حصير، وقد أزفت الآزفة، ليس لها من دون الله كاشفة، فلم يكونوا لفوات الوقت موفين بما طلب منهم) ينفعهم إيمانهم) أي يتجد لهم نفعة بعد ذلك لأنه إيمان إلجاء واضطرار لا إيمان طواعية واختيار) لما رأوا (وأظهر موضع الإضمار زيادة في الترهيب، فقال: (بأسنا (لأن الإيمان لا يتحقق ولا يتصور إلا مع الغيب، وأما عند الشهادة فقد كشفت سريرته على أنه قد فاتت حقيقته وصثورته، فلو ردوا لعادوا، ولو أتاهم بعد ذلك العذاب لانقادوا، ولهذا السر قال تعالى صارفا القول إلى الاسم المقتضي لمزج الحكمة بالعظمة: (سنت الله) أي سن الملك الأعظم المحيط علما وقدرة ذلك ف يكل دهر سنة، ولذا قال) التي قد خلت في عباده (أن الإيمان بعد كشف الغطاء لا يقبل، وكل أمة كذبت الرسل أهلكت، وكل من أجيب إلى الإيمان المقترحة فلم يؤمن عذب، سنها سنة وأمضاها عزمة، فلا غير لها، فربح
صفحة رقم 132إذ ذاك المؤمنون) وخسر) أي هلك أو تحقق وتبين أنه خسر. ولما كان المكان لا ينفك عن الزمان، استعير ظرفه له وليدل على غاية التمكن فقيل: (هنالك) أي في ذلك الوقت العظيم الشأن بما كان فيه وكان) الكافرون) أي العريفون في هذا الوصف فلا انفكاك بينهم وبينه، وقد التف آخرها بما بين من كمال العزة وتمام القدرة وشمول العلم مما رتب من أسباب الهداية والإضلال ووالإشقاء والإسعاد والنجاة والإهلاك بأولها أي التفاف، واكتنفت البداية والنهاية بيان ذلك مع ما اشتمل عليه الوسط أيضا منه أعظم اكتناف، فسبحان من هذا إنزاله، وتبارك اسمه وجل جلاله، ولا إله سواه ولا حوةل ولا قوة إلا بالله، رب سهل كريم.
صفحة رقم 133
مقصودها الإعلام بأن العلم إنما هو ما اختاره المحيط بكل شيء قدره وعلماً من علمه لعباده فشرعه، لهم، فجاءتهم به عنه رسله، وذلك العلم هو الحامل على الإيمان بالله والاستقامة على طاعته المقترن بهما - كما تقدم في الزمر في قوله)) هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون () [آية: ٩] فتكون عاقبته الكشف الكلي حين يكون سبحانه سمع العالم الذي يسمع به، (بصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) - إلى آخر الحديث القدسي الذي معناه أنه يوفقه سبحانه فلا يفعل إلا ما يرضيه، وعلى ذلك دل اسمها) فصلت (بالإشارة إلى ما في الآية المذكورة فيها هذه الكلمة من الكتاب المفصل لقوم يعلمون.
والسجدة بالإشارة إلى ما في آيتها من الطاعة له بالسجود الذي هو أقرب مقرب من الملك الديان، والتسبيح الذي هو المدخل الأول للإيمان) بسم الله (الذي لم يرض لإحاطته بأوصاف الكمال من جلال الكتاب إلا ما اقترن بجمال العمل) الرحمن (الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً ففصل الكتاب تفصيلاً وبينه غاية البيان) الرحيم (الذي خص العلماء العاملين بسماع الدعوة ونفوذ الكلمة) حم) أي حكمة محمد التي
أعجزت الخلائق.
ولما ختمت غافر الكفرة جادلوا في آيات الله بالباطل، وفرحوا بما عندهم من علم ظاهر الحياة الدنيا، وأنهم عند البأس انسلخوا عنه وتبرؤوا منه ورجعوا إلى ما جاءت به الرسل فلم يقبل منهم، فعلم أن كل علم لم ينفع عند الشدة والبأس فليس بعلم، بل الجهل خير منه، وكان ذلك شاقاً على النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) خوفاً من أن يكون آخر أمر أمته الهلاك، مع الإصرار على الكفر إلى مجيء البأس، وأن يكون أغلب أحواله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) النذارة، افتتح سبحانه هذه السورة بأن هذا القرآن رحمة لمن كان له علم وله قوة توجب له القيام فيما ينفعه، وكرر الوصف بالرحمة في صفة العموم وصفة الخصوص إشارة إلى أن أكثر الأمة مرحوم، وأعلم أن الكتاب فصل تفصيلاً وبين تبييناً لا يضره جدال مجال، وكيد مماحك مماحل، وأنه مغن بعجز الخلق عنه عن اقتراح الآيات فقال مخبراً عن مبتدأ: (تنزيل) أي بحسب التدريج عظيم) من الرحمن) أي الذي له الرحمة العامة للكافر والمؤمن بإنزال الكتب وإرسال الرسل) الرحيم) أي الذي يخص رحمته بالمؤمنين بإلزامهم ما يرضيه عنهم.
ولما تشوف السامع إلى بيان هذا التنزيل المفرق بالتدريج، بين
أنه مع ذلك حاوٍ لكل خير فقال مبدلاً من تنزيل: (كتاب) أي جامع قاطع غالب.
ولما كان الجمع ربما أدى إلى اللبس قال: (فصلت) أي تفصيل الجوهر) آياته) أي بينت بياناً شافياً في اللفظ والمعنى مع كونها مفصلة إلى أنواع من المعاني، وإلى مقاطع وغايات ترقى جلائل المعاني إلى أعلى النهايات، حال كونه) قرآناً) أي جامعاً مع التفصيل، وهو مع الجمع محفوظ بما تؤديه مادة (قرا) من معنى الإمساك، وهو مع جمع اللفظ وضبطه وحفظه وربطه منشور اللواء منتشر المعاني لا إلى حد، ولا نهاية وعد، بل كلما دقق النظر جل المفهوم، ولذلك قال تعالى: (عربياً (لأن لسان العرب أوسع الألسن ساحة، وأعمقها عمقاً وأغمرها باحة، وأرفعها بناء وأفصحها لفظاً، وأبينها معنى وأجلها في النفوس وقعاً، قال الحرالي: وهو قرأن لجمعه، فرقان لتفصيله، ذكر لتنبيهه على ما في الفطر والجبلات، وجوده حكيم لإنبائه الاقتضاءات الحكمية، مجيد لإقامته قسطاس العدل، عربي لبيانه عم كل شيء، كما قال تعالى في سوره أحسن القصص، وتفصيل كل شيء مبين لمحوه الكفر بما أبان من إحاطة أمر الله، محفوظ لإحاطته حيث لم يختص
فيقبل العدول عن سنن.
ولما كان لا يظهر إلا لمن له قابلية ذلك، وأدمن اللزوم ذلاً
للأعتاب، والقرع خضوعاً وحباً للأبواب، قال معلقاً ب (فصلت أو تنزيل) أو (الرحمن الرحيم) :(لقوم) أي ناس فيهم قوة الإدراك لما يحاولونه) يعملون) أي فيهم قابلية العلم وتجدد الفهم بما فيهم من سلامة الطبع وسلاسة الانقياد لبراهين العقل والسمع وحدة الأذهان وفصاحة اللسان وصحة الأفكار وبعد الأغوار، وفي هذا تبكيت لهم في كونهم لا ينظرون محاسنه فيهتدوا بها كما يعتنون بالنظر في القصائد حتى يقضوا لبعضها على بعض حتى أنهم ليعلقون بعضها على الكعبة المشرفة تشريفاً له، وفيه حث لهم - وهم أولو العزائم الكبار - على العلم بع ليغتنوا عن سؤال اليهود، وفيه بشرى بأنه تعالى يهب العرب بعد هذا الجهل علماً كثيراً، وعن هذا الكفر إيماناً عظيماً كبيراً، وفي الآية إشارة إلى ذم المقترحين المشار إليهم آخر التي قبلها بأنهم قد أتاهم ما أغناهم عنه من آيات هذا الكتاب الذي عجزوا عن مباراته، ومناظرته ومجاراته وذلك في غاية الغرابة، لأنه كلام من جنس كلامهم في كونه عربياً، وقد خالفت كلامهم وأسجاعهم، مع كونه ليس شعراً ولا سجعاً أصلاً ولا هم من أنواع نثرهم، ولا من ضروب خطبهم، فعجزوا عن الإيتان بشيء
صفحة رقم 137
من مثله في مر الأحقاب وكر الدهور والأعضار، وكفى بذلك معجزة شديدة الغرابة بمن ينيب.
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير: لما تضمنت سورة غافر بيان حال المعاندين وجاحدي الآيات، وأن ذلك ثمرة تكذيبهم وجدلهم، وكان بناء السورة على هذا الغرض بدليل افتتاحها وختمها، ألا ترى قوله تعالى
﴿ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا﴾ [غافر: ٤] وتأنيس نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام بقوله
﴿فلا يغررك تقبلهم في البلاد﴾ [غافر: ٤] فقد تقدم ذلك من غيرهم فأعقبهم سوء العاقبة والأخذ الوبيل) كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه (فعصمتهم واقية
﴿أنا لننصر رسلنا﴾ [غافر: ٥١] وقال تعالى:
﴿وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب﴾ [غافر: ٥] أي رأيت ما حل بهم وقد بلغك خبرهم، فلا اعتبر هؤلاء بهم
﴿أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وإثاراً في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق﴾ [غافر: ٢١] وإنما أخذهم بتكذيبهم الآيات) ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله (ثم ذكر تعالى من حزب المكذبين فرعون وهامان وقارون، وبسط القصة تنبيهاً على سوء عاقبة من عتند وجادل بالباطل وكذب الآيات، ثم قال تعالى بعد آيات) إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في
صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه (إذ الحول والقوة ليست لهم
﴿فاستعذ بالله﴾ [الأعراف: ٣٠٠] من شرهم، فخلق غيرهم لة استبصروا أعظم من خلقهم
﴿لخلق السماوات والأرض أكبر من خلقالناس﴾ [غافر: ٥٧ [وهو غير آمنين من الأخذ من كلا الخلقين
﴿إنما نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء﴾ [سبأ: ٩] ثم قال تعالى بعد هذا) ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنّى يصرفون (إن أمرهم لعجيب في صرفهم عن استيضاح الآيات بعد بيانها، ثم ذكر تعالى سوء حالهم في العذاب الأخروي وواهي اعتذارهم بقولهم
﴿ضلوا عنا بل لمن نكن ندعو من قبل شيئاً﴾ [غافر: ٧٤] ثم صبر تعالى نبيه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بقوله:
﴿فاصبر إن وعد الله حق﴾ [الروم: ٦٠] ثم أعاد تنبيههم فقال تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض (إلى ختم السورة، ولم يقع من هذا التنبيه الذي دارت عليه آي هذه السورة في سورة الزمر شيء ولا من تكرار التحذير من تكذيب الآيات، فلما بينت على هذا الغرض أعقبت بذكر الآية العظيمة التي تحديت بها العرب، وقامت بها حجة الله سبحانه على الخلق، وكان قيله لهم: احذروا ما قدم لكم، فقد جاءكم محمد (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بأوضح آية وأعظم برهان) تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً (وتضمنت هذه السورة العظيمة من بيان عظيم الكتاب وجلالة قدره وكبير الرحمة به ما لا يوجد في غيرها من أقرانها كما أنها في الفصاحة
تبهر العقول بأول وهلة، فلا يمكن العربي الفصيح في شاهد برهان أدنى توقف، ولا يجول في وهمه إلى معارضة بعض آيها أدنى تشوف، وأنه لكتاب عزيز) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد () ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أعجمي وعربي (فوبخهم سبحانه وتعالى وأدحض حجتهم وأرغم باطلهم وبكَّت دعاويهم ثم قال) قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في اذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد () إنما يستجيب الذين يسمعون (وقرعهم تعالى في ركيك جوابهم عن واضح حجته بقولهم) قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر (وقولهم) لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه (وهذه شهادة منهم على أنفسهم بالانقطاع عن معارضته، وتسجيلهم بقوة عارضته، ثم فضحهم بقوله) قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به (- الآية، وتحملت السورة مع هذا بيان هلاك من عاند وكذب ممن كان قبلهم وأشد قوة منهم، وهم الذين قدم ذكرهم مجملاً في سورة غافر في آيتي) أو لم يسيروا في الأرض () أفلم يسيروا (فقال تعالى مفصلاً
صفحة رقم 140
لبعض ذلك الإجمال) فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود (ثم قال) فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة (ثم قال تعالى) فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً (الاية، ثم قال) وأما ثمود (فبين تعالى حالهم وأخذهم، فاعتضد التحام السورتين، واتصال المقصدين - والله أعلم - انتهى.
ولما كان حال الإنسان إن مال إلى جانب الخوف الهلع أو إلى جانب الرجاء البطر، فكان لا يصلحه إلا الاعتدال، بالتوسط الموصل إلى الكمال، بما يكون لطبعه بمنزلة حفظ الصحة ودفع المرض لبدنه، قال واصفاً ل (قرآناً)) بشيراً) أي لمن اتبع) ونذيراً) أي لمن امتنع فانقطع.
روى أبو نعيم في الحلية في تلاجمة إمامنا الشافعي رضي الله عنه وأرضاه أنه روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجه أنه قال في خطبة له: وأعجب ما في الإنسان قلبه، وله مواد من الحكمة وأضداد من خلافها إن سنح له الرجاء ادلهمه الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن سعد بالرضى نسي التحفظ، وإن ناله الخوف شغله الحزن، وإن أصابته مصيبة قصمه الجزع، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى، وإن عضته فاقة شغله البلاء، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف،
فكل تقصير به مضر وكل إفراط به مفسد.
ولما كانت عادتهم دوام الاحتياط في كل بشارة ونذارة بأمر دنيوي، سبب عن هذا مخالفتهم لعادتهم في ترك الحزم بالجزم بالإعراض فقال: (فأعرض أكثرهم) أي عن تجويز شيء من بشائره أو نذائره) فهم (لذلك) لا يسمعون) أي يفعلون فعل من لا يسمع فهم لا يقبلون شيئاً مما دعا إليه وحث عليه.
ولما أخبر عن إعراضهم، أخبر عن مباعدتهم فيه فقال: (وقالوا) أي عند إعراضهم ممثلين لمباعدتهم في عدم قبولهم: (قلوبنا في أكنَّة) أي أغشية محيطة بها، ولما كان السياق في الكهف للعظمة كان الأنسب له أداة الاستعلاء فقال) إنا جعلنا على قلوبهم أكنة (وعبروا هنا بالظرف إبعاداً لأن يسمعوا) مما) أي مبتدئة تلك الأغشية وناشئة من الأمر الذي) تدعونا (أيها المخبر بأنه نبي) إليه (فلا سبيل له إلى الوصول إليها لنفيه أصلاً.
ولما كان القلب أفهم لما يرد إليه من جهة السمع قالوا: (وفي آذاننا (التي هي أحد الطرق الموصلة إلى القلوب) وقر) أي ثقل قد أصمها عن سماعه) ومن بيننا وبينك) أي
مبتدئ من الحد الذي فصلك منا والحد الذي فصلنا منك في منتصف المسافة قي ذلك) حجاب (ساتر كثيف، فنحن لا نراك لنفهم عنك بالإشارة، فانسدت طرق الفهم لما نقول) فاعمل) أي بما تدين به.
ولما كان تكرار الوعظ موضعاً للرجاء في رجوع الموعوظ قطعوا ذلك الرجاء بالتأكيد بأداته، وزادوه بالنون الثالثة والتعبير بالاسمية فقالوا: (إننا عاملون) أي بما ندين به فلا مواصلة بيينا بوجه ليستحي أحد منا من الآخر في عمله أو يرجع إليه، ولو قال) وبيينا (من غير) من (لأفهم أن البينين بأسرهما حجاب، فكان كل من الفريقين ملاصقاً لبينه، وهو نصف الفراغ الحاصل بينه
وبين خصمه، فيكون حينئذ كل فريق محبوساً بحجابة لا يقدر على عمل فينا في ما بعده أو يكون بينهما اتصال أقله بالإعلام بطرق من أراد من المتباينين الحجاب، فأفادت (من) التبعيض مع إفادة الابتداء، فإنهم لا يثبتون الحجاب في غير أمور الدين.
ولما أخبروا باعراضهم وعللوا بعدم فهمهم بما يدعو إليه، أمره سبحانه بجواب يبين أنهم على محض العناد فقال: (قل) أي لهؤلاء الذين عجزوا عن رد شيء من أمرك بشيء يقبله ذو عقل فادعوا ما ينادي
عليهم بالعجز: (إنما أنا بشر مثلكم (لا غير بشر مما لا يرى، والبشر يرى بعضه بعضاً ويسمعه ويبصره فقولكم أنه لا وصول لكم إلى رؤيتي ولا إدراك شيء مما أقول مما لا وجه له أصلاً.
ولما كان ادعاؤهم لعدم المواصلة بينهم قد تضمن شيئين: أحدهما فيه، والآخر فيما يدعو إليه، ونقض الأول، قال في الثاني: (يوحى إليّ) أي بطريق يخفى عليكم) إنما إلهكم) أي الذي يستحق العبادة) إله واحد (لا غير واحد، وهذا مما دلت عليه الطرق النقلية، وانعقد عليه الإجماع في أوقات الضرورات النفسانية، أي لست مغايراً للبشر ممن يخفى عليكم شخصه كالملك، ولا يعجم عليهم مراده بصوته كسائر الحيوانات، ومع كوني بشراً فلست بمغاير لكم في الصنف بكوني أعجمياً، بل أنا مثلكم سواء في كوني عربياً، ومع ذلك كله فأصل ما أوحي إلي ليس معبراً عنه بجمل طوال تمل أو تنسى، أو يشكل فهمها، وإنما هو حرف واحد وهو التوحيد، فلا عذر لكم أصلاً في عدم فهمه ولا سماعه ولا رؤية قائله.
ولما قطع حجتهم وأزال علتهم، سبب عن ذلك قوله:
(فاستقيموا) أي اطلبوا واقصدوا وأوجدوا القوام متوجهين وإن كان في غاية البعد عنكم) إليه (غير معرجين أصلاً على نوع شرك بشفيع ولا غيره.
ولما كان أعظم المراد من الوحي العلم والعمل، وكان رأس العلم التوحيد فعرفه وأمر بالاستقامة فيه، أتبعه رأس العمل وهو ما أنبأ عن الاعتراف بالعجز مع الاجتهاد فقال: (واستغفروه) أي اطلبوا منه غفران ذنوبكم، وهو محوها عيناً وأثراً حتى لا تعاقبوا عليها ولا تعاتبوا بالندم عليها، والإقلاع عنها حالاً ومآلاً.
واما أمر بالخير، رغب فيه ووهب من ضده، فكان التقدير للترغيب: فالفلاح والفوز لمن فعل ذلك، فعطف عليه ما السياق له فقال: (وويل) أي وسواة وهلاك) للمشركين ولما كانت العقول والشرائع ناطقة بأن خلاصة السعادة في أمرين: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله، وكان أفضل أبواب التعظيم لأمر الله الإقرار بوحدانيته، فكان أخس الأعمال التي بين العبد وربه الإخلال بذلك، وكان اخس الأعمال التي بين العبد وربه الإخلال بذلك، وكان أخس الأعمال التي بين العبد وبين الخلق منع ما أوجه الله في الزكاة، وكان معنى الشرك الحكم بأن ما لا شيء له أصلاً وما لا يمكن أن يكون له ملك تام على شيء أصلاً قد شارك من له الكل خلقاً وتصرفاً فيما هو عليه من الملك التام الذي
لا شوب فيه، وكانت الزكاة إشراك من له ملك غير تام لمثله في جزء يسير من ماله.
قال ذاماً لمن أبى أن يشارك الخلائق وأشرك بالخالق: (الذين لا يؤتون) أي أمثالهم من أولاد آدم) الزكاة (من المال الذي لا صنع لهم في خلقه، فهو مخلف عن أبيهم آدم، فالقياس يقتضي اشتراكهم كلهم فيه على حد سواء، ولكنا رحمناهم بتخصيص كل واحد منهم بما ملكت يمينه منه بطريقة، فقد حكموا في أمر ربهم بما لا يرضونه لأنفسهم، فإنهم أبوا أن يشركوا ببذل الزكاة بعض أخوانهم في بعض مالهم الذي ملكهم له ضعيف، وأشركوا ما لا يملك شيئاً أصلاً بما لا نفع مع المالك المطلق.
ولما كان مما تضمنه إشراكهم وإنكارهم البعث أنهم أداهم شحهم إلى استغراقهم في الدنيا والأقبال بكلياتهم على لذاتها، فأنكروا الآخرة، فصار محط حالهم أنهم أثبتوا لمن لا فعل أصلاً فعلاً لا يمكنه تعاطيه بوجه، ونفوا عن الفاعل المختار الذي هم لأفعاله الهائلة في كل وقت يشاهدون، وإليه في منافعهم ومضارهم يقصدون، ما أثبت لنفسه من فعله، فقال مؤكداً تنبيهاً على أن إنكارهم هذا مما لا يكاد يصدق: (وهم بالآخرة) أي الحياة التي بعد هذه ولا بعد لها) هم) أي بخاصة من بين أهل الملل) كافرون (فاختصموا بإنكار شيء لم يوافقهم عليه
أحد في حق من يشاهدون في كل وقت من أفعاله أكثر من ذلك، وأثبتوا لمن لم يشاهددوا له فعلاً قط ما لا يمكنه فعله أصلاً، وهم يدعون العقول الصحيحة والآراء المتينة ورضوا لأنفسهم بالدناءة في منع الزكاة وحكموا بأعظم منها على الله وهم يدعون مكارم الأخلاق ومعالي الهمم، فأقبح بهذه عقولاً وأسفل بها همماً فقد تضمنت الآية أن الويل لمن اتصف بصفات ثلاثة: الشرك الذي هو ضد التعليم لأمر الله، والامتناع من الزكاة الذي هو ضد الشفقة علىخلق الله وإنكار القيامة المؤدي إلى الاستغراق فيما أبغض الله في طلب الدنيا ولذاتها وهو من الاستهانة بأمر الله، قال الأصبهاني: وتمام الكلام في أنه لا زيادة على هذه المراتب الثلاثة أن الإنسان له ثلاثة أيام: أمس واليوم والغد، فمعرفة كيف ينبغي وقوع الأحوال في الاليوم الحاضر هو بالإحسان إلى أهل العلم بقدر الطاقة، ومعرفة الأحوال في اليوم المستقبل بالإقرار بالبعث والقيامة، فإذا كان الإنسان على ضد الحق في هذه المراتب الثلاثة كان في نهاية الجهل والضلال.
ولما ذكر ما للجاهلين وعيداً وتحذيراً، ذكر ما لأضدادهم وعداً وتبشيراً، فقال مجيباً لمن تشوف لذلك مؤكداً لإنكار من ينكره:
(إن الذين آمنوا) أي بما آتاهم الله من العلم النافع) وعملوا الصالحات (من الزكاة وغيرها ليكون عملهم شرعياً نافعاً، ولما كان افتتاح السورة بالرحمن الرحيم مشعراً بأن الأسباب الظاهرية انمحت عند السبب الحقيقي الذي هو رحمته، أعرى الخبر عن الفاء، فقال إيذاناً بعظم الجزاء لأن سببه رحمة الرحيم، ولو كان بالفاء لآذنت أنه على مقدار العمل الذي هو سببه: (لهم أجر) أي عظيم) غير ممنون) أي مقطوع - جزاء على سماحهم بالفاني اليسير من أموالهم في الزكاة وغيرها وما أمر الله به من أقوالهم في الآخرة والدنيا، والممنون: المقطوع من مننت الحبل أي قطعته بقطع مننه ومنه قولهم: قد منه السفر أي قطعه وأذهب منته.
ولما ذكر سبحانه سفههم في كفرهم بالآخرة، شرع في ذكر الأدلة على قدرته عليها وعلى كل ما يريد بخلق الأكوان وما فيها الشامل لهم ولمعبوداتهم من الجمادات وغيرها الدال على أنه واحد لا شريك له، فقال منكراً عليهم ومقرراً بالوصف لأنهم كانوا عالمين بأصل الخلق: (قل) أي لمن أنكر الآخرة منكراً عليه بقولك: (أئنكم (وأكد لإنكارهم التصريح بما يلزمهم من الكفر) لتكفرون) أي توجدون حقيقة الستر لأنوار العقول الظاهرة) بالذي خلق الأرض)
أي على سعتها وعظمتها من العدم) في يومين (فتنكرون قدرته على إعادة ما خلقه منها ابتداء مع اعترافكم بأنه ابتدأ خلقها وخلق ذلك منها، وهذا اليومان الأحد والاثنين - نقل هذا عن ابن عباس رضي الله عنه ما وعبد الله بن سلام رضي الله عنه - قال ابن الجوزي: والأكثرين، وحديث مسلم الذي تقدم في سورة البقرة
﴿خلق الله التربة يوم السبت﴾ يخالف هذا، فإن البداءة فيهبيوم السبت وهو مصرح بأن خلق الأرض وما فيها في ستة أيام كما هو ظاهر هذه الآية، ويجاب بأن المراد بالخلق فيه إخراج أقواتها بالفعل، والمراد هنا تهيئتها لقبول ذلك، ويشكل أيضاً بأن الأيام إنما كانت بدوران الأفلاك، وإنما كان ذلك بعد تمام الخلق بالفعل، فالظاهر أن المراد باليوم ما قاله الحرالي: مقدار ما يتم فيه أمر ظاهر أو مقدار يومين تعرفونها من أيام الدنيا.
ولما ذكر كفرهم بالبعث وغيره، عطف على) تكفرون (قوله: (وتجعلون) أي مع هذا الكفر) له أنداداً (مما خلقه، فتثبتون له أفعالاً وأقوالاً مع أنكم لم تروا شيئاً من ذلك، فأنكرتم ما تعملون مثله وأكبر منه، وأثبتّم ما لم تعملوه أصلاً، هذا هو الضلال المبين.
ولما بكتهم على قبيح معتقدهم، عظم ذلك بتعظيم شأنه سبحانه فقال: (ذلك) أي
الإله العظيم) رب العالمين) أي موجدهم ومربيهم، وذلك يدل قطعاً على جميع ما له من صفات الكمال.
ولما ذكر ما هم به مقرون من إبداعها، أتبعه ما جعل فيها من الغرائب، فقال عاطفاً على ما تقديره: أبدع الأرض على ما ذكر: (وجعل (ولا يجوز عطفه على صلة الموصول للفصل بأجنبي) فيها رواسي (هي أشدها وهي الجبال، ونبه على أنها مخالفة للرواسي في كونها تحت ما يراد إرساؤه فقال: (من فوقها (فمنعتها من الميد، فعل ذلك لكونه أدل على القدرة، فإنها لو كانت من تحت لظن أنها، أساطين حاملة، ولتظهر منافع الجبال بها أنفسها وبما فيها، ويشاهد أنها أثقال مفتقرة إلى حامل.
ولما هيأها لما يراد منها، ذكر ما أودعها فقال: (وبارك فيها) أي جعلها قابلة ميسرة للسير إليه والإقبال عليه، ودالة على جميع صفاته الحسنى وأسمائه العلى وغير ذلك من المعارف والقدر والقوى) وقدر فيها أقواتها) أي جعلها مع البركة على مقدار لا تتعداه، منهاج بديع دبره في الأزل وارتضاه، وقدره فأمضاه، ومن ذلك أنه خص بعض البلاد بشيء لا يوجد في غيرها لتنظيم عمارة الأرض كلها باحتياج بعضهم إلى بعض، فكان
جميع ما تقدم من إيداعها وإيداعها ما ذكر من متاعها، دفعة واحدة لا ينقص عن حاجة المحتاجين أصلاً، وإنما ينقص توصلهم أو توصل بعضهم إليه فلا يجد له حينئذ ما يكفيه، وفي الأرض أضعاف كفايته، ثم ذكر فذلكة خلق الأرض وما فيها فقال: (في أربعة أيام (وهذا العدد عن ضم اليومين الماضيين إلى يومي الأقوات وهما الثلاثاء والأربعاء، أو يكون المعنى في تتمته أربعة أيام، ولا يحمل على الظاهر ليكون ستة لأنه سيأتي للسماوات يومان فكانت تكون ثمانية، فتعارض آية) ألم السجدة () لله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام (وفصل مقدار ما خلقها فيه ومقدار ما خصالأقوات والمنافع لأحاطة العلم بأنه يخص كل أمر من الأمرين يومان، ونص على الأولين ليكون ذلك أدل على القدرة فيحسن موقع النعي عليهم بما فصل به الآيتين من اتخاذ الأنداد، وإنما كان أدل على القدرة، لأنه إيجاد ذوات محسوسة من العدم قائمة بأنفسها بخلاف البركة، وتقدير الأقوات فإنه أملا لا يقوم بنفسه، فلم يفرد يوميه بالذكر، بل جعلهما تابعين كما أن ما قدر فيهما تابع، ولم يفعل ذلك في أقل من لمح البصر مع تمام القدرة عليه، لأن هذا أدل على الاختيار وأدخل في الابتلاء والاختيار، ليضل به كثيراً ويهدي
صفحة رقم 151به كثيراً، فيكون أعظم لأجورهم لأنه أدل على تسليمهم، وجعل مدة خلقها ضعف مدة السماء مع كونها أصغر من السماء دلالة على أنها هي المقصودة بالذات لما فيها من الثقلين، فزادت بما فيها من كثرة المنافع وتباين أصناف الأعراض والجواهر لأن ذلك أدخل في المنة على سكانها، والاعتناء بشأنهم وشأنها، وزادت أيضاً بما فيها من الابتلاء بالتهيئة للمعاصي والمجاهدات والمعالجات التي يتنافس فيها الملأ الأعلى ويتخاصم - كل ذلك دلالة على أن المدة ما هي لأجل القدرة بل لأجل التنبيه على ما في المقدر من المقدور وعجائب الأمور، وليعلم أيضاً بخلق السماء التي هي أكبر جرماً وأتقن جسماً وأعظم زينة وأكثر منافع بما لا يقايس في أقل من مدة خلق الأرض أن خلقها في تلك المدة ليس للعجز عن إيجادها في أقل من اللمح، بل لحكم تعجز عن حملها العقول، ولعل تخصيص السماء بقصر المدة دون العكس لإجراء أمرها على ما نتعارفه من أن بناء السقف أخف من بناء البيت تنبيهاً على أنه بنى أمر دارنا هذه على الأسباب تعليماً للتأني وتدريباً على السكينة والبعد من العجلة.
صفحة رقم 152ولما كان لفظ) سواء (الذي هو بمعنى العدل الذي لا يزيد عن النصف ولا ينقص يطلب اثنين، تقول: سواء زيد وعمرو) إلى كلمة سواء بيننا وبينكم (قال تعالى مزيلاً لما أوهمه قوله: (أربعة أيام (من أنها للأقوات والبركة ليكون مع يومين من الأرض ستة، ناصباً على المصدر: (سواء) أي التوزيع إلى يومين ويومين على السواء) للسائلين) أي لمن سأل أو كان بحيث يسأل ويشتد بحثه بسؤال أو نظر عن التوفيق بين ظاهر هذه الآية وبين غيرها، لا بد في كل يوم منها من زيادة عن الذي قبله أو نقص، ومجموع الأربعة كأربعة من أيام الدنيا لا تزيد عليها ولا تنقص، وقراءة يعقوب بجر (سواء) معينة لأن تكون نعتاً ل (أربعة) وقراءة أبي جعفر بالرفع خبر لمبتدأ محذوف، وعن خلقها وتتميمها في أربعة أيام كانت فصولها أربعة، قال ابن برجان: ألاترى الأمر إلى السماء أولاً في إنزال الماء فيخلقه فيما هنالك ثم ينزله إلى الأرض والنبات
صفحة رقم 153
والحيوان عن الماء الذي ينزل من السماء إلى الأرض بمنزلة النسل بين الذكر والأنثى وبمنزلة تسخير السماء والأرض وما بينهما لما وجدنا له فافهم - أمر قويم وحكمة شائعة آية قضاؤه بركات الأرض في أربعة أيام بواسطة ما قدر في السماء من أمر وهي الأربعة الفصول من السنة.
الشتاء الربيع الصيف والخريف، فهذه الأيام معلومة بالمشاهدة، فيهن يتم زرع الأرض وبركات الدنيا وجميع ما يخرجه منها من فؤائد وعجائب، قال: وقوله (السائلين) تعجيب وإغراب وتعظيم للمراد المعنى بالخطاب، وقد يكون معنى السواء زائداً إلى ما تقدم أن بهذه الأربعة الأيام استوت السنة مطالعها ومغاربها وقربها وبعدها وارتفاعها ونزولها في شمالي بروجها وجنوبيها باحكام ذلك كله وتوابعه - انتهى.
ولما كانت السماوات أعظم من الأرض في ذاتها بنور أبنيتها واتساعها وزينتها ودوران أفلاكها وارتفاعها، نبه على ذلك بالتعبير بأداة التراخي، ولفظ الاستواء وحب الغاية الدال على عظيم العناية فقال: (ثم استوى) أي قصد قصداً هو القصد منتهياً قصده) إلى السماء وهي) أي والحال أنها) دخان (بعد ما فتقها من
الأرض، قالوا: كان ذلك الدخان بخار الماء فهو مستعار من المرتفع من النار، وهو تشبيه صوري، فالسماء متقدمة في الدخانية على الأرض، تقدم الذكر على الأنثى ثم خلقت ذات الرض وبعد تصوير السماء أولاً إيجاداً وتتميماً لتسوية السماء بعد أن كانت دخاناً، ويومان لتتميم المنافع فتداخلت الأعداد لتداخل الأفعال،) فقال لها) أي عقب مقارنتين لما قدرته فيكما وأردته منكما من إخراج المنافع من المياه والنبات والمعادن وغيرها، ووضع المصدر موضع الحال مبالغة فقال: (طوعاً أو كرهاً) أي طائعين أو كارهتين في إخراج ما أودعتكما من الأمانة في أوقاتها وعلى ما ينبغي من مقاديرها وهيآتها طوع تسخير لا تكليف)
صفحة رقم 155
قالتا أتينا) أي نحن وما فينا ما بيننا.
ولما جعلهما موضع المخاطبة للتي هي للعقلاء والتكلم، قال جامعاً لهما باعتبار أفرادهما وما فيهما جمع من يعقل: (طائعين) أي في كل ما رسمته فينا لا نحمل من ذلك شيئاً بل نبذله على ما أمرت به لا نغير ولا نبدل، وذلك هو بذلهما للأمانة، وعدم حملها، وجمع الأمر لهما في الإخبار لا يدل على جمعه في الزمان، بل قد يكون القول لهما متعاقباً) فقضاهن) أي خلقهن وصنعهن حال كونهن معدودات) سبع سماوات (صنعاً نافذاً هو كالقضاء لا تخلف فيه) في يومين) أي الخميس والجمعة إذا حسب مقدار ما يخصهن من التكوين في الستة الأيام التي كان فيها جحميع الخافقين، وما بينهما كان بمقدار ما خص واحداً من الأرض ومن أقواتها لا يزيد على مدة منهما ولا ينقص، فيكون الذي خصهما ثلث المجموع، قال ابن جرير: وإنما سمي يوم الجمعة لأن الله تعالى جمع فيه خلق السماوات والأرض.
يعني فرغ من ذلك وأتمه) وأوحى) أي ألقى بطريق خفي وحكم مبتوت قوي)
في كل سماء أمرها) أي الأمر الذي دبرها ودبر منافعها به على نظام محكم لا يختل، وزمام مبرم لا ينحل.
ولما عم، خص ما للتي تلينا إشارة إلى تشريفنا، فقال صارفاً القول إلى مظهر العظمة تنبيهاً على ما في هذه الآية من العظم: (وزينّا) أي بما لنا من العظمة) السماء الدنيا) أي القربى إليكم لأجلكم) بمصابيح (من زواهر النجوم، وشفوفها عنها لا ينافي أن تكون في غيرها مما هو أعلى منها، ودل السياق على أن المراد: زينة) و (حفظناها بها) حفظاً (من الشياطين، فالآية من الاحتباك: حذف فعل الحفظ بدلالة المصدر، ومصدر الزينة بما دل عليه من فعلها.
ولما كان هذا أمراً باهراً، نبه على عظمته بقوله صارفاً الخطاب إلى صفتي العز والعلم إعلاماً بأنهما أساس العظمة ومدارها: (ذلك) أي الأمر الرفيع والشأن البديع) تقدير العزيز (الذي لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء) العليم (المحيط علماً بكل شيء وكما قدر سبحانه ذلك بعزته وعلمه قضى أنه لا يفيد العز الدائم إلا ما شرعه من العلم، وفي ختمه بالوصفين بشارة للأمة التي خوطبت بهما أنه يوتيها من عزه وعلمه لا سيما بالهبة وما شاكلها من الطبائع وغيرها ما لم يؤت
أمه من الأمم قبلها، وسر خلقه سبحانه العالم في مدة ولم يكن قي لمحة وجعلها ستة لا أقل ولا أكثر أنه لو خلقه في لمحة لكان ذلك شبهة لمن يقول: إنه فاعل بالذات لا بالاختيار، فاقتضى الحال عدداً، ثم اقتضى الحال أن يكون ستة لأنها أول عدد يدل على الكمال لأنها عدد تام كسورها لا تزيد عنها ولا تنقص، فآذن ذلك بأن للفاعل نعوت الكمال وأوصاف التمام والتعال، ولم يخلقه فيما دون ذلك من العدد لأنه ناقص، وخلق الأرض في يومين مكررين باعتبار الذات والمنافع إيذاناً بما يقع فيها من المعصية بالشرك الذي هو تثنية وإفك، ولم يكرر في السماء لأن آياتها أدل على التوحيد ولم يحصل من أهلها ما يدل على الوعيد، وليكون إيجادها في أقل من مدة الأرض - مع أنها أكبر جرماً وأعجب صنعاً وأتقن جسماً - أدل على الفعل بالاختيار بعجائب الحكم وغرائب الأسرار الكبار.
صفحة رقم 158