آيات من القرآن الكريم

يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا ۚ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ
ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ

والثاني: لا يهدي من هو مختار الإسراف والكذب وقت اختيارهم الإسراف والكذب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا... (٢٩) يخرج على وجهين:
أحدهما: يحتمل أن يقول ذلك بعد ما سألوه أن يتبع دينهم وما هم فيه: إني لو اتبعتكم وأجبتكم ومعكم الملك والحشم والغلبة وليس معي ذلك، فإذا جاء بأس اللَّه وعذابه فصرتم أنتم ممتنعين عنه بما معكم، فمن ينصرنا من عذاب اللَّه وليس معنا ذلك؟! وإن كان يعلم حقيقة أن ما معهم من الغلبة لا يمنع من عذاب اللَّه، لكن قال ذلك بناء على اعتقادهم؛ إظهارًا للعذر عندهم؛ كي لا يقدموا على قتله لصيانة حياته، ومثل هذا لا بأس به، واللَّه أعلم.
والثاني: يقول على الرفق بهم وإظهار الموافقة لهم في الظاهر؛ يقول: إنه قد جاءنا من اللَّه البينات ما أوضح الحق وبين السبيل، فإذا رددنا ذلك وكذبناهم جاءنا بأس اللَّه جملة وعذابه، فمن يمنعنا عنه وينصرنا من عذابه إذا خالفنا أمره وتركنا اتباع دينه؟! على هذين القولين يخرج القول منه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى).
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ما آمركم إلا بما رأيته لنفسي.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما أختار لكم إلا ما أختار لنفسي ذلك، لكن ليس للَّعِين أن يختار لهم ما اختار لنفسه؛ لأن ما اختار لنفسه باطل فاسد، وكذب اللعين أيضًا حيث قال: ما أختار لكم إلا ما أختار لنفسي؛ لأنه اختار لهم أن يعبدوه ولم يختر لنفسه عبادة أُولَئِكَ أن يعبدهم، فهو كذب من القول.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ).
كذب أيضًا في قوله: إنه لا يهديهم إلا سبيل الرشاد، بل كان يهديهم سبيل الغي.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ... (٣١).
كأن فيه إضمار القول: إني أخاف عليكم يوما مثل يوم الأحزاب، ويوما مثل يوم قوم نوح وعاد، فهو - واللَّه أعلم - صلة قوله فيما تقدم: (يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا) وعظهم مرة واحتج عليهم بما جاءهم موسى بالبينات؛ حيث قال: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ)،

صفحة رقم 24

وتتركون اتباعه وتتبعون رجلا لم يأتكم بالبينات، هذا منه احتجاج عليهم: أن كيف تقتلون رجلا وتتركون اتباعه بعد ما جاءكم بالبينات من ربكم، وتتبعون من لا بينة معه ولا برهان؟! يسفههم في صنيعهم الذي أرادوا أن يصنعوا به، واللَّه أعلم، ووعظهم أيضًا وعظًا لطيفًا فيه رفق حيث قال: (يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا) يقول - واللَّه أعلم -: إنكم إن قتلتم ذلك الرجل بعدما جاءكم بالبينات وتركتم اتباعه، فجاءكم عذاب اللَّه وبأسه، فمن ينصركم عن ذلك العذاب ويمنعكم عنه إذا قتلتم نبيه بغير حق؟! ثم وعظهم وعظًا بما نزل بمكذبي من كان قبلهم من الرسل حيث قال: (مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ. مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ) يقول: إني أخاف عليكم أن ينزل بكم ويقع عليكم من عذاب اللَّه بتكذيبكم الرسول موسى - عليه السلام - وترككم اتباعه بعدما جاءكم بالبينات أنه رسول وأنه صادق فيما يقول ويدعي، كما نزل ووقع من العذاب بالأحزاب الذين كانوا من قبلكم ممن ذكر بتكذيبهم الرسل واستقبالهم إياهم بما استقبلوا بعد ظهور صدقهم عندهم بما تستقبلون أنتم رسولكم موسى، بعدما ظهر صدقه عندكم بالبينات التي جاءكم، واللَّه أعلم.
ثم ما ذكر من الأحزاب فيحتمل أن يكون تفسيره ما ذكر على أثره من قوم نوح وعاد وثمود، ويحتمل سواهم من الأمم، واللَّه أعلم.
ثم قوله: (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: مثل صنيع قوم نوح ومن ذكر وفعلهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: مثل عذاب قوم نوح ومن ذكر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ).
في هذه الآية للمعتزلة نوعُ تعلقٍ؛ يقولون: إن اللَّه تعالى قد أراد من العباد ما يفعلون من أفعال الظلم والجور، وقد أخبر اللَّه تعالى أنه لا يريد ظلمًا للعباد.
ولكن الآية في التحقيق عليهم؛ لأنه قال في آية أخرى: (يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ)، أخبر أنه أراد ألا يجعل لهم حَظًّا فِي الْآخِرَةِ، ولو لم يرد منهم ما يستوجبون به العذاب كان في تعذيبه إياهم ظالما على زعمهم؛ دل أنه أراد منهم ما يستوجبون به العذاب وهو فعل الظلم، واللَّه أعلم.
ثم تأويل الآية يخرج على وجهين:
أحدهما: أن الإرادة هي صفة كل فاعل يفعل عن اختيار، فكأنه قال: واللَّه لا يظلم عباده؛ كقوله تعالى: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

صفحة رقم 25
تأويلات أهل السنة
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي
تحقيق
مجدي محمد باسلوم
عدد الأجزاء
1