
وقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ الضميرُ في: يَسِيرُوا لكفارِ قُرَيْشٍ، والآثارُ في الأرضِ هي المبانِي والمآثِرُ والصِّيتُ الدُّنْيَوِيُّ، وذُنُوبُهُمْ كانَتْ تكذيبَ الأنبياءِ، والواقي الساترُ المانعُ مأخوذٌ مِن الوِقَايةِ، وباقي الآيةِ بيِّن، وخصَّ تعالى هَامَانَ وقَارُونَ بالذِّكْرِ تَنْبِيهاً على مكانِهِما من الكُفْرِ ولكَوْنِهِمَا أشْهَر رِجَالِ فرعونَ، / وقيل: إن قارونَ هذا لَيْسَ بقارون بني إسرائيل، وقيلَ: هو ذلكَ، ولكنَّه كانَ منقطعاً إلى فرعونَ خادماً له مُسْتَغْنِياً معه.
وقوله: ساحِرٌ أي: في أمر العصا، وكَذَّابٌ في قوله: إني رسولُ اللَّهِ، ثم أخبرَ تعالى عنهم أنهم لما جَاءَهُمْ موسى بالنبوّة والحقِّ من عند اللَّهِ قال هؤلاءِ الثَّلاثَةُ وأَجْمَعَ رَأْيُهم على أَنْ يُقَتَّلَ أَبْنَاءُ بني إسرائيلَ أَتْبَاعِ موسى، وشُبَّانُهُمْ وَأَهْلُ القُوَّةِ مِنْهُمْ، وأن يُسْتَحْيَا النساءُ لِلْخِدْمَةِ وَالاسْتِرْقَاقِ، وهذا رجوعٌ منهم إلى نحو القتل الأولِ الذي كان قَبْلَ ميلادِ موسى، ولكنَّ هذا الأخيرَ لم تتمّ لهم فيه عزمة، ولا أعانَهُمُ اللَّه تعالى على شَيْءٍ منه، قال قتادة: هذا قَتَلٌ غيرُ الأولِ الذي [كانَ] حَذَرَ المولودِ «١»، وسَمَّوْا مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ بني إسرائيلَ أَبْنَاءَ كما تقولُ لأَنْجَادِ القبيلةِ أو المدينةِ وأَهْلِ الظُّهُورِ فِيها: هؤلاءِ أبناءُ فُلاَنَةٍ.
وقوله تعالى: وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ عبارةٌ وَجِيزَةٌ تُعْطي قوَّتُها أنَّ هؤلاءِ الثلاثةَ لَمْ يُقْدِرْهُمُ اللَّهُ تعالى على قتلِ أحدٍ مِنْ بني إسرائيل، ولاَ نَجَحَتْ لهم فيهم سعاية.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٢٦ الى ٣٣]
وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠)
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣)

وقوله تعالى: وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى... الآية، الظاهرُ مِنْ أمرِ فِرْعَوْنَ أنه لمَّا بهرتهم آيات موسى ع انهد رُكْنُهُ، واضطربت معتقداتُ أَصْحَابِهِ، ولم يَفْقِدْ مِنْهُمْ من يجاذبُهُ الْخِلاَفُ في أمْرِه، وذلك بَيِّنٌ مِنْ غَيرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ قِصَّتهما، وفي هذه الآية على ذلك دَلِيلاَنِ:
أحدُهما: قوله: ذَرُونِي فليستْ هذه مِنْ ألفاظِ الجَبَابِرَةِ المتمكِّنِينَ مِنْ إنفاذ أوامِرِهمْ.
والدليل الثاني: مَقَالَةُ المُؤْمِنِ وَمَا صَدَعَ به، وإنَّ مكاشَفَتَهُ لِفِرْعَوْنَ أكْثَرُ مِنْ مُسَاتَرَتِهِ، وحُكْمُه بِنُبُوَّةِ موسى أظْهَرُ/ من تَوْرِيَتِهِ في أَمْرِهِ، وأَمَّا فِرْعَوْنُ فإنما نَحا إلى المَخْرَقَةِ والتَمْوِيهِ والاضْطرابِ، ومن ذلك قوله: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ أي: إني لا أبالي بربِّ موسى، ثم رجَعَ إلى قومِه يُرِيهُم النَّصِيحَةَ والحمايةُ لهم، فقالَ: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ والدين: السلطانُ ومنه قولُ زُهَيْرٍ: [البسيط]
لَئِنْ حَلَلْتَ بِحَيٍّ في بَنِي أَسَدٍ | في دِينِ عَمْرٍو وَحَالَتْ بَيْنَنَا فَدَكُ «١» |
(٢) ينظر: «السبعة» (٥٦٩)، و «الحجة» (٦/ ١٠٧)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٢٦٥)، و «معاني القراءات» (٢/ ٣٤٤)، و «شرح الطيبة» (٥/ ٢٠٥)، و «العنوان» (١٦٧)، و «حجة القراءات» (٦٢٩)، و «شرح شعلة» (٥٧٠)، و «إتحاف» (٢/ ٤٣٦).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٥٥٥).

عَنِ المَرْءِ لاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ | فَكُلُّ قَرِينٍ بِالمُقَارَنِ مُقْتَدِ «١» |
قال الثعلبيُّ: قال ابنُ عباس وأكْثَرُ العُلَمَاءِ: كانَ اسمُهُ «حَزْقِيلَ» «٤»، وقيل: حَزِيقَال، وقيل: غير هذا، انتهى.
وقوله: يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ قال أبو عُبَيْدَةَ وغَيْره: بَعْضُ هنا بمعنى:
«كل» «٥»، وقال الزَّجَّاج: هو إلْزَامُ الحُجَّةِ بِأَيْسَرِ ما في الأمرِ «٦»، وليسَ فيه نَفْيُ إصَابَةِ الكُلِّ، قال ع «٧» : ويظهرُ لي أنَّ المعنى: يُصِبْكُمُ القَسْمُ الواحدُ مما يَعِدُ بِهِ، [لأنَّه ع وَعَدَهُمْ إنْ آمَنُوا بالنَّعِيمِ، وإنْ كَفَرُوا بالعذابِ الأَلِيمِ، فإن كانَ صادِقاً، فالعذابُ بَعْضُ مَا وعد به] «٨»، وقول المؤمن: يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ اسْتِنْزَالٌ لهم وَوَعْظٌ.
وقوله: فِي الْأَرْضِ يريدُ أرْضَ مِصْرَ، وهذه الأقوالُ تَقْتَضِي زَوالَ هَيْبَةِ فرعونَ
ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٥٥٦).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١/ ٥٤) برقم: (٣٠٣٢٣) عن السدي، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٩٦)، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٥٥٦)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٧٧).
(٣) ينظر: «الفخر الرازي» (٢٧/ ٥٠). [.....]
(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٩٦) عن ابن عبّاس، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٦٥٥)، وعزاه لابن المنذر.
(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٩٦)، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٥٥٦).
(٦) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٥٥٦).
(٧) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٥٥٦).
(٨) سقط في: د.

ولذلكَ اسْتَكَانَ هُوَ، وَرَاجَعَ بقوله: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرى واخْتَلَفَ الناسُ مِنَ المُرَادِ بقوله تعالى: وَقالَ الَّذِي آمَنَ، فقالَ الجمهورُ: هو المُؤْمِنُ المَذْكُورُ قَصَّ اللَّهُ تعالى أقاويله إلى آخر الآيات، وقالت فرقةٌ: بلْ كَلاَمُ ذلك المُؤْمِنِ قد تَمَّ وإنما أراد تعالى:
ب الَّذِي آمَنَ موسى ع مُحْتَجِّينَ بقوَّةِ كَلاَمِهِ، وذكْرِ عذابِ الآخرةِ وغير ذلك ولم يَكُنْ كَلاَمُ الأوَّلِ إلا بملاينةٍ لهم.
وقوله: مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ أي: مثلَ يَوْمٍ منْ أَيَّامِهِمْ لأنَّ عذابَهُمْ لم يكُنْ في عَصْرٍ واحِدٍ، والمرادُ بالأحزابِ المُتَحَزِّبُونَ على الأنبياء، ومِثْلَ الثاني: بدلٌ مِن الأوَّل، والدَّأْبُ: العادةُ، «ويوم التنادي» معناه: يَوْمَ يُنَادِي قَومٌ قَوْماً، ويناديهمُ الآخرُونَ واختلف في التنادِي المُشَارِ إلَيْهِ، فقال قتادةُ: هو نِدَاءُ أهْلِ الجَنَّةِ أَهْلَ النارِ، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا «١» [الأعراف: ٤٤] وقيل: هو النداءُ الذي يَتَضَمَّنهُ قوله تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الإسراء: ٧١] قال ع «٢» : ويحتملُ/ أَنْ يكُونَ المُرَادُ التَّذْكِيرَ بِكُلِّ نِدَاءٍ في الْقَيَامَةِ فيه مَشَقَّةٌ على الكُفَّار والعُصَاةِ وذلك كثِيرٌ. وقرأ ابن عبَّاس والضَّحَّاك وأبو صَالِحٍ: «يوم التَنَادِّ» بشدِّ الدال «٣» وهذا معنًى آخرُ لَيْسَ من النداءِ، بل هُو مِنْ: نَدَّ البعيرُ:
إذا هَرَبَ وبهذا المعنى فسَّر ابنُ عبَّاسٍ والسُّدِّيُّ هذه «٤» الآيةَ، وَرَوَتْ هذه الفِرْقَةُ، في هذا المعنى حَدِيثاً أنَّ اللَّهَ تعالى إذا طَوَى السَّمَوَاتِ نَزَلَتْ مَلاَئِكَةُ كُلِّ سَمَاءٍ، فكانَتْ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ مستديرةً بالأرْضِ التي عليها الناسُ لِلْحِسَابِ فَإذَا رَأَى الخَلْقُ هولَ القيامةِ، وأخْرَجَتْ جَهَنَّمُ عنقاً إلى أصحابها، فَرَّ الكُفَّارُ ونَدُّوا مدْبِرينَ إلى كل جهةٍ، فتردُّهم الملائِكَةُ إلَى المَحْشَرِ لا عَاصِمَ لهم، والعاصم: المنجي.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٥٥٨).
(٣) وقرأ بها الكلبي.
ينظر: «المحتسب» (٢/ ٢٤٣)، و «الشواذ» ص: (١٣٣)، و «المحرر الوجيز» (٤/ ٥٥٨)، و «البحر المحيط» (٧/ ٤٤٤)، وزاد نسبتها إلى ابن مقسم، والزعفراني. وهي في «الدر المصون» (٦/ ٣٩).
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١/ ٥٧) برقم: (٣٠٣٣٥) عن الضحاك، (٣٠٣٣٦) عن السدي، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ٩٧)، وابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٥٥٨)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٧٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٦٥٦)، وعزاه لابن المبارك، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن الضحاك.