
ج ١ والآية ٦ من سورة هود المارة فراجعها. هذا، وقد جاء دعاء الملائكة شاملا وكأنها القائل:
إن تغفر اللهم فاغفر جمّا | فأي عبد لك لا ألمّا |
«قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ» الموتة الأولى حينما أشهدهم على أنفسهم في عالم الذر وأخذ عليهم العهد بالإيمان به وبرسله، راجع الآية ١٥٢ من سورة الأعراف في ج ١، ثم خلقهم بعد هذه الموتة التي كانوا بعدها في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات مستقرين ومستودعين، ثم أماتهم بعد انقضاء آجالهم في الدنيا، والموتة الثانية في القبر بعد الإحياء للسؤال «وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ» الأولى في الدنيا بالولادة والظهور إلى عالم الظهور من دنيك المستودع والمستقر راجع الآية ٩٩ من سورة الأنعام المارة، قال الغزالي: الولادة الأولى الخروج من الصلب والترائب إلى مستودع الأرحام فهو في الرحم في قرار مكين إلى قدر معلوم، ثم تكون الولادة الثانية من الرحم إلى هذه الدنيا، والحياة الثانية الإحياء للبعث في الآخرة، ونظير هذه الآية الآية ٢٩ من سورة البقرة فراجعها. هذا، وقد عدد في هذه الآية أحوال المحنة والبلاء أربعة: موت في عالم الذر وموت في الدنيا وحياة في الدنيا وحياة في الآخرة، وكلها عرضة إلى المحن والبلايا، وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على عذاب القبر وفسروا الحياة الثانية فيه والموتة الثانية صفحة رقم 571

التي تعقب هذه الحياة، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية ٤٦ من هذه السورة، وقالوا أيضا لربهم «فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا» الآن وتبنا عما كنّا عليه في الدنيا «فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ١١» للرجوع إلى الدنيا لنعمل صالحا يا إلهنا لأنا عرفنا كل شيء كنا نكرهه وننكره أنه حق كالبعث وإنزال الكتب وإرسال الرسل والجنة والنار وغيرها والحساب والعقاب على كل ذرة من الأفعال وكل حرف من الأقوال وكل حركة من الأطوار وكل فتيل ونفير وقطمير، وتحقق لدينا أن الشرك باطل والأوثان لا تنفع وأن الملائكة وعزير وعيسى عباد الله تعالى ليس لهم من الأمر شيء ولا شفيع ولا شفاعة إلا بإذن الله لمن يريده، وأن الله منزه عن الصاحبة والولد لا وزير له ولا شريك. فقيل لهم لا طريق إلى الرجوع إلى الدنيا ولا سبيل إلى الخروج من النار «ذلِكُمْ» الذي أوقعكم في العذاب وحرمكم من ثواب الآخرة منّى لكم الرجوع إلى الدنيا هو «بِأَنَّهُ» كنتم «إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ» به واشمأزت نفوسكم من ذكره «وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا» تصدقوا وتستبشروا، وقد بلغتكم رسلكم مصيره وحذرتكم هول هذا اليوم الذي تخلدون فيه بما أنتم عليه من العذاب، وليس بوسع أحد إجابة طلبكم، ثم تقول لهم الملائكة أيضا قولوا كما نقول نحن لا مناص مما حكم الله به «فَالْحُكْمُ لِلَّهِ» في هذا اليوم العصيب «الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ١٢» الذي لا أعلى ولا أكبر منه، ولا رادّ لحكمه ولا معقب لقضائه.
مطلب احتجاج الحرورية ومعنى الروح وإعلان التفرد بالملك وإجابة الكل لله به:
قيل كان الحرورية أخذوا قولهم لا حكم إلا لله من هذه الآية، قال قتادة:
لما خرج أهل حروراء قال علي كرم الله وجهه من هؤلاء؟ قيل المحكمون أي القائلون لا حكم إلا لله، فقال رضي الله عنه: كلمة حق أريد بها باطل. واستدلالهم هذا فاسد واه، ويكفي الرد عليهم قوله تعالى (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) الآية ٣٥ من سورة النساء ج ٣ وقوله تعالى (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) الاية ٩٥ من المائدة ج ٣، فإذا كان جل جلاله أمر بالتحكيم لحل خلاف بين الزوجين وتقدير قيمة الحيوان المصاد أو مثله فلئن يأمر بالإصلاح بين المسلمين على

طريق التحكيم من باب أولى وخاصة ما يتعلق بأمر الإمامة. قال تعالى «هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ» الدالة على قدرته في كل شيء من مكوناته:
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
قالا أو حالا «وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً» ماء هو نفسه رزق، وفي الآية ٥ من سورة الجاثية الآتية (مِنْ رِزْقٍ) لأنه أفضل الأرزاق وأحوجها للبشر، ويتسبب عن نزوله جميع الأرزاق لجميع الحيوانات على اختلاف أجناسها وأنواعها وفصائلها شرابا وقوتا وفاكهة غطاء ووطاء ولباسا «وَما يَتَذَكَّرُ» في هذا الرزق الذي فيه حياة كل نام وبقاء كل جامد «إِلَّا مَنْ يُنِيبُ ١٣» إلى خالقه في جميع أموره، فالخاشع الخاضع هو الذي يتذكر في تلك الآيات الباهرات المبرهنة على وجود الخالق وصدق ما جاء به رسله، ولذلك «فَادْعُوا اللَّهَ» أيها الناس حالة كونكم «مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» من كل شك وريبة وشبهة ومرية «وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ١٤» إنابتكم وإخلاصكم فلا تلتفتوا إليهم، وألجئوا إلى ربكم ذلك الإله العظيم «رَفِيعُ الدَّرَجاتِ» المعارج المعظمة في غيوبه وفي صفات جماله وجلاله وكماله وهي مصاعد الملائكة إلى عرشه العظيم حين يعرضون إليه عليها وهو كناية في علو عزّته وشامخ ملكوته ورفعة شأنه وارتفاع سلطانه وسامي برهانه، ورفيع وما بعده اخبار لقوله تعالى (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ) إلخ أو كل منها خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو رفيع، وكلمة رفيع لم تكرر في القرآن «ذُو الْعَرْشِ» المجيد الذي وسع كرسيه السموات والأرض وهو الذي «يُلْقِي الرُّوحَ» التي هي «مِنْ أَمْرِهِ» ولم يعلم أحد ماهيتها، أو الوحي المعبر عنه بالروح لما فيه من حياة الأرواح «عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» الذين اصطفاهم لطاعته واجتباهم لرسالته، وقال بعضهم إن الروح هنا جبريل عليه السلام (فتكون جملة من أمره) سببية، أي يلقى الروح من أجل تبليغ أمره، ولا يخفى أن الروح يطلق على معان كثيرة الروح المعلوم والقرآن وجبريل والوحي، وكلها ينعم الله بها على عبادة المهتدين في تفهيم الإيمان والمعقولات الشريفة، والكل جائز هنا، والأولى أن يكون بمعنى الوحي لمناسبته لما بعده، والله أعلم. وقد أسهبنا البحث في الآية ٨٦ من سورة

الإسراء فراجعها في ج ١ «لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ١٥» هو يوم القيامة إذ يتلاقى فيه الأولون والآخرون وأهل الأرض والسماء والأنبياء وأممهم والعابدون والمعبودون والظالمون والمظلومون والمتحابّون في الله، فتراهم «يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ» ظاهرون للعيان لا يخفى أحد عن أحد، لأن الله يعطي الخلق قوة الإبصار بحيث يرى بعضهم بعضا جميعا، لا تحول رؤية أحد عن أحد، ثم يتجلى عليهم بحيث «لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ» من أشخاصهم، ولا من أحوالهم وأفعالهم، كيف وهو المطلع عليهم في حين كونهم في الرحم إلى وقت وقوفهم بين يديه في الآخرة إلى ما بعد ذلك، لا يعزب عن علمه ذرة مما عملوه في الدنيا وما يصيبهم مثلها في الآخرة وإنما خصّ يوم بروزهم وهو عالم قبل ذلك وبعده، ولو اختفوا في أطباق الأرض أو في أقطار السماء، لأنهم كانوا في الدنيا يتوهمون أنه لا يراهم إذا استتروا بالحجب وأنه قد تخفى عليه بعض أحوالهم، أما اليوم فقد زال توهمهم وانمحق ظنهم، لأنهم مكشوفون على وجه البسيطة التي لا عوج فيها ولا ارتفاع، ثم يقول الله تعالى لجميع خلقه «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ» فتخضع الخلائق إجلالا لهيبته وإعظاما لجلاله وخاصة ملوك الدنيا فإنهم ينحنون لعظمته ويطأطئون رءوسهم لجلاله حياء وخجلا لا يتكلم أحد منهم، فيجيب الربّ نفسه بنفسه «لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» ١٦ الذي قهر عباده بالموت وبعثهم قسرا للحساب والجزاء الذي لا رب غيره. وقيل إن أهل الموقف كلهم بلسان واحد يقولون لله الواحد القهار، فالمؤمنون على طريق التلذذ والتذكر والكافرون على جهة الذل والصغار. وما قيل إن هذا النداء يكون بعد النفخة الأولى وفناء العالم ينافيه ظاهر الآية، لأن التلاقي لا يكون إلا بعد النفخة الثانية، والبروز يكون في المحشر، والنداء يكون لحاضر يسمع لا لميت، فبطل هذا القيل من ثلاث وجوه، ويؤكد بطلانه الدليل الرابع وهو قوله عز قوله «الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» في دنياها «لا ظُلْمَ الْيَوْمَ» على أحد منكم، ولا يكون هذا إلا يوم الحساب إذ يحاسب فيه كل على ما عمل إن خيرا يكافى خيرا منه وإن شرا يجازى شرا بمثله، الحقير والخطير والقوي والضعيف والغني والفقير سواء، فليأمن الكل من الظلم لأن
الحاكم هو ملك الملوك وقاضي

القضاة الذي لا يبالي بأحد ولا يراعي أحدا «إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ١٧» يحاسب الخلق كلهم بآن واحد محاسبة شخص واحد، لا يشغله حساب أحد عن غيره ولا يلهينه جزاء واحد عن الآخر، كما لا يشغله شأن عن شأن. انتهى خطاب الله لخلقه الذي سيخاطبهم به في الآخرة، وقد أعلمهم به الآن ليكونوا على بصيرة من أمرهم فيتفوه ويحذروه ويخافوه. ثم التفت إلى حبيبه محمد صلّى الله عليه وسلم فقال «وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ» القيامة سميت آزفة لقرب وقتها، لأنها لا شك آتية وكل آت قريب، ولا يبعد على الله شيء قال الشاعر:
أزف الرحيل غير أن ركابنا | لما تزل برحالنا وكأن قد |
رب من أنضجت غيظا قلبه | قد تمنى لي موتا لم يطع |