
الْإِيمَانِ وَفِي الذَّبِّ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ وَبِمَالِهِ، وَعَلِيٌّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ صَبِيًّا مَا كَانَ أَحَدٌ يُسَلِّمُ بِقَوْلِهِ، وَمَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الذَّبِّ عَنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَكَانَ جِهَادُ أَبِي بَكْرٍ أَفْضَلَ مِنْ جِهَادِ عَلِيٍّ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ جِهَادَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ حِينَ كَانَ الْإِسْلَامُ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، وَأَمَّا جِهَادُ عَلِيٍّ فَإِنَّمَا ظَهَرَ فِي الْمَدِينَةِ فِي الْغَزَوَاتِ، وَكَانَ الْإِسْلَامُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَوِيًّا. وَالثَّانِي: أَنَّ جِهَادَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ، وَأَكْثَرُ أَفَاضِلِ الْعَشَرَةِ إِنَّمَا أَسْلَمُوا عَلَى يَدِهِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْجِهَادِ هُوَ حِرْفَةُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَمَّا جِهَادُ عَلِيٍّ فَإِنَّمَا كَانَ بِالْقَتْلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَفْضَلُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِالْعَمَلِ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْعَمَلِ لَمَّا أَوْجَبَ التَّفَاوُتَ فِي الثَّوَابِ وَالْفَضِيلَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الثَّوَابِ هُوَ الْعَمَلُ، وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يَكُنِ الْعَمَلُ مُوجِبًا لِلثَّوَابِ لَكَانَ الثَّوَابُ هِبَةً لَا أَجْرًا، لَكِنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُ أَجْرًا، فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ:
الْعَمَلُ علة الثواب لكن لا لذاته، بل بجعل الشَّارِعُ ذَلِكَ الْعَمَلَ مُوجِبًا لَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالنَّوَافِلِ أَفْضَلُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالنِّكَاحِ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَلَوْ كَانَ الْجِهَادُ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ لَمَا كَانَ الْقَاعِدُ عَنِ الْجِهَادِ مَوْعُودًا مِنْ عِنْدِ اللَّه بِالْحُسْنَى.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا قَامَتْ طَائِفَةٌ بِالْجِهَادِ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنِ الْبَاقِينَ، فَلَوْ أَقْدَمُوا عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ مِنَ النَّوَافِلِ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمُجَاهِدِينَ سَوَاءٌ كَانَ جِهَادُهُ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا، وَالْمُشْتَغِلُ بِالنِّكَاحِ قَاعِدٌ عَنِ الْجِهَادِ، فَثَبَتَ أَنَّ الِاشْتِغَالَ/ بِالْجِهَادِ الْمَنْدُوبِ أفضل من الاشتغال بالنكاح واللَّه أعلم.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٩٧ الى ٩٩]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩)
[في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ ثَوَابَ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْجِهَادِ أَتْبَعَهُ بِعِقَابِ مَنْ قَعَدَ عَنْهُ وَرَضِيَ بِالسُّكُونِ فِي دَارِ الْكُفْرِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ تَوَفَّاهُمُ مَاضِيًا وَلَمْ تَضُمَّ تَاءً مَعَ التَّاءِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا [الْبَقَرَةِ: ٧٠] وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ إِخْبَارًا عَنْ حَالِ أَقْوَامٍ مُعَيَّنِينَ انْقَرَضُوا وَمَضَوْا، وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ مُسْتَقْبَلًا، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ الآية عامة في حق كل من كان بِهَذِهِ الصِّفَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذَا التَّوَفِّي قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مَعْنَاهُ تَقْبِضُ أَرْوَاحَهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها

[الزُّمَرِ: ٤٢] الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْمُلْكِ: ٢] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٨] وَبَيْنَ قَوْلِهِ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السَّجْدَةِ: ١١].
قُلْنَا: خَالِقُ الْمَوْتِ هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَالرَّئِيسُ الْمُفَوَّضُ إِلَيْهِ هَذَا الْعَمَلُ هُوَ مَلَكُ الْمَوْتِ/ وَسَائِرُ الْمَلَائِكَةِ أَعْوَانُهُ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ يَعْنِي يَحْشُرُونَهُمْ إِلَى النَّارِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي خَبَرِ (إِنَّ) وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ هُوَ قَوْلُهُ: قَالُوا لَهُمْ فِيمَ كُنْتُمْ، فَحَذَفَ «لَهُمْ» لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْخَبَرَ هُوَ قَوْلُهُ: فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ فَيَكُونُ (قَالُوا لَهُمْ) فِي مَوْضِعِ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْخَبَرَ مَحْذُوفٌ وَهُوَ هَلَكُوا، ثُمَّ فَسَّرَ الْهَلَاكَ بِقَوْلِهِ: قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَالْمَعْنَى تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ فِي حَالِ ظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ، وَهُوَ وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى الْمَعْرِفَةِ إِلَّا أَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الِانْفِصَالِ، كَأَنَّهُ قِيلَ ظَالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ، إِلَّا أَنَّهُمْ حَذَفُوا النُّونَ طَلَبًا لِلْخِفَّةِ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِ الْحَالُ أَوِ الِاسْتِقْبَالُ فَقَدْ يَكُونُ مَفْصُولًا فِي الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا فِي اللَّفْظِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا [الْأَحْقَافِ: ٢٤] هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [الْمَائِدَةِ: ٩٥] ثانِيَ عِطْفِهِ [الْحَجِّ: ٩] فَالْإِضَافَةُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا لَفْظِيَّةٌ لَا مَعْنَوِيَّةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الظُّلْمُ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْكُفْرُ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: ١٣] وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَعْصِيَةُ فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ [فَاطِرٍ: ٣٢] وَفِي الْمُرَادِ بِالظُّلْمِ فِي هَذِهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فِي دَارِ الْكُفْرِ وَبَقُوا هُنَاكَ، وَلَمْ يُهَاجِرُوا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. الثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ لِلْمُؤْمِنِينَ خَوْفًا، فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ أَظْهَرُوا لَهُمُ الْكُفْرَ وَلَمْ يُهَاجِرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِنِفَاقِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَتَرْكِهِمُ الْهِجْرَةَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: فِيمَ كُنْتُمْ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ. وَثَانِيهَا: فِيمَ كُنْتُمْ فِي حَرْبِ مُحَمَّدٍ أَوْ فِي حَرْبِ أَعْدَائِهِ. وَثَالِثُهَا: لِمَ تَرَكْتُمُ الْجِهَادَ وَلِمَ رَضِيتُمْ بِالسُّكُونِ فِي دِيَارِ الْكُفَّارِ؟
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمْ فِيمَ كُنْتُمْ وَكَانَ حَقُّ الْجَوَابِ أَنْ يَقُولُوا: كُنَّا فِي كَذَا، أَوْ لَمْ نَكُنْ فِي شَيْءٍ.
وَجَوَابُهُ: أَنَّ مَعْنَى فِيمَ كُنْتُمْ التَّوْبِيخُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ حَيْثُ قَدَرُوا عَلَى الْمُهَاجَرَةِ وَلَمْ يُهَاجِرُوا، فَقَالُوا: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ اعْتِذَارًا عَمَّا وُبِّخُوا بِهِ، وَاعْتِلَالًا بِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى الْمُهَاجَرَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُمْ هَذَا الْعُذْرَ بَلْ رَدُّوهُ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها أَرَادُوا أَنَّكُمْ كُنْتُمْ قَادِرِينَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَعْضِ الْبِلَادِ الَّتِي لَا تُمْنَعُونَ/ فِيهَا مِنْ إِظْهَارِ دِينِكُمْ، فَبَقِيتُمْ بَيْنَ الْكُفَّارِ لَا لِلْعَجْزِ عَنْ مُفَارَقَتِهِمْ، بَلْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى هَذِهِ الْمُفَارَقَةِ، فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى وَعِيدَهُمْ فَقَالَ:
فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً.

ثُمَّ اسْتَثْنَى تَعَالَى فَقَالَ: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْمَعْنَى لَا يَقْدِرُونَ عَلَى حِيلَةٍ وَلَا نَفَقَةٍ، أَوْ كَانَ بِهِمْ مَرَضٌ، أَوْ كَانُوا تَحْتَ قَهْرِ قَاهِرٍ يَمْنَعُهُمْ مِنْ تِلْكَ الْمُهَاجَرَةِ.
ثُمَّ قَالَ: وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا أَيْ لَا يَعْرِفُونَ الطَّرِيقَ وَلَا يَجِدُونَ مَنْ يَدُلُّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ.
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَى مُسْلِمِي مَكَّةَ فَقَالَ جُنْدَبُ بْنُ ضَمْرَةَ لِبَنِيهِ: احْمِلُونِي فَإِنِّي لَسْتُ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَلَا أَنِّي لَا أَهْتَدِي الطَّرِيقَ، واللَّه لَا أَبِيتُ اللَّيْلَةَ بِمَكَّةَ، فَحَمَلُوهُ عَلَى سَرِيرٍ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَدْخَلَ الْوِلْدَانِ فِي جُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ، فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا يَحْسُنُ لَوْ كَانُوا مُسْتَحِقِّينَ لِلْوَعِيدِ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ؟
قُلْنَا: سُقُوطُ الْوَعِيدِ إِذَا كَانَ بِسَبَبِ الْعَجْزِ، وَالْعَجْزُ تَارَةً يَحْصُلُ بِسَبَبِ عَدَمِ الْأُهْبَةِ وَتَارَةً بِسَبَبِ الصِّبَا، فَلَا جَرَمَ حَسُنَ هَذَا إِذَا أُرِيدَ بِالْوِلْدَانِ الْأَطْفَالُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْمُرَاهِقُونَ مِنْهُمُ الَّذِينَ كَمُلَتْ عُقُولُهُمْ لِتَوَجُّهِ التَّكْلِيفِ عَلَيْهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّه تَعَالَى، وَإِنْ أُرِيدَ الْعَبِيدُ وَالْإِمَاءُ الْبَالِغُونَ فَلَا سُؤَالَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَفِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا كَانُوا عَاجِزِينَ عَنِ الْهِجْرَةِ، وَالْعَاجِزُ عَنِ الشَّيْءِ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا بِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهِ عُقُوبَةٌ، فَلِمَ قَالَ:
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَالْعَفْوُ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا مَعَ الذَّنْبِ، وَأَيْضًا (عَسَى) كَلِمَةُ الْإِطْمَاعِ، وَهَذَا يَقْتَضِي عَدَمَ الْقَطْعِ بِحُصُولِ الْعَفْوِ فِي حَقِّهِمْ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْمُسْتَضْعَفَ قَدْ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ مَعَ ضَرْبٍ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَتَمْيِيزُ الضَّعْفِ الَّذِي يَحْصُلُ عِنْدَهُ الرُّخْصَةُ عَنِ الْحَدِّ الَّذِي لَا يَحْصُلُ عِنْدَهُ الرُّخْصَةُ شَاقٌّ وَمُشْتَبَهٌ، فَرُبَّمَا ظَنَّ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الْمُهَاجَرَةِ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْهِجْرَةِ عَنِ الْوَطَنِ فَإِنَّهَا شَاقَّةٌ عَلَى النَّفْسِ، وَبِسَبَبِ شِدَّةِ النَّفْرَةِ قَدْ يَظُنُّ الْإِنْسَانُ كَوْنَهُ عَاجِزًا مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الْعَفْوِ شَدِيدَةً فِي هَذَا الْمَقَامِ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي ذكر لفظة عَسَى هاهنا؟ فَنَقُولُ: الْفَائِدَةُ فِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْهِجْرَةِ أَمْرٌ مُضَيَّقٌ لَا تَوْسِعَةَ فِيهِ، حَتَّى أَنَّ الْمُضْطَرَّ الْبَيِّنَ الِاضْطِرَارِ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقُولَ: عَسَى اللَّه أَنْ يَعْفُوَ عَنِّي، فَكَيْفَ الْحَالُ فِي غَيْرِهِ. هَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ، إِلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لِشِدَّةِ نَفْرَتِهِ عَنْ مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ رُبَّمَا ظَنَّ نَفْسَهُ عَاجِزًا عَنْهَا مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَ الْعَفْوَ بِكَلِمَةِ عَسَى لَا بِالْكَلِمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقَطْعِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً ذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِي كانَ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: كَانَ قَبْلَ أَنْ خَلَقَ الْخَلْقَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ كانَ مَعَ أَنَّ جَمِيعَ الْعِبَادِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ عَادَةُ