
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً يعني يقتله متعمداً لأجل إيمانه، كما روي في الأثر أن بغض الأنصار كفر إن كان بغضهم لأجل نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكذلك هاهنا إذا قتله لأجل إيمانه صار كافراً. ويقال هو منسوخ بقوله تعالى وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: ٤٨، ١١٦] ويقال: معناه فجزاؤهم جهنم بقتله خالداً فيها بارتداده، لأن الآية نزلت في شأن رجل قتل مؤمناً متعمداً ثم ارتد عن الإسلام، وهو مقيس بن ضبابة، وجد أخاه هشام بن ضبابة قتيلاً في بني النجار، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث معه رسول الله ﷺ رجلاً من بني فهر إلى بني النجار، وأمره بأن يقرئهم السلام ويأمرهم بأن يطلبوا قاتله، فإن وجدوه قتلوه، وإن لم يجدوه حلفوا خمسين يميناً وغرموا الدية، فلما أتاهم مقيس بن ضبابة رسول الله ﷺ وبلغهم الرسالة، فقالوا سمعاً وطاعة لأمر الله ورسوله. وقالوا: ما نعرف قاتله، فحلفوا وغرموا الدية. فلما رجع مقيس بن ضبابة قال في نفسه: إني بعت دم أخي بمائة من الإبل. ودخلت فيه حمية الجاهلية، وقال: أقتل هذا الفهري مكان أخي، وتكون الدية فضلاً لي. فقتله وتوجه إلى مكة وقال في ذلك شعراً.
قتلت به فهراً وحملت عقله | سراة بني النجار أرباب فارع |
فأدركت ثأري واضطجعت موسدا | وكنت إلى الأوثان أول راجع |
ثم قال عز وجل:
[سورة النساء (٤) : آية ٩٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي يقول إذا خرجتم وصرتم في الجهاد فَتَبَيَّنُوا نزلت الآية في شأن أسامة بن زيد، لقي رجلاً يقال له مرداس فقال له مرداس: لا إله إلا الله. وسلم عليهم وقال: السلام عليكم إني مؤمن، فقتله أسامة ولم يصدقه بأنه مسلم، فأخبر بذلك رسول الله ﷺ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَقَتَلْتَ رَجُلاً يَقُولُ لا إله إلا الله» ؟ فقال أسامة: إنه قال بلسانه دون قلبه فقال صلى الله عليه وسلم: «هَلاَّ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ» فقال أسامة: استغفر لي فقال له: «فَكَيْفَ لَكَ بلا إله إلا الله». ثلاث مرات. ثم استغفر له الرابعة، وأمره بأن يعتق رقبة. صفحة رقم 328

وروى شهر بن حوشب عن جندب بن سفيان، عن رجل من بجيلة قال: كنت عند رسول الله ﷺ إذ جاءه بشير من السرية فأخبره بالفتح وقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما نحن نطلب القوم وقد هزمهم الله تعالى، فقصدت رجلاً بالسيف، فلما أحس أن السيف واقع به فقال إني مسلم فقتلته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَقَتَلْتَ مُسْلِماً!» فقال: يا رسول الله أنه قال متعوّذا فقال صلى الله عليه وسلم: «أَفَلاَ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ!» فقال يا رسول الله: استغفر لي فقال: «لاَ أَسْتَغْفِرُ لَكَ».
فمات الرجل فدفنوه، ثم أصبح على وجه الأرض ثم دفنوه، ثم أصبح على وجه الأرض ثلاث مرات، فلما رأى ذلك قومه استحيوا وحزنوا، فحملوه وألقوه في شعب من تلك الشعاب فنزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا أي قفوا وانظروا من تقتلون. قرأ حمزة والكسائي فَتَثَبَّتُوا بالثاء، وقرأ الباقون فَتَبَيَّنُوا بالباء، فمن قرأ بالثاء فهو من التثبت يقول: قفوا ولا تعجلوا في الأمر حتى يتبين لكم الكافر من المسلم. ومن قرأ بالباء فهو من التبين ومعناهما قريب.
ثم قال تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً قرأ أبو عمرو وعاصم وابن كثير والكسائي: السَّلامَ بالألف. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة السلم بغير ألف.
وأما من قرأ السَّلامَ فلأن مرداساً قال لهم: السلام عليكم. وأما من قرأ السلم فهو الدخول والانقياد والمتابعة، يعني إن انقاد لكم وتابعكم فلا تقولوا له لست مؤمناً، وأسلم واستسلم بمعنى واحد، أي دخل في الانقياد. كما تقول: أشتى الرجل إذا دخل في الشتاء، وأربع إذا دخل في الربيع. ثم قال: تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وذلك أن الرجل كانت معه غنيمة حين قتلوه، وأخذوا ما كان معه من الغنيمة، فعيّرهم الله تعالى بطمعهم في المال. ثم قال: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ أي عند الله ثواب كثير في الآخرة لمن اتقى، ويقال: غنائم كثيرة في الدنيا، فاطلبوا من حيث أذن لكم وأبيح لكم.
ثم قال تعالى: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ أي هكذا كنتم من قبل الهجرة بمنزلة مرداس، تأمنون في قومكم بالتوحيد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تخيفوا أحداً، وكنتم تأمنون بمثله قبل هجرتكم فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بالهجرة ويقال: هكذا كنتم يعني كنتم تكتمون إيمانكم من قبل، ويقال: أي كنتم كفاراً، فمنَّ الله عليكم بالإسلام. ثم قال تعالى: فَتَبَيَّنُوا أي قفوا وانظروا في أمركم لكي لا تقتلوا مؤمناً، فصارت الآية عامة لجميع السرايا إذا دخلوا دار الحرب ينبغي أن يتبينوا لكي لا يقتلوا مؤمناً. ثم قال: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً أي عالماً بكم وبأعمالكم.
ثم قال تعالى: