
لقذف اللَّه الرعب في قلوبهم، ولو شاء لمصلحة يراها من ابتلاء ونحوه لم يقذفه، فكانوا متسلطين مقاتلين غير مكافين، فذلك معنى التسليط. وقرئ: فلقتلوكم، بالتخفيف والتشديد فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فإن لم يتعرضوا لكم (وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) أى الانقياد والاستسلام. وقرئ بسكون اللام مع فتح السين فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم سَتَجِدُونَ آخَرِينَ هم قوم من بنى أسد وغطفان، كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا المسلمين، فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين أُرْكِسُوا فِيها قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه، وكانوا شراً فيها من كل عدوّ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ حيث تمكنتم منهم سُلْطاناً مُبِيناً حجة واضحة لظهور عداوتهم وانكشاف حالهم في الكفر والغدر، وإضرارهم بأهل الإسلام أو تسلطا ظاهراً حيث أذنا لكم في قتلهم.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٩٢ الى ٩٣]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (٩٣)
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وما صح له ولا استقام ولا لاق بحاله، كقوله: (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)، (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها). أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً ابتداء غير قصاص إِلَّا خَطَأً إلا على وجه الخطإ. فإن قلت: بم انتصب خطأ؟ قلت: بأنه مفعول له، أى ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطإ وحده. ويجوز أن يكون حالا بمعنى لا يقتله في حال من الأحوال إلا في حال الخطإ، وأن يكون صفة للمصدر إلا قتلا خطأ. والمعنى أن من شأن المؤمن أن ينتفي عنه وجود قتل المؤمن ابتداء البتة، إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد، بأن يرمى كافراً فيصيب مسلما، أو يرمى شخصا على أنه كافر فإذا هو مسلم. وقرئ: خطاء- بالمد- وخطا، بوزن عمى- بتخفيف الهمزة- وروى أنّ عياش بن أبى ربيعة- وكان أخا أبى جهل لأمّه- أسلم وهاجر خوفا من قومه إلى المدينة، وذلك قبل هجرة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فأقسمت أمه لا تأكل ولا تشرب ولا يؤويها سقف حتى يرجع. فخرج أبو جهل ومعه الحرث بن زيد بن أبى أنيسة فأتياه

وهو في أطم «١» فقتل منه أبو جهل في الذروة والغارب، وقال: أليس محمد يحثك على صلة الرحم، انصرف وبرّ أمك وأنت على دينك، حتى نزل وذهب معهما، فلما فسحا عن المدينة كتفاه، وجلده كل واحد مائة جلدة، فقال للحارث: هذا أخى، فمن أنت يا حارث؟ للَّه علىّ إن وجدتك خاليا أن أقتلك، وقدما به على أمه، فحلفت لا يحل كتافه أو يرتد، ففعل ثم هاجر بعد ذلك وأسلم، وأسلم الحارث وهاجر، فلقيه عياش بظهر قباء- ولم يشعر بإسلامه- فأنحى عليه فقتله، ثم أخبر بإسلامه فأتى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: قتلته ولم أشعر بإسلامه «٢»، فنزلت فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فعليه تحرير رقبة. والتحرير: الإعتاق. والحر والعتيق: الكريم، لأن الكرم في الأحرار كما أن اللؤم في العبيد. ومنه: عتاق الخيل، وعتاق الطير لكرامها. وحرّ الوجه: أكرم موضع منه. وقولهم للئيم «عبد» وفلان عبد الفعل: أى لئيم الفعل. والرقبة: عبارة عن النسمة، كما عبر عنها بالرأس في قولهم: فلان يملك كذا رأساً من الرقيق. والمراد برقبة مؤمنة: كل رقبة كانت على حكم الإسلام عند عامة العلماء. وعن الحسن: لا تجزئ إلا رقبة قد صلت وصامت، ولا تجزئ الصغيرة. وقاس عليها الشافعي كفارة الظهار، فاشترط الإيمان. وقيل: لما أخرج نفسا مؤمنة عن جملة الأحياء لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار، لأنّ إطلاقها من قيد الرق كإحيائها من قبل أن الرقيق ممنوع من تصرف الأحرار مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ مؤداة إلى ورثته يقتسمونها كما يقتسمون الميراث، لا فرق بينها وبين سائر التركة في كل شيء، يقضى منها الدين، وتنفذ الوصية وإن لم يبق وارثا فهي لبيت المال، لأن المسلمين يقومون مقام الورثة كما قال رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم «أنا وارث من لا وارث له» «٣» وعن عمر رضى اللَّه عنه أنه قضى بدية المقتول، فجاءت امرأته تطلب ميراثها من عقله فقال: لا أعلم لك شيئاً، إنما الدية للعصبة الذين يعقلون عنه. فقام الضحاك بن سفيان الكلابي فقال: كتب إلىّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يأمرنى أن أورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها أشيم. فورّثها عمر «٤»، وعن ابن مسعود:
(٢). أخرجه الثعلبي بغير سند، والواحدي عن ابن الكلبي. ورواه الطبري من طريق أسباط عن السدى بتغيير يسير، ولم يسم الحرث. فقال: ومعه رجل من بنى عامر وقال ابن إسحاق في المغازي: حدثني نافع عن ابن عمر عن أبيه قال «أبعدت أنا وعياش بن أبى ربيعة وهشام بن العاص: لما أردنا الهجرة. فأصبحت أنا وعياش.
وحبس عنا هشام وفتى. وخرج أبو جهل وأخوه الحرث إلى عياش بالمدينة فكلماه وقالا له: إن أمك نذرت أن لا تمس رأسها بمشط، فذكر القصة بطولها.
(٣). أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث المقدام بن معديكرب به، وأتم منه.
(٤). أخرجه أصحاب السنن من رواية سعيد بن المسيب «أن عمر رضى اللَّه عنه كان يقول: الدية للعاقلة، لا ترث المرأة من دية زوجها شيئا حتى قال له الضحاك بن سفيان كتب إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها. فرجع عمر رضى اللَّه عنه.

يرث كل وارث من الدية غير القاتل. وعن شريك: لا يقضى من الدية دين، ولا تنفذ وصية.
وعن ربيعة: الغرة لأم الجنين وحدها، وذلك خلاف قول الجماعة. (فان قلت) : على من تجب الرقبة والدية؟ قلت: على القاتل إلا أن الرقبة في ماله، والدية تتحملها عنه العاقلة، فإن لم تكن له عاقلة فهي في بيت المال، فإن لم يكن ففي ماله إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا إلا أن يتصدقوا عليه بالدية ومعناه العفو، كقوله: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) ونحوه (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «كل معروف صدقة «١» »، وقرأ أبىّ: إلا أن يتصدقوا. فإن قلت: بم تعلق أن يصدقوا، وما محله؟ قلت: تعلق بعليه، أو بمسلمة، كأنه قيل: وتجب عليه الدية أو يسلمها، إلا حين يتصدقون عليه. ومحلها النصب على الظرف بتقدير حذف الزمان، كقولهم: اجلس ما دام زيد جالسا.
ويجوز أن يكون حالا من أهله بمعنى إلا متصدقين مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ من قوم كفار أهل حرب وذلك نحو رجل أسلم في قومه الكفار وهو بين أظهرهم لم يفارقهم، فعلى قاتله الكفارة إذا قتله خطأ وليس على عاقلته لأهله شيء. لأنهم كفار محاربون. وقيل: كان الرجل يسلم ثم يأتى قومه وهم مشركون فيغزوهم جيش المسلمين، فيقتل فيهم خطأ لأنهم يظنونه كافراً مثلهم وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ كفرة لهم ذمة كالمشركين الذين عاهدوا المسلمين وأهل الذمة من الكتابيين، فحكمه حكم مسلم من مسلمين فَمَنْ لَمْ يَجِدْ رقبة، بمعنى لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها (ف) عليه فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ قبولا من اللَّه ورحمة منه، من تاب اللَّه عليه إذا قبل توبته يعنى شرع ذلك توبة منه، أو نقلكم من الرقبة إلى الصوم توبة منه. هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد والإبراق والإرعاد «٢» أمر عظيم وخطب غليظ. ومن ثم روى عن ابن عباس ما روى من أن توبة قاتل المؤمن عمداً غير مقبولة «٣». وعن سفيان: كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا:
(٢). قال محمود: «في هذه الآية من التهديد والوعيد والإبراق... الخ» قال أحمد: وكفى بقوله تعالى في هذه السورة (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) دليلا أبلج على أن القاتل الموحد- وإن لم يتب- في المشيئة وأمره إلى اللَّه، إن شاء آخذه وإن شاء غفر له. وقد مر الكلام على الآية، وما بالعهد من قدم.
وأما نسبة أهل السنة إلى الأشعبية، فذلك لا يضيرهم لأنهم إنما تطفلوا على لطف أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، ولم يقنطوا من رحمة اللَّه، إنه لا يقنط من رحمة اللَّه إلا القوم الظالمون. [.....]
(٣). متفق عليه من رواية سعيد بن حبيب عن ابن عباس في قوله: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) قال:
لا توبة له» وفي رواية لهما عنه «قال: قلت لابن عباس: ألمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة؟ قال: لا» (فائدة) قال ابن أبى شيبة: حدثنا يزيد بن هرون أنبأنا أبو مالك الأشجعى عن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: ألمن قتل مؤمنا توبة؟ قال: لا إلى النار، فلما ذهب قال له جلساؤه: ما هكذا كنت تفتينا، قد كنت تفتينا أن لمن قتل مؤمنا توبة مقبولة. فما بال هذا اليوم؟ قال: إنى أحسبه رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا. قال:
فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك».

لا توبة له، وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة اللَّه في التغليظ والتشديد، وإلا فكل ذنب ممحو بالتوبة. وناهيك بمحو الشرك دليلا. وفي الحديث «لزوال الدنيا أهون على اللَّه من قتل امرئ مسلم «١» وفيه «لو أن رجلا قتل بالمشرق وآخر رضى بالمغرب لأشرك في دمه «٢» » وفيه «إن هذا الإنسان بنيان اللَّه. ملعون من هدم بنيانه» وفيه «من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب «٣» بين عينيه آيس من رحمة اللَّه «٤» ». والعجب من قوم يقرؤن «٥» هذه الآية ويرون ما فيها ويسمعون هذه الأحاديث العظيمة، وقول ابن عباس بمنع التوبة.
ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة واتباعهم هواهم وما يخيل إليهم مناهم، أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغير توبة، أفلا يتدبرون القرآن، أم على قلوب أقفالها؟ ثم ذكر اللَّه سبحانه وتعالى التوبة في قتل الخطأ، لما عسى يقع من نوع تفريط فيما يجب من الاحتياط والتحفظ
ورواه ابن أبى شيبة وأبو يعلى من رواية الثوري عن يعلى بن عطاء به مرفوعا وأخرجه النسائي من وجه آخر مرفوعا.
وفي الباب عن بريدة، أخرجه النسائي وابن عدى. والبيهقي في الشعب، بلفظ، ولقتل مؤمن أعظم عند اللَّه من زوال الدنيا» وفيه بشر بن المهاجر وفيه ضعف وعن البراء بن عازب رضى اللَّه عنهما أخرجه ابن ماجة، والبيهقي بلفظ «لزوال الدنيا أهون على اللَّه من قتل رجل مؤمن- وزاد: والمؤمن أكرم عند اللَّه من الملائكة الذين عنده» وفي إسناده أبو المهزم يزيد بن سفيان.
(٢). لم أجده.
(٣). قوله «مكتوب» لعله مكتوبا. (ع)
(٤). أخرجه ابن ماجة وأبو يعلى والعقيلي وابن عدى من حديث أبى هريرة مثله. وإسناده ضعيف. ورواه ابن حبان في الضعفاء من رواية عمرو بن محمد الأعلم عن نجم بن سالم الأفطس عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن عمر به وقال. إنه حديث موضوع، لا أصل له من حديث الثقات، وعمرو، والأفطس لا يجوز الاحتجاج بهما بحال.
وقد أخرجه أبو نعيم في الحلية، وترجمه خلف بن حويشب من روايته عن الحكم بن عتيبة عن سعيد بن المسيب به وقال غريب تفرد به حكيم بن نافع عن خلف. وحكيم ضعيف إلا أنه يرد على كلام ابن حبان وفي الباب أيضا عن ابن عمر. أخرجه البيهقي في الشعب، في السادس والثلاثين. وعن ابن عباس، أخرجه الطبراني من رواية عبد اللَّه ابن حراش عن العوام بن حوشب عن مجاهد عنه.
(٥). قوله «والعجب من قوم يقرءون» فيه انتصار للمعتزلة وتشنيع على أهل السنة حيث ذهبوا إلى أنه يجوز غفران الكبائر بالتوبة أو بالشفاعة أو بمجرد فضل اللَّه، تمسكا بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) كما حقق في علم التوحيد وفي الصحاح: أشعب اسم رجل كان طماعا. وفي المثل «أطمع من أشعب» اه فالأشعبية: الخصلة التي تنسب إلى أشعب، وهي الطمع الشديد. (ع)