
أن يضيق صدره عن مقاتلة المؤمنين والكافرين جميعًا: إما بالطبع، أو بوفاء العهد، أو بالنظر في الأمر؛ ليتبين له الحق، وهو متردد في الأمر؛ بما يجد المعروفين بالكتب التي احتج بها الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مختلفين فيه على ما عقولهم مرتقب بهم، أو تخلف عن الإحاطة بحق الحق إلا بعد طول النظر، واللَّه أعلم؛ فيكون معنى قوله: (أَوْ جَاءُوكُمْ) بمعنى: وجاءوكم.
ويحتمل: في قوم سوى ما ذكرت من الذين يصلون، لكن في أُولَئِكَ المعاهدين نفسه الذين أبت أنفسهم نقض العهد بينهم وبين المؤمنين، وعزموا على الوفاء به، وأبت أنفسهم -أيضًا- معونة المؤمنين على قومهم بالموافقة بالمذهب والدِّين، وعلى ذلك وصف جميع المعاهدين الذين عزموا على الوفاء بالعهد، وذلك في حق الآيات التي ذكرنا، ثم بين الذين يناقضون العهد، أو المنافقين الذين متى سئلوا عن الكون على رسول اللَّه والعون لأعدائه - الأمر فيهم؛ وذلك كقوله تعالى: (يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ).
إلى قوله: (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا)، وتكون هذه الآية فيهم؛ كقوله - تعالى -: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ...) الآية؛ فيكون في هذه الآية الإذن، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ)
أي: نزع من قلوبهم الرعب والخوف؛ فقاتلوكم، ولم يطلبوا منكم الصلح والموادعة.
(فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ)
يعني: طلبوا الصلح، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رضي اللَّه عنه.
وقيل: قالوا: إنا على دينكم، وأظهروا الإسلام.
(فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا).
أي: حجة وسلطان القتال، أمر اللَّه رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالكف عن هَؤُلَاءِ.
ثم قال: (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ... (٩١)
قيل: كان رجال تكلموا بالإسلام متعوذين؛ ليأمنوا في المسلمين إذا لقوهم، ويأمنوا

في قومهم بكفرهم؛ فأمر اللَّه بقتالهم، إلا أن يعتزلوا عن قتالهم.
وقيل: قوله - تعالى -: (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ) غيرهم ممن لا يفي لكم ما كان بينكم وبينهم من العهد
(يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ) يقول: يريدون أن يأمنوا فيكم؛ فلا تتعرضوا لهم، ويأمنوا في قومهم بكفرهم؛ فلا يتعرضوا لهم.
ثم أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن صنيعهم وحالهم، فقال:
(كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ)
يعني: الشرك.
(أُرْكِسُوا فِيهَا)
أي: كلما دُعوا إلى الشرك فرجعوا فيها، فهَؤُلَاءِ أمر اللَّه رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بقتالهم، وعرفه صفتهم، إن لم يعتزلوا ولم يكفوا أيديهم عن قتالكم.
(فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا)
أي: جعلنا لكم عليهم سلطان القتل وحجته.
وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " ويكفوا أيديكم عن أن يقاتلوكم "
وفي حرفه: " ركسوا فيها ".
وفي حرف حفصة: " ركسوا فيها "
وفي حرفها: " أن يقاتلوكم ويقاتلوا قومهم ".
ثم يحتمل نسخ هذه الآية بقوله: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ).
وقوله - تعالى -: (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)؛ لأن الفرض في القتال أول ما كان فرض أنه يقاتل من قاتلنا وبدأنا، ثم إن اللَّه - تعالى - قال: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ).