آيات من القرآن الكريم

وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ۖ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ۖ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا
ﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ

وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ ترغيب كما قال شيخ الإسلام: في فرد شائع من الشفاعة الحسنة إثر ما رغب فيها على الإطلاق، وحذر عما يقابلها من الشفاعة السيئة، فإن تحية الإسلام من المسلم شفاعة منه لأخيه عند الله عز وجل، وهذا أولى في الارتباط مما قاله الطبرسي: إنه لما كان المراد بالسلام المسالمة التي هي ضد الحرب- وقد تقدم ذكر القتال- عقبه به للإشارة إلى الكف عمن ألقى إلى المؤمنين السلم وحياهم بتحية الإسلام، والتحية مصدر حيى أصلها تحيية- كتتمية، وتزكية- وأصل الأصل تحييي بثلاث ياءات فحذفت الأخيرة وعوض عنها هاء التأنيث ونقلت حركة الياء الأولى إلى ما قبلها، ثم أدغمت وهي في الأصل كما قال الراغب: الدعاء بالحياة وطولها، ثم استعملت في كل دعاء، وكانت العرب إذا لقي بعضهم بعضا تقول: حياك الله تعالى، ثم استعملها الشرع في السلام، وهو تحية الإسلام قال الله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب: ٤٤] وقال سبحانه: فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النور: ٦١]، وفيه على ما قالوا: مزية على قولهم: حياك الله تعالى لما أنه دعاء بالسلامة عن الآفات، وربما تستلزم طول الحياة، وليس في ذلك سوى الدعاء بطول الحياة أو به وبالملك، ورب حياة الموت خير منها.

صفحة رقم 95

ألا موت يباع فأشتريه فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا رحم المهيمن نفس حرّ تصدق بالممات على أخيه
وقال آخر:
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
إنما الميت من يعيش كئيبا كاسفا باله قليل الرجاء
ولأن السلام من أسمائه تعالى والبداءة بذكره مما لا ريب في فضله ومزيته أي إذا سلم عليكم من جهة المؤمنين كما قال الحسن وعطاء، أو مطلقا كما أخرج ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أي بتحية أحسن من التحية التي حييتم بها بأن تقولوا وعليكم السلام ورحمة الله تعالى إن اقتصر المسلم على الأول، وبأن تزيدوا وبركاته إن جمعهما المسلم وهي النهاية، فقد أخرج البيهقي عن عروة بن الزبير- أن رجلا سلم عليه فقال: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته فقال عروة: ما ترك لنا فضلا إن السلام قد انتهى إلى وبركاته- وفي معناه ما أخرجه الإمام أحمد والطبراني عن سلمان الفارسي مرفوعا وذلك لانتظام تلك التحية لجميع فنون المطالب التي هي السلامة عن المضار، ونيل المنافع ودوامها ونمائها، وقيل: يزيد المحيي إذا جمع المحيي الثلاثة له، فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد عن سالم مولى عبد الله بن عمر قال: كان ابن عمر إذا سلم عليه فرد زاد فأتيته فقلت: السلام عليكم فقال: السلام عليكم ورحمة الله تعالى، ثم أتيته مرة أخرى فقلت: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، فقال: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وطيب صلواته، ولا يتعين ما ذكر للزيادة، فقد ورد خبر رواه أبو داود والبيهقي عن معاذ زيادة ومغفرته، فما في الدر من أن المراد لا يزيد على- وبركاته- غير مجمع عليه أَوْ رُدُّوها أي حيوا بمثلها وأَوْ للتخيير بين الزيادة وتركها، والطاهر أن الأول هو الأفضل في الجواب، بل لو زاد المسلم على السلام عليكم كان أفضل،
فقد أخرج البيهقي عن سهل بن حنيف قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من قال: السلام عليكم كتب الله تعالى له عشر حسنات فإن قال السلام عليكم ورحمة الله تعالى كتب الله تعالى له عشرين حسنة، فإن قال: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته كتب الله تعالى له ثلاثين حسنة»
وورد في معناه غير ما خبر.
وقد نصوا على أن جواب- السلام- المسنون واجب، ووجوبه على الكفاية، ولا يؤثر فيه إسقاط المسلم لأن الحق لله تعالى، ودليل الوجوب الكفائي خبر أبي داود، وفي معناه ما أخرجه البيهقي عن زيد بن أسلم ولم يضعفه- يجزىء عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزي عن الجلوس أن يردّ أحدهم فبه يسقط الوجوب عن الباقين ويختص بالثواب فلو ردوا كلهم ولو مرتبا أثيبوا ثواب الواجب. وفي المبتغى يسقط عن الباقين بر: صبي يعقل لأنه من أهل إقامة الفرض في الجملة بدليل حل ذبيحته، وقيل: لا، وظاهر النهاية ترجيحه- وعليه الشنيعة- قالوا: ولو رد صبي أو لم يسمع منهم لم يسقط بخلاف نظيره في الجنازة لأن القصد ثمّ الدعاء، وهو منه أقرب للإجابة، وهنا الأمن، وهو ليس من أهله وقضيته أنه يجزىء تشميت الصبي عن جمع لأن القصد التبرك والدعاء كصلاة الجنازة- ويسقط بردّ العجوز.
وفي رد الشابة قولان: عندنا، وعند الشافعية لو ردّت امرأة عن رجل أجزأ إن شرع السلام عليها وعليه فلا يختص بالعجوز بل المحرم وأمة الرجل وزوجته كذلك، وفي تحفتهم ويدخل في المسنون سلام امرأة على امرأة أو نحو محرم أو سيد أو زوج، وكذا على أجنبي وهي عجوز لا تشتهى، ويلزمها في هذه الصورة ردّ سلام الرجل، أما مشتهاة

صفحة رقم 96

ليس معها امرأة أخرى فيحرم عليها ردّ سلام أجنبي، ومثله ابتداؤه، ويكره له ردّ سلامها ومثله ابتداؤه أيضا، والفرق أن ردها وابتداءها يطمعه فيها أكثر بخلاف ابتدائه ورده والخنثى مع رجل كامرأة ومع امرأة كرجل في النظر فكذا هنا، ولو سلم على جمع نسوة وجب ردّ إحداهن إذ لا يخشى فتنة حينئذ، ومن ثمّ حلت الخلوة بامرأتين، والظاهر أن الأمر هنا كالرجل ابتداء وردّا، وفي الدر المختار لو قال: السلام عليك يا زيد لم يسقط برد غيره، ولو قال: يا فلان أو أشار لمعين سقط، ولو سلم جمع مترتبون على واحد فرد مرة قاصدا جميعهم، وكذا لو أطلق على الأوجه أجزأه ما لم يحصل فصل ضار، ولا بدّ في الابتداء والردّ من رفع الصوت بقدر ما يحصل به السماع بالفعل ولو في ثقيل السمع، نعم إن مرّ عليه سريعا بحيث لم يبلغه صوته فالذي يظهر أنه يلزمه الرفع وسعه، ولا يجهر بالرد الجهر الكثير، والمروي عن الإمام رضي الله تعالى عنه لعله مقيد بغير هذه الصورة دون العدو خلفه، واستظهر أنه لا بد من سماع جميع الصيغة ابتداء وردا، والفرق بينه وبين إجابة أذان سمع بعضه ظاهر، ولو سلم يهودي أو نصراني أو مجوسي فلا بأس بالردّ، ولكن لا يزيد في الجواب على قوله: وعليك كما في الخانية، وروي ذلك مرفوعا في الصحيح، ولا يسلم ابتداء على كافر
لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه» رواه البخاري،
وأوجب بعض الشافعية ردّ سلام الذمي بعليك فقط، وهو الذي يقتضيه كلام الروضة لكن قال البلقيني والأذرعي والزركشي: إنه يسن ولا يجب، وعن الحسن يجوز أن يقال للكافر، وعليك السلام ولا يقل رحمة الله تعالى فإنها استغفار، وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلم عليه ذلك- فقيل له فيه فقال: أليس في رحمة الله تعالى يعيش.
وأخرج ابن المنذر من طريق يونس بن عبيد عن الحسن أنه قال في الآية: إن- حيوا بأحسن منها- للمسلمين أَوْ رُدُّوها لأهل الكتاب، وورد مثله عن قتادة، ورخص بعض العلماء ابتداءهم به إذا دعت إليه داعية ويؤدي حينئذ بالسلام، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول للذمي، والظاهر عند الحاجة السلام عليك ويريد- كما قال الله تعالى عليك- أي هو عدوك، ولا مانع عندي إن لم يقصد ذلك من أن يقصد الدعاء له بالسلامة بمعنى البقاء حيا ليسلم، أو يعطي الجزية ذليلا، وفي الأشباه النص على ذلك في الدعاء له بطول البقاء، بقي الخلاف في الإتيان بالواو عند الردّ له، وعامة المحدثين- كما قال الخطابي- بإثباتها في الخبر غير سفيان بن عيينة فإنه يرويه بغير واو، واستصوب لأن الواو تقتضي الاشتراك معه، والدخول فيما قال، وهو قد يقول السام عليكم كما يدل عليه خبر عمر رضي الله تعالى عنه، ووجه العلامة الطيبي إثباتها بأن مدخولها قد يقطع عما عطف عليه لإفادة العموم بحسب اقتضاء المقام فيقدر هنا عليكم اللعنة أو الغضب وعليكم ما قلتم ولا يخفى خفاء ذلك، وإن أيده بما ظنه شيئا. فالأولى ما في الكشف من أن رواية الجمهور هو الصواب وهما مشتركان في أنهما على سبيل الدعاء ولكن يستجاب دعاء المسلم على الكافر ولا يستجاب دعاؤه عليه،
فقد جاء في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قالت عائشة في رهط اليهود القائلين له عليه الصلاة والسلام: «السام عليك، بل عليكم السام واللعنة، أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: لا تكوني فاشحة، قالت: أو لم تسمع ما قالوا؟! قال: رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في»
ويجب في الردّ على الأصم الجمع بين اللفظ والإشارة ليعلم، بل العلم هو المدار، ولا يلزمه الرد إلا إن جمع له المسلم عليه بينهما، وتكفي إشارة الأخرس ابتداء وردا ويجب ردّ جواب كتاب التحية كردّ السلام.
وعند الشافعية يكفي جوابه كتابة ويجب فيها- إن لم يرد لفظا- الفور فيما يظهر، ويحتمل خلافه، ولو قال لآخر: أقرئ فلانا السلام يجب عليه أن يبلغه وعللوه بأن ذلك أمانة، ويجب أداؤها، ويؤخذ منه أن محله ما إذا رضي

صفحة رقم 97

بتحمل تلك الأمانة أما لو ردها فلا، وكذا إن سكت أخذا من قولهم: لا ينسب لساكت قول، ويحتمل التفصيل بين أن تظهر منه قرينة تدل على الرضا وعدمه، وإذا قلنا بالوجوب، فالظاهر عند بعض أنه لا يلزمه قصد الموصى له بل إذا اجتمع به وذكر بلغه، وقال بعض المحققين الذي يتجه أنه يلزمه قصد محله حيث لا مشقة شديدة عرفا عليه لأن أداء الأمانة ما أمكن واجب، وفرق بعضهم بين أن يقول المرسل: قل له فلان يقول: السلام عليك وبين ما لو قال له سلم لي، والظاهر عدم الفرق وفاقا لما نقل عن النووي فيجب فيهما الرد ويسن الردّ على المبلغ والبداءة، فيقول: وعليك وعليه السلام للخبر المشهور فيه.
وأوجبوا ردّ سلام صبي أو مجنون مميز، وكذا سكران مميز لم يعص بسكره، وقول المجموع: لا يجب ردّ سلام مجنون وسكران يحمل على غير المميز وزعم أن الجنون والسكر ينافيان التمييز غفلة عما صرحوا به من عدم التنافي، ولا يجب ردّ سلام فاسق أو مبتدع زجرا له أو لغيره، وإن شرع سلامه، وكذا لا يجب ردّ سلام السائل لأنه ليس للتحية بل لأجل أن يعطي، ولا ردّ سلام المتحلل من الصلاة إذا نوى الحاضر عنده على الأوجه لأن المهم له التحلل وقصد الحاضر به لتعود عليه بركته وذلك حاصل، وإن لم يرد، وإنما حنث به الحالف على ترك الكلام، والسلام لأن المدار فيهما على صدق الاسم لا غير، وقد نص على ذلك علماء الشافعية ولم أر لأصحابنا سوى التصريح بالحنث فيمن حلف لا يكلم زيدا فسلم على جماعة هو فيهم، وأما التصريح بهذه المسألة فلم أره، وصرح في الضياء بعدم وجوب الرد لو قال المسلم: السلام عليك بجزم الميم، وكأنه على ما في تحفتنا لمخالفة السنة، وعليه لو رفع الميم بلا تنوين ولا تعريف كان كجزم الميم في عدم وجوب الرد لمخالفته السنة أيضا.
وجزم غير واحد من الشافعية أن صيغة السلام ابتداء وجوابا عليك السلام وعكسه، وأنه يجوز تنكير لفظه وإن حذف التنوين، وأنه يجزىء سلاما عليكم، وكذا سلام الله تعالى، بل وسلامي عليك وعكسه، واستظهر إجزاء سلمت، وأنا مسلم عليك، ونحو ذلك أخذا مما ذكروه أنه يجزىء في التشهد صلى الله تعالى على محمد والصلاة على محمد صلّى الله عليه وسلّم ونحوهما، ولا بأس فيما قالوه عندي، ولعل تفسير تحية في الآية لتشمل كل هذه الصيغ، وقال بعض الجماعة: السلام معرفة تحية الأحياء، ونكرة تحية الموتى، ورووا في ذلك خبرا والشيعة ينكرون مطلقا وينكرون.
وقد جاء عن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وأنس «أن السلام في السلام اسم من أسماء الله تعالى» وهذا يقتضي أولوية التعريف أيضا فافهم، والأفضل في الرد واو قبله، ويجزىء بدونه على الصحيح، ويضر في الابتداء كالاقتصار في أحدهما على أحد جزئي الجملة، وإن نوى إضمار الآخر، وفي الكشف ما يؤيده، والخبر الذي فيه الاكتفاء- بو عليك- في الجواب لا يراد منه الاكتفاء على هذه اللفظة، بل المراد منه أنه صلّى الله عليه وسلّم أجاب بمثل ما سلم به عليه، ولم يزد كما يشعر به آخره، وذكر الطحاوي أن المستحب الرد على طهارة أو تيمم،
فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي الجهم قال: أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الغائط فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه صلّى الله عليه وسلّم حتى أقبل على الحائط فوضع يده عليه ثم مسح وجهه ويديه، ثم رد على الرجل السلام»
والظاهر عدم الفرق بين الرد والابتداء في ذلك، ويسن السلام عينا للواحد وكفاية للجماعة كما أشرنا إليه ابتداء عند إقباله وانصرافه للخبر الصحيح الحسن «إن أولى الناس بالله تعالى من بدأهم بالسلام، وفارق الرد بأن الإيحاش والإخافة في ترك الرد أعظم منهما في ترك الابتداء، وأفتى غير واحد بأن الابتداء أفضل- كإبراء المعسر أفضل من إنظاره- ويؤخذ من قولهم: ابتداء أنه لو أتى به بعد تكلم لم يعتد به، نعم يحتمل في تكلم سهوا أو جهلا، وعذر به أنه لا يفوت الابتداء فيجب جوابه، ومثل ذلك بل أولى لمشروعيته الكلام للاستئذان، فقد صرحوا بأنه إذا أتى دار إنسان يجب أن يستأذن قبل السلام ويسن إظهار البشر عنده،

صفحة رقم 98

فقد أخرج البيهقي عن الحسن قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن من الصدقة أن تسلم على الناس وأنت منطلق الوجه»
وعن عمر «إذا التقى المؤمنان فسلم كل واحد منهما على الآخر وتصافحا كان أحبهما إلى الله تعالى أحسنهما بشرا لصاحبه» ويسن عليكم في الواحد، وإن جاء في بعض الآثار بالإفراد نظرا لمن معه من الملائكة، ويقصدهم ليردوا عليه فينال بركة دعائهم، ولو دخل بيتا ولم ير أحدا يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإن السكنة تردّ عليه، وفي الآكام إن في كل بيت سكنة من الجن، ويسن عند التلاقي سلام صغير على كبير، وماش على واقف أو مضطجع، وراكب عليهم، وراكب فرس على راكب حمار، وقليلين على كثيرين لأن نحو الماشي يخاف من نحو الراكب، ولزيادة نحو مرتبة الكبير على نحو الصغير، وخرج بالتلاقي الجالس والواقف والمضطجع، فكل من ورد على أحدهم يسلم عليه مطلقا ولو سلم كل على الآخر فإن ترتبا كان الثاني جوابا أي ما لم يقصد به الابتداء وحده- كما قيل- وإلا لزم كلّا الرد، وكره أصحابنا السلام في مواضع، وفي النهر عن صدر الدين الغزي:

سلامك مكروه على من ستسمع ومن بعد ما أبدى يسن ويشرع
مصلّ وتال ذاكر ومحدث خطيب ومن يصغي إليهم ويسمع
مكرر فقه جالس لقضائه ومن بحثوا في الفقه دعهم لينفعوا
مؤذن أيضا مع مقيم مدرس كذا الأجنبيات الفتيات أمنع
ولعاب شطرنج وشبه بخلقهم ومن هو مع أهل له يتمتع
ودع كافرا أيضا ومكشوف عورة ومن هو في حال التغوط أشنع
ودع آكلا إلا إذا كنت جائعا وتعلم منه أنه ليس يمنع
كذلك أستاذ مغنّ مطير فهذا ختام والزيادة تنفع
فلو سلم على هؤلاء لا يستحق الرد عند بعضهم، وأوجب بعض الرد في بعضها وذكر الشافعية أن مستمع الخطيب يجب عليه الرد، وعندنا يحرم الرد كسائر الكلام بلا فرق بين قريب وبعيد على الأصح، وكرهوه لقاضي الحجة ونحوه كالمجامع، وسنوه للآكل كسن السلام عليه بعد البلع وقبل وضع اللقمة بالفم ويلزمه الرد حينئذ ولمن بالحمام ونحوهما باللفظ.
ورجحوا أنه يسلم على من بمسلخه ولا يمنع كونه مأوى الشياطين فالسوق كذلك والسلام على من فيه مشروع، وإن اشتغل بمساومة ومعاملة ومصل ومؤذن بالإشارة، وإلا فبعد الفراغ إن قرب الفصل، وحرموا الرد على من سلم عليه نحو مرتد وحربي، وندبه بعضهم على القارئ وإن اشتغل بالتدبر، وأوجب الرد عليه، ومحله في متدبر لم يستغرق التدبر قلبه وإلا لم يسن ابتداء، ولا جواب كالداعي المستغرق لأنه الآن بمنزلة غير المميز، بل ينبغي فيمن استغرقه الهم كذلك أن يكون حكمه ذلك، وصرحوا أيضا بعدم السلام على فاسق بل يسن تركه على مجاهر بفسقه، ومرتكب ذنب عظيم لم يتب عنه، ومبتدع إلا لعذر أو خوف مفسدة، وعلى ملب، وساجد وناعس ومتخاصمين بين يدي قاض، وأفتى بعضهم بكراهة حني الظهر، وقال كثيرون: حرام للحديث الحسن أنه صلّى الله عليه وسلّم نهى عنه، وعن التزام الغير، وتقبيله، وأمر بمصافحته ما لم يكن ذميا، وإلا فيكره للمسلم مصافحته بل يكفر إن قصد التبجيل كما يكفر بالسلام عليه كذلك.
وأفتى البعض أيضا بكراهة الانحناء بالرأس وتقبيل نحو الرأس أو يد أو رجل لا سيما لنحو غني
لحديث «من تواضع لغني ذهب ثلثا دينه»
وندب ذلك لنحو صلاح أو علم أو شرف لأن أبا عبيدة قبّل يد عمر رضي الله تعالى

صفحة رقم 99

عنهما، ولا يعدّ- نحو صبحك الله تعالى بالخير، أو قواك الله تعالى- تحية ولا يستحق مبتدأ به جوابا، والدعاء له بنظيره حسن إلا أن يقصد بإهماله له تأديبه لتركه سنة السلام ونحو مرحبا مثل ذلك في ذلك، وذكر أنه لو قال المسلم السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته، فقال الراد: عليك السلام فقد أجزأه لكنه خلاف الأولى، وظاهر الآية خلافه إذ الأمر فيها دائر بين الجواب بالأحسن، والجواب بالمثل، وليس ما ذكر شيئا منهما. وحمل التحية على السلام هو ما ذهب إليه الأكثرون من المحققين وأئمة الدين، وقيل: المراد بها الهدية والعطية، وأوجب القائل العوض أو الرد على المتهب- وهو قول قديم للشافعي- ونسب أيضا لإمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه، وعلل بعضهم بأن السلام قد وقع فلا يرد بعينه فلذا حمل على الهدية وقد جاء إطلاقها عليها، وأجيب بأنه مجاز كقول المتنبي:

قفي تغرم الأولى من اللحظ مقلتي بثانية والمتلف الشيء غارمه
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عيينة أنه قال في الآية: أترون هذا في السلام وحده هذا في كل شيء من أحسن إليك فأحسن إليه وكافه، فإن لم تجد فادع له واثن عليه عند إخوانه، ولعل مراده رحمه الله تعالى قياس غير السلام من أنواع الإحسان عليه لأن المراد من التحية ما يعم السلام وغيره لخفاء ذلك، ولعل من أراد الأعم فسرها بما يسدي إلى الشخص مما تطيب به حياته إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً فيحاسبكم على كل شيء من أعمالكم ويدخل في ذلك ما أمروا به من التحية دخولا أوليا.
هذا «ومن باب الإشارة في هذه الآيات» الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ أنفسهم فِي سَبِيلِ اللَّهِ فيهلكونها بسيوف المجاهدة ليصلوا إليه تعالى شأنه وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ عقولهم وينازعونها فِي سَبِيلِ طاغوت أنفسهم ليحصلوا اللذات ويغنموا في هذه الدار الفانية أمتعة الشهوات فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ وهي القوى النفسانية أو النفس وقواها إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً فوليه ضعيف، عاذ بقرملة أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ أي قال لهم المرصدون كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ عن محاربة الأنفس الآن قبل أداء رسوم العبادات وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ والمراد بها إتعاب البدن بأداء العبادة البدنية وَآتُوا الزَّكاةَ والمراد بها إتعاب القلب بأداء العبادة المالية فإذا تم لكم ذلك فتوجهوا إلى محاربة النفس فإن محاربتها قبل ذلك بغير سلاح، فإن هذه العبادات الرسمية سلاح السالكين فلا يتم لأحد تهذيب الباطن قبل إصلاح الظاهر فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ حين أداء ما أمروا بأدائه إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ لضعف استعدادهم يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً فلا يستطيعون هجرهم، ولا ارتكاب ما فيه ذل نفوسهم خشية اعتراضهم عليهم، أو إعراضهم عنهم، وقالوا بلسان الحال: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ الآن لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ وهو الموت الاضطراري، فالمنية ولا الدنية، وهذا حال كثير من الناسكين يرغبون عن السلوك وتحمل مشاقة مما فيه إذلال نفوسهم وامتهانها خوفا من الملامة، واعتراض الناس عليهم فيبقون في حجاب أعمالهم- ويحسبون أنهم يحسنون صنعا ولبئس ما كانوا يصنعون- قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ فلا ينبغي أن يلاحظوا الناس في تركه وعدم الالتفات إليه وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى فينبغي أن يتحملوا الملامة في تحصيلها وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا مما كتب لكم فينبغي عدم خشية سوى الله تعالى أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وتفارقون ولا بد من تخشون فراقه إن سلكتم ففارقوهم بالسلوك وهو الموت الاختياري قبل أن تفارقوهم بالهلاك وهو الموت الاضطراري وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ أي أجساد قوية:
فمن يك ذا عظم صليب رجا به ليكسر عود الدهر فالدهر كاسره
وَإِنْ تُصِبْهُمْ أي المحجوبين حَسَنَةٌ أي شيء يلائم طباعهم يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فيضيفونها إلى

صفحة رقم 100

الله تعالى من فرح النفس ولذة الشهوة لاتبعت المعرفة والمحبة وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي شيء تنفر عنه طباعهم وإن كان على خلاف ذلك في نفس الأمر يَقُولُوا لضيق أنفسهم هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ فيضيفونها إلى غيره تعالى ويرجعون إلى الأسباب لعدم رسوخ الإيمان الحقيقي في قلوبهم قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وهذا دعاء لهم إلى توحيد الأفعال، ونفى التأثير عن الأغيار، والإقرار بكونه سبحانه خالق الخير والشر فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ المحجوبين لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً لاحتجابهم بصفات النفوس وارتياح آذان قلوبهم التي هي أوعية السماع والوعي، ثم زاد سبحانه في البيان بقوله عز وجل: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ صغرت أو عظمت فَمِنَ اللَّهِ تعالى أفاضها حسب الاستعداد الأصلي وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ حقرت أو جلت فَمِنْ نَفْسِكَ أي من قبلها بسبب الاستعداد الحادث بسبب ظهور النفس بالصفات والأفعال الحاجبة للقلب المكدرة لجوهره حتى احتاج إلى الصقل بالرزايا والمصائب والبلايا والنوائب، لا من قبل الرسول صلّى الله عليه وسلّم أو غيره وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا فأنت الرحمة لهم فلا يكون من عندك شر عليهم وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على ذلك مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ لأنه صلّى الله عليه وسلّم مرآة الحق يتجلى منه للخلق، وقال بعض العارفين، إن باطن الآية إشارة إلى عين الجمع أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ليرشدهم إلى أنك رسول الله تعالى، وأن إطاعتك إطاعته سبحانه حيث أنه مشتمل على الفرق والجمع، وقيل: ألا يتدبرونه فيتعظون بكريم مواعظه ويتبعون محاسن أوامره، أو أفلا يتدبرونه ليعلموا أن الله جل شأنه تجلى لهم فيه وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً أي لوجدوا الكثير منه مختلفا بلاغة وعدمها فيكون مثل كلام المخلوقين فيكون لهم مساغ إلى تكذيبه وعدم قبول شهادته، أو القول بأنه لا يصلح أن يكون مجلى لله تعالى، وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ إخبار عمن في مبادي السلوك أي إذا ورد عليهم شيء من آثار الجمال أو الجلال أفشوه وأشاعوه وَلَوْ رَدُّوهُ أي عرضوه إِلَى الرَّسُولِ إلى ما علم من أحواله، وما كان عليه وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ وهم المرشدون الكاملون الذين نالوا مقام الوراثة المحمدية لَعَلِمَهُ أي لعلم مآله وأنه مما يذاع أو أنه لا يذاع الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ ويتلقونه منهم أي من جهتهم وواسطة فيوضاتهم، والمراد بالموصول الرادون أنفسهم، وحاصل ذلك أنه لا ينبغي للمريد إذا عرض له في أثناء سيره وسلوكه شيء من آثار الجمال أو الجلال أن يفشيه لأحد قبل أن يعرضه على شيخه فيوقفه على حقيقة الحال فإن في إفشائه قبل ذلك ضررا كثيرا وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أيها الناس بالواسطة العظمى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَرَحْمَتُهُ بالمرشدين الوارثين لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ والنفس أعظم جنوده إن لم تكنه إِلَّا قَلِيلًا وهم السالكون بواسطة نور إلهي أفيض عليهم فاستغنوا به كبعض أهل الفترة، قيل: وهم على قدم الخليل عليه الصلاة والسلام فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ أي قاتل من يخالفك وحدك وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ على أن يقاتلوا من يحول بينهم وبين ربهم عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي ستروا أوصاف الربوبية وَاللَّهُ أَشَدُّ منهم بَأْساً أي نكاية وَأَشَدُّ منهم تَنْكِيلًا أي تعذيبا مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً أي من يرافق نفسه على الطاعات يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها أي حظ وافر من ثوابها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً أي من يرافق نفسه على معصية يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها أي مثل مساو من عقابها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً فيوصل الثواب والعقاب إلى مستحقيهما وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها تعليم لنوع من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، وقيل: المعنى إذا منّ الله تعالى عليكم بعطية فابذلوا الأحسن من عطاياه أو تصدقوا بما أعطاكم وردوه إلى الله تعالى على يد المستحقين، والله تعالى خير الموفقين.
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ مبتدأ وخبر، وقوله سبحانه: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ جواب قسم محذوف أي

صفحة رقم 101

والله ليجمعنكم، والجملة إما مستأنفة لا محل لها من الإعراب، أو خبر ثان، أو هي الخبر، ولا إِلهَ إِلَّا هُوَ اعتراض، واحتمال- أن تكون خبرا بعد خبر لكان، وجملة اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ معترضة مؤكدة لتهديد قصد بما قبلها وما بعدها- بعيد، ثم الخبر وإن كان هو القسم وجوابه لكنه في الحقيقة الجواب فلا يرد وقوع الإنشاء خبرا، ولا أن جواب القسم من الجمل التي لا محل لها من الإعراب فكيف يكون خبرا مع أنه لا امتناع من اعتبار المحل وعدمه باعتبارين، والجمع بمعنى الحشر، ولهذا عدى بإلى كما عدى الحشر بها في قوله تعالى: لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران: ١٥٨]، وقد يقال: إنما عدى بها لتضمينه معنى الإفضاء المتعدى بها أي ليحشرنكم من قبوركم إلى حساب يوم القيامة، أو مفضين إليه، وقيل: إلى بمعنى في كما أثبته أهل العربية ليجمعنكم في ذلك اليوم لا رَيْبَ فِيهِ أي في يوم القيامة، أو في الجمع، فالجملة إما حال من اليوم، أو صفة مصدر محذوف أي جمعا «لا ريب فيه» والقيامة بمعنى القيام، ودخلت التاء فيه للمبالغة- كعلامة، ونسابة- وسمى ذلك اليوم بذلك لقيام الناس فيه للحساب مع شدة ما يقع فيه من الهول، ومناسبة الآية لما قبلها ظاهرة، وهي أنه تعالى لما ذكر إِنَّ اللَّهَ تعالى كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً تلاه بالإعلام بوحدانيته سبحانه والحشر والبعث من القبور للحساب بين يديه، وقال الطبرسي: وجه النظم أنه سبحانه لما أمر ونهى فيما قبل بين بعد أنه لا يستحق العبادة سواه ليعملوا على حسب ما أوجبه عليهم، وأشار إلى أن لهذا العمل جزاء ببيان وقته، وهو يوم القيامة ليجدوا فيه ويرغبوا ويرهبوا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً الاستفهام إنكاري، والتفضيل باعتبار الكمية في الأخبار الصادقة لا الكيفية إذ لا يتصور فيها تفاوت لما أن الصدق المطابقة للواقع وهي لا تزيد، فلا يقال لحديث معين: إنه أصدق من آخر إلا بتأويل وتجوز والمعنى لا أحد أكثر صدقا منه تعالى في وعده وسائر أخباره ويفيد نفي المساواة أيضا كما في قولهم: ليس في البلد أعلم من زيد، وإنما كان كذلك لاستحالة نسبة الكذب إليه سبحانه بوجه من الوجوه، ولا يعرف خلاف بين المعترفين بأن الله تعالى متكلم بكلام في تلك الاستحالة، وإن اختلف مأخذهم في الاستدلال.
وقد استدل المعتزلة على استحالة الكذب في كلام الرب تعالى بأن الكلام من فعله تعالى، والكذب قبيح لذاته- والله تعالى لا يفعل القبيح- وهو مبني على قولهم: بالحسن والقبح الذاتيين وإيجابهم رعاية الصلاح والأصلح، وأما الأشاعرة فلهم- كما قال الآمدي- في بيان استحالة الكذب في كلامه تعالى القديم النفساني مسلكان:
عقلي وسمعي، أما المسلك الأول: فهو أن الصدق والكذب في الخبر من الكلام النفساني القديم ليس لذاته ونفسه بل بالنظر إلى ما يتعلق به من المخبر عنه فإن كان قد تعلق به على ما هو عليه كان الخبر صدقا، وإن كان على خلافه كان كذبا، وعند ذلك فلو تعلق من الرب سبحانه كلامه القائم على خلاف ما هو عليه لم يحل إما أن يكون ذلك مع العلم به أولا لا جائز أن يكون الثاني، وإلا لزم الجهل الممتنع عليه سبحانه من أوجه عديدة، وإن كان الأول فمن كان عالما بالشيء يستحيل أن لا يقوم به الإخبار عنه على ما هو به وهو معلوم بالضرورة، وعند ذلك فلو قام بنفسه الإخبار عنه على خلاف ما هو عليه حال كونه عالما به مخبرا عنه على ما هو عليه لقام بالنفس الخبر الصادق والكاذب بالنظر إلى شيء واحد من جهة واحدة، وبطلانه معلوم بالضرورة.
واعترض بأنا نعلم ضرورة من أنفسنا إنا حال ما نكون عالمين بالشيء يمكننا أن نخبر بالخبر الكاذب، ونعلم كوننا كاذبين، ولولا إنا عالمون بالشيء المخبر عنه لما تصور علمنا بكوننا كاذبين، وأجيب بأن الخبر الذي نعلم من أنفسنا كوننا كاذبين فيه إنما هو الخبر اللساني، وأما النفساني فلا نسلم صحة علمنا بكذبه حال الحكم به، وأما المسلك الثاني: فهو أنه قد ثبت صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم بدلالة المعجزة القاطعة فيما هو رسول فيه على ما بين في محله.

صفحة رقم 102

وقد نقل عنه بالخبر المتواتر أن كلام الله تعالى صدق، وأن الكذب عليه سبحانه محال، ونظر فيه الآمدي بأن لقائل أن يقول: صحة السمع متوقفة على صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم وصدقه متوقف على استحالة الكذب على الله تعالى من حيث أن ظهور المعجزة على وفق تحديه بالرسالة نازل منزلة التصديق من الله سبحانه له في دعواه، فلو جاز الكذب عليه جل شأنه لأمكن أن يكون كاذبا في تصديقه له ولا يكون الرسول صادقا، وإذا توقف كل منهما على صاحبه كان دورا لا يقال إثبات الرسالة لا يتوقف على استحالة الكذب على الله تعالى ليكون دورا فإنه لا يتوقف إثبات الرسالة على الإخبار بكونه رسولا حتى يدخله الصدق والكذب، بل على إظهار المعجزة على وفق تحديه، وهو منزل منزلة الإنشاء، وإثبات الرسالة وجعله رسولا في الحال كقول القائل: وكلتك في أشغالي، واستنبتك في أموري، وذلك لا يستدعي تصديقا ولا تكذيبا إذ يقال حينئذ: فلو ظهرت المعجزة على يد شخص لم يسبق منه التحدي بناء على جوازه على أصول الجماعة لم تكن المعجزة دالة على ثبوت رسالته إجماعا ولو كان ظهور المعجزة على يده منزل منزلة الإنشاء لرسالته لوجب أن يكون رسولا متبعا بعد ظهورها. وليس كذلك، وكون الإنشاء مشروطا بالتحدي بعيد بالنظر إلى حكم الإنشاءات، وبتقدير أن يكون كذلك غايته ثبوت الرسالة بطريق الإنشاء، ولا يلزم منه أن يكون الرسول صادقا في كل ما يخبر به دون دليل عقلي يدل على صدقه فيما يخبر به، أو تصديق الله تعالى له في ذلك، ولا دليل عقلي يدل على ذلك، وتصديق الله تعالى له لو توقف على صدق خبره عاد ما سبق، فينبغي أن يكون هذا المسلك السمعي في بيان استحالة الكلام اللساني وهو صحيح فيه، والسؤال الوارد ثم منقطع هنا فإن صدق الكلام اللساني وإن توقف على صدق الرسول لكن صدق الرسول غير متوقف على صدق الكلام اللساني بل على الكلام اللساني نفسه فامتنع الدور الممتنع، وفي المواقف: الاستدلال على امتناع الكذب عليه تعالى عند أهل السنة بثلاثة أوجه: الأول أنه نقص والنقص ممنوع إجماعا، وأيضا فيلزم أن يكون نحن أكمل منه سبحانه في بعض الأوقات أعني وقت صدقنا في كلامنا، والثاني أنه لو اتصف بالكذب سبحانه لكان كذبه قديما إذ لا يقوم الحادث بذاته تعالى فيلزم أن يمتنع عليه الصدق، فإن ما ثبت قدمه استحال عدمه واللازم باطل، فإنا نعلم بالضرورة أن من علم شيئا أمكن له أن يخبر عنه على ما هو عليه، وهذان الوجهان إنما يدلان على أن الكلام النفسي الذي هو صفة قائمة بذاته تعالى يكون صادقا، ثم أتى بالوجه الثالث دليلا على استحالة الكذب في الكلام اللفظي والنفسي على طرز ما في المسلك الثاني وقد علمت ما للآمدي فيه فتدبر جميع ذلك ليظهر لك الحق.
فَما لَكُمْ مبتدأ وخبر، والاستفهام للإنكار، والنفي والخطاب لجميع المؤمنين، وما فيه من معنى التوبيخ لبعضهم، وقوله سبحانه: فِي الْمُنافِقِينَ يحتمل- كما قال السمين- أن يكون متعلقا بما يدل عليه قوله تعالى:
فِئَتَيْنِ أي فما لكم تفترقون في المنافقين، وأن يكون حالا من فِئَتَيْنِ مفترقين في المنافقين، فلما قدم نصب على الحال، وأن يكون متعلقا بما تعلق به الخبر أي أي شيء كائن لكم في أمرهم وشأنهم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وفي انتصاب فِئَتَيْنِ وجهان- كما في الدر المصون..
أحدهما أنه حال من ضمير لَكُمْ المجرور، والعامل فيه الاستقرار، أو الظرف لنيابته عنه، وهذه الحال لازمة لا يتم الكلام بدونها، وهذا مذهب البصريين في هذا التركيب وما شابهه، وثانيهما- وهو مذهب الكوفيين- أنه خبر كان مقدرة أي ما لكم في شأنهم كنتم فئتين، ورد بالتزام تنكيره في كلامهم نحو فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ [المدثر: ٤٩] وأما ما قيل على الأول: من أن كون ذي الحال بعضا من عامله غريب لا يكاد يصح عند الأكثرين فلا يكون معمولا له، ولا يجوز اختلاف العامل في الحال وصاحبها، فمن فلسفة النحو كما قال الشهاب، والمراد إنكار أن

صفحة رقم 103

يكون للمخاطبين شيء مصحح لاختلافهم في أمر المنافقين، وبيان وجوب قطع القوم بكفرهم وإجرائهم مجرى المجاهرين في جميع الأحكام وذكرهم بعنوان النفاق باعتبار وصفهم السابق.
أخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال: هم قوم خرجوا من مكة حتى جاؤوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون ثم ارتدوا بعد ذلك فاستأذنوا النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فاختلف فيه المسلمون فقائل يقول: هم منافقون وقائل يقول: هم مؤمنون، فبين الله تعالى نفاقهم وأنزل هذه الآية وأمر بقتلهم.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: «هم ناس تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأقاموا بمكة وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتولاهم ناس وتبرأ من ولايتهم آخرون وقالوا: تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يهاجروا فسماهم الله تعالى منافقين وبرأ المؤمنين من ولايتهم وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا»،
وأخرج الشيخان والترمذي والنسائي وأحمد، وغيرهم عن زيد بن ثابت «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى أحد فرجع ناس خرجوا معه فكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه ومسلم فيهم فِئَتَيْنِ فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا فأنزل الله تعالى فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ الآية كلها»
ويشكل على هذا ما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى من جعل هجرتهم غاية للنهي عن توليتهم إلا أن يصرف عن الظاهر كما ستعمله، وقيل: هم العرنيون الذين أغاروا على السرح وأخذوا يسارا راعى رسول الله ومثلوا به فقطعوا يديه ورجليه وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات، ويرده كما قال شيخ الإسلام ما سيأتي إن شاء الله تعالى من الآيات الناطقة بكيفية المعاملة معهم من السلم والحرب وهؤلاء قد أخذوا وفعل بهم ما فعل من المثلة والقتل ولم ينقل في أمرهم اختلاف المسلمين، وقيل غير ذلك. وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا حال من المنافقين مفيد لتأكيد الإنكار السابق، وقيل: من ضمير المخاطبين والرابط الواو، وقيل: مستأنفة والباء للسببية، وما إما مصدرية، وإما موصولة، وأركس وركس بمعنى واختلف في معنى الركس لغة، فقيل: الرد- كما قيل- في قول أمية بن أبي الصلت:
فأركسوا في جحيم النار إنهم... كانوا عصاة وقالوا الإفك والزورا
وهذه رواية الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والمعنى حينئذ والله تعالى ردهم إلى الكفر بعد الإيمان بسبب ما كسبوه من الارتداد واللحوق بالمشركين. أو نحو ذلك، أو بسبب كسبهم، وقيل: هو قريب من النكس، وحاصله أنه تعالى رماهم منكسين فهو أبلغ من التنكيس لأن من يرمي منكسا في هوة قلما يخلص منها، والمعنى أنه سبحانه بكسبهم الكفر، أو بما كسبوه منه قلب حالهم ورماهم في حفر النيران.
وأخرج ابن جرير عن السدي أنه فسر أَرْكَسَهُمْ بأضلهم وقد جاء الإركاس بمعنى الإضلال، ومنه:
وأركستني عن طريق الهدى... وصيرتني مثلا للعدا
وأخرج الطستي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: المعنى حبسهم في جهنم، والبخاري عنه أن المعنى بددهم أي فرقهم وفرق شملهم، وابن المنذر، عن قتادة أهلكهم، ولعلها معان ترجع إلى أصل واحد، وروي عن عبد الله وأبيّ أنهما قرآ- ركسوا- بغير ألف، وقد قرأ- ركّسهم- مشددا.
أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ توبيخ للفئة القائلة بإيمان أولئك المنافقين على زعمهم ذلك، وإشعار بأن يؤدي إلى محاولة المحال الذي هو هداية من أضله الله تعالى، وذلك لأن الحكم بإيمانهم وادعاء اهتدائهم مع أنهم بمعزل من ذلك سعي في هدايتهم وإرادة لها، فالمراد بالموصول المنافقون إلا أن وضع موضع ضميرهم لتشديد الإنكار، وتأكيد استحالة الهداية بما ذكر في حيز الصلة، وحمله على العموم، والمذكورون داخلون فيه دخولا أوليا-

صفحة رقم 104

كما زعمه أبو حيان- ليس بشيء، وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها للمبالغة في إنكاره ببيان أن إرادته مما لا يمكن فضلا عن إمكان نفسه، والآية ظاهرة في مذهب الجماعة، وحمل الهداية والإضلال على الحكم بها خلاف الظاهر، ويبعده قوله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا فإن المتبادر منه الخلق أي من يخلق فيه الضلال كائنا من كان، ويدخل هنا من تقدم دخولا أوليا فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا من السبل فضلا عن أن تهديه إليه، والخطاب في تَجِدَ لغير معين، أو لكل أحد من المخاطبين للإشعار بعدم الوجدان للكل على سبيل التفصيل، ونفي وجدان السبيل أبلغ من نفي الهادي، وحمل إضلاله تعالى على حكمه وقضائه بالضلال مخل بحسن المقابلة بين الشرط والجزاء، وجعل السبيل بمعنى الحجة، وأن المعنى من يجعله الله تعالى في حكمه ضالا فلن تجد له في ضلالته حجة- كما قال جعفر بن حرب- ليس بشيء كما لا يخفى، والجملة إما اعتراض تذييلي مقرر للإنكار السابق مؤكد لاستحالة الهداية، أو حال من فاعل تُرِيدُونَ أو تَهْدُوا، والرابط الواو.
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ بيان لغلوهم وتماديهم في الكفر وتصديهم لإضلال غيرهم إثر بيان كفرهم وضلالتهم في أنفسهم، ولَوْ مصدرية لا جواب لها أي تمنوا أن تكفروا وقوله كَما كَفَرُوا نعت لمصدر محذوف، وما مصدرية أي كفرا مثل كفرهم، أو حال من ضمير ذلك المصدر كما هو رأي سيبويه، ولا دلالة في نسبة الكفر إليهم على أنه مخلوق لهم استقلالا لا دخل لله تعالى فيه لتكون هذه الآية دليلا على صرف ما تقدم عن ظاهره كما زعمه ابن حرب لأن أفعال العباد لها نسبة إلى الله تعالى باعتبار الخلق، ونسبة إلى العباد باعتبار الكسب بالمعنى الذي حققناه فيما تقدم، وقوله تعالى: فَتَكُونُونَ سَواءً عطف على لَوْ تَكْفُرُونَ داخل معه في حكم التمني أي وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ فتكونون مستوين في الكفر والضلال، وجوز أن تكون كلمة لَوْ على بابها، وجوابها محذوف كمفعول «ود» أي ودوا كفركم لو تكفرون كما كفروا فَتَكُونُونَ سَواءً لسروا بذلك فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ الفاء فصيحة، وجمع أَوْلِياءَ مراعاة لجمع المخاطبين فإن المراد نهي كل من المخاطبين عن اتخاذ كل من المنافقين وليا أي إذا كان حالهم ما ذكر من الودادة فلا توالوهم.
حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي حتى يؤمنوا وتحققوا إيمانهم بهجرة هي لله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم لا لغرض من أغراض الدنيا، وأصل السبيل الطريق، واستعمل كثيرا في الطريق الموصلة إليه تعالى وهي امتثال الأوامر واجتناب النواهي، والآية ظاهرة في وجوب الهجرة.
وقد نص في التيسير على أنها كانت فرضا في صدر الإسلام، وللهجرة ثلاث استعمالات: أحدهما الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام، وهو الاستعمال المشهور، وثانيها ترك المنهيات، وثالثها الخروج للقتال وعليه حمل الهجرة. من قال: إن الآية نزلت فيمن رجع يوم أحد على ما حكاه خبر الشيخين وجزم به في الخازن فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الهجرة في سبيل الله تعالى- كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- فَخُذُوهُمْ إذا قدرتم عليهم وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ من الحل والحرم فإن حكمهم حكم سائر المشركين أسرا وقتلا، وقيل: المراد القتل لا غير إلا أن الأمر بالأخذ لتقدمه على القتل عادة.
وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أي جانبوهم مجانبة كلية ولا تقبلوا منهم ولاية ولا نصرة أبدا كما يشعر بذلك المضارع الدال على الاستمرار أو التكرير المفيد للتأكيد إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ استثناء من الضمير في قوله سبحانه فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ أي إلا الذين يصلون وينتهون إلى قوم عاهدوكم ولم يحاربوكم وهم بنو مدلج.

صفحة رقم 105

أخرج ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال: لما ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أهل بدر وأحد وأسلم من حولهم قال سراقة: بلغني أنه عليه الصلاة والسلام يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي من بني مدلج فأتيته فقلت: أنشدك النعمة، فقالوا: مه فقال: دعوه ما تريد؟ قلت: بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي، وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام، وإن لم يسلموا لم تخش بقلوب قومك عليهم، فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيد خالد فقال: اذهب معه فافعل ما يريد فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم ومن وصل إليهم من الناس كانوا على مثل عهدهم فأنزل الله تعالى وَدُّوا حتى بلغ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ
فكان من وصل إليهم كانوا معهم على عهدهم، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الآية نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي وسراقة بن مالك المدلجي، وفي بني جذيمة بن عامر ولا يجوز أن يكون استثناء من الضمير في لا تَتَّخِذُوا وإن كان أقرب لأن اتخاذ الولي منهم حرام مطلقا.
أَوْ جاؤُكُمْ عطف على الصلة أي والذين جاؤُكُمْ كافين من قتالكم وقتال قومهم، فقد استثني من المأمور بأخذهم وقتلهم فريقان: من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين ومن أتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين، أو عطف على صفة قوم كأنه قيل: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ معاهدين، أو إلى قوم كافين عن القتال لكم وعليكم، والأول أرجح رواية ودراية إذ عليه يكون لمنع القتال سببان: الاتصال بالمعاهدين، والاتصال بالكافين وعلى الثاني يكون السببان الاتصال بالمعاهدين والاتصال بالكافين لكن قوله تعالى الآتي: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ إلخ يقرر أن أحد السببين هو الكف عن القتال لأن الجزاء مسبب عن الشرط فيكون مقتضيا للعطف على الصلة إذ لو عطف على الصفة كان أحد السببين الاتصال بالكافين لا الكف عن القتال، فإن قيل: لو عطف على الصفة تحققت المناسبة أيضا لأن سبب منع التعرض حينئذ الاتصال بالمعاهدين والاتصال بالكافين، والاتصال بهؤلاء وهؤلاء سبب للدخول في حكمهم، وقوله سبحانه: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ يبين حكم الكافين لسبق حكم المتصلين بهم، أجيب: بأن ذلك جائز إلا أن الأول أظهر وأجري على أسلوب كلام العرب لأنهم إذا استثنوا بينوا حكم المستثنى تقريرا وتوكيدا، وقال الإمام:
جعل الكف عن القتال سببا لترك التعرض أولى من جعل الاتصال بمن يكف عن القتال سببا لترك التعرض لأنه سبب بعيد على أن المتصلين بالمعاهدين ليسوا معاهدين لكن لهم حكمهم بخلاف المتصلين بالكافين فإنهم إن كفوا فهم هم وإلا فلا أثر له، وقرأ أبي جاؤُكُمْ بغير أو على أنه استئناف وقع جوابا لسؤال كأنه قيل: كيف كان الميثاق بينكم وبينهم؟ فقيل: جاؤُكُمْ إلخ، وقيل: يقدر السؤال كيف وصلوا إلى المعاهدين، ومن أين علم ذلك، وليس بشيء، أو على أنه صفة بعد صفة لقوم، أو بيان ليصلون، أو بدل منه، وضعف أبو حيان البيان بأنه لا يكون في الأفعال، والبدل بأنه ليس إياه ولا بعضه ولا مشتملا عليه، وأجيب بأن الانتهاء إلى المعاهدين والاتصال بهم حاصله الكف عن القتال فصح جعل مجيئهم إلى المسلمين بهذه الصفة، وعلى هذه العزيمة بيانا لاتصالهم بالمعاهدين، أو بدلا منه كلّا أو بعضا أو اشتمالا وكون ذلك لا يجري في الأفعال لا يقول به أهل المعاني، وقيل: هو معطوف على حذف العاطف، وقوله تعالى: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ حال بإضمار قد ويؤيده قراءة الحسن- حصرة صدورهم- وكذا قراءة- حصرات، وحاصرات- واحتمال الوصفية السببية لقوم لاستواء النصب والجر بعيد.
وقيل: هو صفة لموصوف محذوف هو حال من فاعل «جاؤوا» أي جاؤوكم قوما حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ولا حاجة حينئذ إلى تقدير قد، وما قيل: إن المقصود بالحالية هو الوصف لأنها حال موطئة فلا بد من قد سيما عند

صفحة رقم 106

حذف الموصوف فما ذكر التزام لزيادة الإضمار من غير ضرورة غير مسلم. وقيل: بيان لجاؤوكم وذلك كما قال الطيبي لأن مجيئهم غير مقاتلين وحَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أن يقاتلوكم بمعنى واحد، وقال العلامة الثاني: من جهة أن المراد بالمجيء الاتصال وترك المعاندة والمقاتلة لا حقيقة المجيء، أو من جهة أنه بيان لكيفية المجيء، وقيل: بدل اشتمال من جاؤُكُمْ لأن المجيء مشتمل على الحصر وغيره، وقيل: إنها جملة دعائية، ورد بأنه لا معنى للدعاء على الكفار بأن لا يقاتلوا قومهم، بل بأن يقع بينهم اختلاف وقتل، والحصر بفتحتين الضيق والانقباض أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ أي عن أن يقاتلوكم، أو لأن، أو كراهة أن وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ بأن قوى قلوبهم وبسط صدورهم وأزال الرعب عنهم فَلَقاتَلُوكُمْ عقيب ذلك ولم يكفوا عنكم، واللام جوابية لعطفه على الجواب، ولا حاجة لتقدير لو، وسماها مكي وأبو البقاء لام المجازاة والازدواج، وهي تسمية غريبة، وفي الاعادة إشارة إلى أنه جواب مستقل والمقصود من ذلك الامتنان على المؤمنين وقرىء فلقتلوكم بالتخفيف والتشديد فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ ولم يتعرضوا لكم فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ مع ما علمتم من تمكنهم من ذلك بمشيئة الله تعالى وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أي الصلح فانقادوا واستسلموا، وكان إلقاء السلم استعارة لأن من سلم شيئا ألقاه وطرحه عند المسلم له، وقرىء بسكون اللام مع فتح السين وكسرها فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم، وفي- نفي جعل السبيل- مبالغة في عدم التعرض لهم لأن من لا يمر بشيء كيف يتعرض له.
وهذه الآيات منسوخة الحكم بآية براءة فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥] وقد روي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ هم أناس كانوا يأتون النبي صلّى الله عليه وسلّم فيسلمون رياء ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا نبي الله صلّى الله عليه وسلّم ويأمنوا قومهم فأبى الله تعالى ذلك عليهم- قاله ابن عباس ومجاهد- وقيل: الآية في حق المنافقين كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أي دعوا إلى الشرك- كما روى عن السدي- وقيل: إلى قتال المسلمين أُرْكِسُوا فِيها أي قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه، يروى عن ابن عباس أنه كان الرجل يقول له قومه: بماذا آمنت؟ فيقول: آمنت بهذا القرد والعقرب والخنفساء فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ بالكف عن التعرض لكم بوجه ما وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أي ولم يلقوا إليكم الصلح والمهادنة وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ أي ولم يكفوا أنفسهم عن قتالكم.
فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي وجدتموهم وأصبتموهم أو حيث تمكنتم منهم، وعن بعض المحققين أن هذه الآية مقابلة للآية الأولى، وبينهما تقابل إما بالإيجاب والسلب، وإما بالعدم والملكة لأن إحداهما عدمية والأخرى وجودية وليس بينهما تقابل التضاد ولا تقابل التضايف لأنهما على ما قرروا لا يوجدان إلا بين أمرين وجوديين فقوله سبحانه: فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ مقابل لقوله تعالى: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ وقوله جل وعلا: وَيُلْقُوا مقابل لقوله عز شأنه: وَأَلْقَوْا وقوله جل جلاله: وَيَكُفُّوا مقابل لقوله عز من قائل: فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ والواو لا تقتضي الترتيب، فالمقدم مركب من ثلاثة أجزاء في الآيتين، وهي في الآية الأولى الاعتزال وعدم القتال وإلقاء السلم فبهذه الأجزاء الثلاثة تم الشرط، وجزاؤه عدم التعرض لهم بالأخذ والقتل كما يشير إليه قوله تعالى: فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا وفي الآية الثانية عدم الاعتزال وعدم إلقاء السلم وعدم الكف عن القتال، فبهذه الأجزاء الثلاثة تم الشرط، وجزاؤه الأخذ والقتل المصرح به بقوله سبحانه: فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ.
ومن هذا يعلم أن وَيَكُفُّوا بمعنى لم يكفوا عطف على المنفي لا على النفي بقرينة سقوط النون الذي هو علامة الجزم، وعطفه على النفي والجزم بأن الشرطية لا يصح لأنه يستلزم التناقض لأن معنى فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ إن

صفحة رقم 107

لم يكفوا، وإذا عطف وَيَكُفُّوا على النفي يلزم اجتماع عدم الكف والكف، وكلام الله تعالى منزه عنه، وكذا لا يصح كون قوله سبحانه: وَيَكُفُّوا جملة حالية، أو استئنافية بيانية، أو نحوية لاستلزام كل منهما التناقض مع أنه يقتضي ثبوت النون في يَكُفُّوا على ما هو المعهود في مثله، وأبو حيان جعل الجزاء في الأول مرتبا على شيئين، وفي الثانية على ثلاثة، والسر في ذلك الإشارة إلى مزيد خباثة هؤلاء الآخرين، وكلام العلامة البيضاوي- بيض الله تعالى غرة أحواله- في هذا المقام لا يخلو عن تعقيد، وربما لا يوجد له محمل صحيح إلا بعد عناية وتكلف فتأمل جدا وَأُولئِكُمْ الموصوفون بما ذكر من الصفات الشنيعة.
جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً أي حجة واضحة فيما أمرناكم به في حقهم لظهور عداوتهم ووضوح كفرهم وخبائثهم، أو تسلطا لا خفاء فيه حيث أذنا لكم في أخذهم وقتلهم وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ شروع في بيان حال المؤمنين بعد بيان حال الكافرين والمنافقين، وقيل: لما رغب سبحانه في قتال الكفار ذكر إثره ما يتعلق بالمحاربة في الجملة أي ما صح له وليس من شأنه أَنْ يَقْتُلَ بغير حق مُؤْمِناً فإن الإيمان زاجر عن ذلك إِلَّا خَطَأً فإنه مما لا يكاد يحترز عنه بالكلية. وقلما يخلو المقاتل عنه، وانتصابه إما على أنه حال أي ما كان له أن يقتل مؤمنا في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ، أو على أنه مفعول به أي ما كان له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ، أو على أنه صفة للمصدر أي إلا قتلا خطأ فالاستثناء في جميع ذلك مفرغ وهو استثناء متصل على ما يفهمه كلام بعض المحققين، ولا يلزم جواز القتل خطأ شرعا حيث كان المعنى أن من شأن المؤمن أن لا يقتل إلا خطأ.
وقال بعضهم: الاستثناء في الآية منقطع أي لكن إن قتله خطأ فجزاؤه ما يذكر، وقيل: إلا بمعنى ولا، والتقدير وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا عمدا ولا خطأ، وقيل: الاستثناء من مؤمن أي إلا خاطئا، والمختار مع الفصل الكثير في مثل ذلك النصب، والخطأ ما لا يقارنه القصد إلى الفعل، أو الشخص، أو لا يقصد به زهوق الروح غالبا، أو لا يقصد به محظور كرمي مسلم في صف الكفار مع الجهل بإسلامه، وقرىء- خطاء- بالمد- وخطا- بوزن عمى بتخفيف الهمزة،
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي أن عياش بن أبي ربيعة المخزومي- وكان أخا أبي جهل والحارث بن هشام لأمهما- أسلم وهاجر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان أحب ولد أمه إليها فشق ذلك عليها فحلفت أن لا يظلها سقف بيت حتى تراه، فأقبل أبو جهل والحارث حتى قدما المدينة فأخبرا عياشا بما لقيت أمه، وسألاه أن يرجع معهما فتنظر إليه ولا يمنعاه أن يرجع وأعطياه موثقا أن يخليا سبيله بعد أن تراه أمه فانطلق معهما حتى إذا خرجا من المدينة عمدا إليه فشداه وثاقا وجلداه نحوا من مائة جلدة، وأعانهما على ذلك رجل من بني كنانة فحلف عياش ليقتلن الكناني إن قدر عليه فقدما به مكة فلم يزل محبوسا حتى فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة فخرج عياش فلقي الكناني وقد أسلم، وعياش لا يعلم بإسلامه فضربه حتى قتله فأخبر بعد ذلك فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره الخبر فنزلت، وروي مثل ذلك عن مجاهد وعكرمة.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد «أنها نزلت في رجل قتله أبو الدرداء كان في سرية فعدل أبو الدرداء إلى شعب يريد حاجة له فوجد رجلا من القوم في غنم له فحمل عليه بالسيف، فقال: لا إله إلا الله فبدر فضربه، ثم جاء بغنمه إلى القوم ثم وجد في نفسه شيئا فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فذكر ذلك له فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألا شققت عن قلبه وقد أخبرك بلسانه فلم تصدقه؟! فقال: كيف بي يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: فكيف بلا إله إلا الله؟! وتكرر ذلك- قال أبو الدرداء- فتمنيت أن ذلك اليوم مبتدأ إسلامي ثم نزل القرآن»
وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي فعليه- أي فواجبه تحرير رقبة- والتحرير الإعتاق وأصل معناه جعله حرا أي كريما لأنه يقال لكل مكرم حر، ومنه حر الوجه-

صفحة رقم 108

للخد- وأحرار الطير، وكذا تحرير الكتاب من هذا أيضا، والمراد بالرقبة النسمة تعبيرا عن الكل بالجزء، قال الراغب:
إنها في المتعارف للمماليك كما يعبر بالرأس والظهر عن المركوب، فيقال: فلان يربط كذا رأسا وكذا ظهرا مُؤْمِنَةٍ محكوم بإيمانها وإن كانت صغيرة، وإلى ذلك ذهب عطاء، وعن ابن عباس والشعبي وإبراهيم والحسن لا يجزىء في كفارة القتل الطفل ولا الكافر، وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال في حرف أبي: فتحرير رقبة مؤمنة لا يجزىء فيها صبي، وفي الآية رد على من زعم جواز عتق كتابي صغير أو مجوسي كبير أو صغير، واستدل بها على عدم إجزاء نصف رقبة ونصف أخرى وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ أي مؤداة إلى ورثة القتيل يقتسمونها بينهم على حسب الميراث،
فقد أخرج أصحاب السنن الأربعة عن الضحاك بن سفيان الكلابي قال: كتب إليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرني أن أورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها ويقضى منها الدين وتنفذ الوصية ولا فرق بينها وبين سائر التركة، وعن شريك لا يقضى من الدية دين ولا تنفذ وصية.
وعن ربيعة الغرة لأم الجنين وحدها وذلك خلاف قول الجماعة، وتجب الرقبة في مال القاتل، والدية تتحملها عنه العاقلة، فإن لم تكن فهي في بيت المال، فإن لم يكن ففي ماله إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا أي يتصدق أهله عليه، وسمي العفو عنها صدقة حثا عليه،
وقد أخرج الشيخان عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «كل معروف صدقة»
وهو متعلق بعليه المقدر قبل، أو- بمسلمة- أي فعليه الدية أو يسلمها في جميع الأحيان إلا حين أن يتصدق أهله بها فحينئذ تسقط ولا يلزم تسليمها، وليس فيه- كما قيل- دلالة على سقوط التحرير حتى يلزم تقدير عليه آخر قبل قوله: وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ فالمنسبك في محل نصب على الاستثناء، وقال الزمخشري: إن المنسبك في محل النصب على الحال من القاتل أو الأهل أو لظرف، وتعقبه أبو حيان بأن كلا التخريجين خطأ لأن أَنْ والفعل لا يجوز وقوعهما حالا، ولا منصوبا على الظرفية- كما نص عليه النحاة- وذكر أن بعضهم استشهد على وقوع أَنْ وصلتها موقع ظرف الزمان بقوله:

فقلت لها لا تنكحيه فإنه لأول سهم أن يلاقي مجمعا
أي لأول سهم زمان ملاقاته، وابن مالك- كما قال السفاقسي- يقدر في الآية والبيت حرف الجر أي بأن يصدقوا، وبأن يلاقي، وقرأ أبي- إلا أن يتصدقوا- فَإِنْ كانَ أي المقتول خطأ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ أي كفار يناصبونكم الحرب وَهُوَ مُؤْمِنٌ ولم يعلم به القاتل لكونه بين أظهر قومه بأن أتاهم بعد أن أسلم أعلمهم، أو بأن أسلم فيما بينهم ولم يفارقهم، والآية نزلت- كما قال ابن جبير- في مرداس بن عمرو لما قتله خطأ أسامة بن زيد فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أي فعلى قاتله الكفارة دون الدية إذ لا وراثة بينه وبين أهله فَإِنْ كانَ أي المقتول المؤمن- كما روي عن جابر بن زيد- مِنْ قَوْمٍ كفار بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أي عداء مؤقت أو مؤبد فَدِيَةٌ أي فعلى قاتله دية مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ من أهل الإسلام إن وجدوا، ولا تدفع إلى ذوي قرابته من الكفار، وإن كانوا معاهدين إذ لا يرث الكافر المسلم، ولعل تقديم هذا الحكم- كما قيل- مع تأخير نظيره فيما سلف للإشعار بالمسارعة إلى تسليم الدية تحاشيا عن توهم نقض الميثاق وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ كما هو حكم سائر المسلمين، ولعل إفراده بالذكر- كما قيل- أيضا مع اندراجه في حكم ما سبق في قوله سبحانه: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً إلخ لبيان أن كونه فيما بين المعاهدين لا يمنع وجوب الدية كما منعه كونه بين المحاربين.
وقيل: المراد بالمقتول هنا أحد أولئك القوم المعاهدين فيلزم قاتله تحرير الرقبة، وأداء الدية إلى أهله المشركين للعهد الذي بيننا وبينهم، وروي ذلك عن ابن عباس والشعبي وأبي مالك، واستدل بها على أن دية المسلم والذمي سواء لأنه تعالى ذكر في كل الكفارة والدية فيجب أن تكون ديتهما سواء كما أن الكفارة عنهما سواء.

صفحة رقم 109

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال: بلغنا أن دية المعاهد كانت كدية المسلم ثم نقصت بعد في آخر الزمان فجعلت مثل نصف دية المسلم وأخرج أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن دية أهل الكتاب كانت على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم النصف من دية المسلمين وبذلك أخذ مالك.
وعن الشافعي رضي الله تعالى عنه دية اليهودي والنصراني نصف دية المسلم ودية المجوسي ثلثا عشرها، وزعم بعضهم وجوب الدية أيضا فيما إذا كان المقتول من قوم عدو لنا وهو مؤمن لعموم الآية الأولى، وأن السكوت عن الدية في آيته لا ينفيها، وإنما سكت عنها لأنه لا يجب فيه دية تسلم إلى أهله لأنهم كفار بل تكون لبيت المال، فأراد أن يبين بالسكوت أن أهله لا يستحقون شيئا، وقال آخرون إن الدية تجب في المؤمن إذا كان من قوم معاهدين، وتدفع إلى أهله الكفار وهم أحق بديته لعهدهم، ولعل هؤلاء لا يعدون ذلك إرثا إذ لا يرث الكافر- ولو معاهدا- المسلم كما برهن عليه فَمَنْ لَمْ يَجِدْ رقبة يحررها بأن لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها من الثمن فَصِيامُ أي فعليه صيام شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ قال مجاهد: لا يفطر فيهما ولا يقطع صيامهما، فإن فعل من غير مرض ولا عذر استقبل صيامهما جميعا، فإن عرض له مرض أو عذر صام ما بقي منهما، فإن مات ولم يصم أطعم عنه ستين مسكينا لكل مسكين مدّ، رواه ابن أبي حاتم.
وأخرج عنه أيضا أنه قال: فمن لم يجد دية، أو عتاقة فعليه الصوم، وبه أخذ من قال: إن الصوم لفاقد الدية والرقبة يجزيه عنهما، والاقتصار على تقدير الرقبة مفعولا- هو المروي عن الجمهور- وأخرج ابن جرير عن الضحاك أنه قال:
الصيام لمن لم يجد رقبة، وأما الدية فواجبة لا يبطلها شيء، ثم قال- وهو الصواب- لأن الدية في الخطأ على العاقلة والكفارة على القاتل، فلا يجزىء صوم صائم عما لزم غيره في ماله، واستدل بالآية من قال: إنه لا إطعام في هذه الكفارة، ومن قال: ينتقل إليه عند العجز عن الصوم قاسه على الظهار وهو أحد قولين للشافعي رحمه الله تعالى، وبذكر الكفارة في الخطأ دون العمد، من قال إن لا كفارة في العمد، والشافعي يقول: هو أولى بها من الخطأ تَوْبَةً نصب على أنه مفعول له أي شرع لكم ذلك توبة أي قبولا لها من تاب الله تعالى عليه إذ قبل توبته، وفيه إشارة إلى التقصير بترك الاحتياط.
وقيل: التوبة هنا بمعنى التخفيف أي شرع لكم هذا تخفيفا عليكم، وقيل: إنه منصوب على الحالية من الضمير المجرور في- عليه- بحذف المضاف أي فعليه صيام شهرين حال كونه ذا توبة، وقيل: على المصدرية أي تاب عليكم توبة، وقوله سبحانه مِنَ اللَّهِ متعلق بمحذوف وقع صفة للنكرة أي توبة كائنة من الله تعالى.
وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بجميع الأشياء التي من جملتها حال هذا القاتل حَكِيماً في كل ما شرع وقضى من الأحكام التي من جملتها ما شرع وقضى في شأنه وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً بأن يقصد قتله بما يفرق الأجزاء، أو بما لا يطيقه البتة عالما بإيمانه، وهو نصب على الحال من فاعل «يقتل».
وروي عن الكسائي أنه سكن التاء وكأنه فر من توالي الحركات فَجَزاؤُهُ الذي يستحقه بجنايته جَهَنَّمُ خالِداً فِيها أي ماكثا إلى الأبد، أو مكثا طويلا إلى حيث شاء الله تعالى، وهو حال مقدرة من فاعل فعل مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل: فجزاؤه أن يدخل جهنم خالدا.
وقال أبو البقاء: هو حال من الضمير المرفوع، أو المنصوب في يجزاها المقدر، وقيل: هو من المنصوب لا غير ويقدر جازاه، وأيد بأنه أنسب بعطف ما بعده عليه لموافقته له صيغة، ومنع جعله حالا من الضمير المجرور في فَجَزاؤُهُ لوجهين: أحدهما أنه حال من المضاف إليه، وثانيهما أنه فصل بين الحال وذيها بخبر المبتدأ، وقول

صفحة رقم 110

سبحانه: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ عطف على مقدر تدل عليه الشرطية دلالة واضحة كأنه قيل: يطريق الاستئناف تقريرا لمضمونها حكم الله تعالى بأن جزاءه ذلك- وغضب عليه- أي انتقم منه على ما عليه الأشاعرة وَلَعَنَهُ أي أبعده عن رحمته بجعل جزائه ما ذكر، وقيل: هو وما بعده معطوف على الخبر بتقدير أن وحمل الماضي على معنى المستقبل أي فجزاؤه جهنم وأن يغضب الله تعالى عليه إلخ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً لا يقادر قدره.
والآية- كما
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير- نزلت في مقيس بن ضبابة الكناني (١) أنه أسلم هو وأخوه هشام وكانا بالمدينة فوجد مقيس أخاه هشاما ذات يوم قتيلا في الأنصار في بني النجار فانطلق إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره بذلك فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا من قريش من بني فهر- ومعه مقيس إلى بني النجار ومنازلهم يومئذ بقباء- أن ادفعوا إلى مقيس قاتل أخيه إن علمتم ذلك وإلا فادفعوا إليه الدية فلما جاءهم الرسول قالوا: السمع والطاعة لله تعالى وللرسول صلّى الله عليه وسلّم والله تعالى ما نعلم له قاتلا ولكن نؤدّي الدية فدفعوا إلى مقيس مائة من الإبل دية أخيه، فلما انصرف مقيس، والفهري راجعين من قباء إلى المدينة، وبينهما ساعة عمد مقيس إلى الفهري رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقتله وارتد عن الإسلام، وفي رواية أنه ضرب به الأرض وفضخ رأسه بين حجرين وركب جملا من الدية وساق معه البقية ولحق بمكة، وهو يقول في شعر له:

قتلت به فهرا وحملت عقله سراة بني النجار أرباب فارع
وأدركت ثاري وأضجعت موسدا وكنت إلى الأوثان أول راجع
فنزلت
هذه الآية مشتملة على إبراق وإرعاد وتهديد شديد وإبعاد، وقد تأيدت بغير ما خبر ورد عن سيد البشر صلّى الله عليه وسلّم
فقد أخرج أحمد والنسائي عن معاوية سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: كل ذنب عسى الله تعالى أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا، وأخرج ابن المنذر عن أبي الدرداء مثله،
وأخرج ابن عدي والبيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أعان على دم امرئ مسلم بشطر كلمة كتب بين عينيه يوم القيامة آيس من رحمة الله تعالى»،
وأخرجا عن البراء بن عازب «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: لزوال الدنيا وما فيها أهون عند الله تعالى من قتل مؤمن ولو أن أهل سمواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله تعالى النار»،
وفي رواية الأصبهاني عن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام قال: «لو أن الثقلين اجتمعوا على قتل مؤمن لأكبهم الله تعالى على مناخرهم في النار، وأن الله تعالى حرم الجنة على القاتل والآمر»،
واستدل بذلك ونحوه من القوارع المعتزلة على خلود من قتل مؤمنا متعمدا في النار، وأجاب بعض المحققين بأن ذلك خارج مخرج التغليظ في الزجر لا سيما الآية لاقتضاء النظم له فيها كقوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ [آل عمران: ٩٧] في آية الحج،
وقوله صلّى الله عليه وسلّم للمقداد بن الأسود- كما في الصحيحين حين سأله عن قتل من أسلم من الكفار بعد أن قطع يده في الحرب- «لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول الكلمة التي قال»،
وعلى ذلك يحمل ما
أخرجه عبد بن حميد عن الحسن قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نازلت ربي في قاتل المؤمن أن يجعل له توبة فأبى علي»
وما أخرجه عن سعيد بن مينا أنه قال: «كنت جالسا بجنب أبي هريرة رضي الله تعالى عنه إذ أتاه رجل فسأله عن قاتل المؤمن هل له من توبة؟ فقال: لا والذي لا إله إلا هو لا يدخل الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط».
وشاع القول بنفي التوبة عن ابن عباس، وأخرجه غير واحد عنه وهو محمول على ما ذكرنا، ويؤيد ذلك ما
(١) وهو الذي قتل متعلقا بأستار الكعبة يوم الفتح اهـ منه.

صفحة رقم 111

أخرجه ابن حميد والنحاس عن سعيد بن عبيدة أن ابن عباس كان يقول لمن قتل مؤمنا توبة فجاءه رجل فسأله ألمن قتل مؤمنا توبة؟ قال: لا إلا النار فلما قام الرجل قال له جلساؤه: ما كنت هكذا تفتينا كنت تفتينا أن لمن قتل مؤمنا توبة مقبولة فما شأن هذا اليوم؟! قال: إني أظنه رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك، وكان هذا أيضا شأن غيره من الأكابر فقد قال سفيان: كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا توبة له فإذا ابتلي رجل قالوا له: تب، وأجاب آخرون بأن المراد من الخلود في الآية المكث الطويل لا الدوام لتظاهر النصوص الناطقة بأن عصاة المؤمنين لا يدوم عذابهم،
وأخرج ابن المنذر عن عون بن عبد الله أنه قال: فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ إن هو جازاه، وروي مثله بسند ضعيف عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم،
قيل: وهذا كما يقول الإنسان لمن يزجره عن أمر:
إن فعلته فجزاؤك القتل والضرب، ثم إن لم يجازه لمن يكن ذلك منه كذبا، والأصل في هذا على ما قال الواحدي: أن الله عز وجل يجوز أن يخلف الوعيد وإن امتنع أن يخلف الوعد، وبهذا وردت السنة
ففي حديث أنس رضي الله تعالى عنه «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: من وعده الله تعالى على عمله ثوابا فهو منجزه له، ومن أوعده على عمله عقابا فهو بالخيار»
ومن أدعية الأئمة الصادقين رضي الله تعالى عنهم: يا من إذا وعد وفا، وإذا توعد عفا،
وقد افتخرت العرب بخلف الوعيد، ولم تعده نقصا كما يدل عليه قوله:

وإني إذا أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
واعترض بأن الوعيد قسم من أقسام الخبر، وإذا جاز الخلف فيه وهو كذب لإظهار الكرم، فلم لا يجوز في القصص والاخبار لغرض من الأغراض، وفتح ذلك الباب يفضي إلى الطعن في الشرائع كلها.
والقائلون بالعفو عن بعض المتوعدين منهم من زعم أن آيات الوعيد إنشاء، ومنهم من قال إنها إخبار إلا أن هناك شرطا محذوفا للترهيب فلا خلف بالعفو فيها، وقال شيخ الإسلام: والتحقيق أنه لا ضرورة إلى تفريع ما نحن فيه على الأصل لأنه إخبار منه تعالى بأن جزاءه ذلك لا بأنه يجزيه كيف لا وقد قال عز وجل: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: ٤٠] ولو كان هذا إخبارا بأنه سبحانه يجزي كل سيئة بمثلها لعارضه قوله جل شأنه وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ وهذا مأخوذ من كلام أبي صالح وبكر بن عبد الله، واعترضه أبو علي الجبائي بأن ما لا يفعل لا يسمى جزاء ألا ترى أن الأجير إذا استحق الأجرة فالدراهم التي عند مستأجرة لا تسمى جزاء ما لم تعط له وتصل إليه؟.
وتعقبه الطبرسي بأن هذا لا يصح لأن الجزاء عبارة عن المستحق سواء فعل أم لم يفعل، ولهذا يقال: جزاء المحسن الإحسان وجزاء المسيء الإساءة، وإن لم يتعين المحسن والمسيء حتى يقال: فعل ذلك معهما أو لم يفعل، ويقال لمن قتل غيره: جزاء هذا أن يقتل، وهو كلام صادق وإن لم يفعل القتل وإنما لا يقال للدراهم إنها جزاء الأجير لأن الأجير إنما يستحق الأجرة في الذمة لا في الدراهم المعينة فللمستأجر أن يعطيه منها ومن غيرها.
واعترض بأنا سلمنا أنه لا يلزم في الجزاء أن يفعل إلا أن كثيرا من الآيات كقوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء: ١٢٣] وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: ٨] يدل على أنه تعالى يوصل الجزاء إلى المستحقين البتة، وفي الآية ما يشير إليه ولا يخفى ما فيه لأن الآيات التي فيها أنه تعالى يوصل الجزاء إلى مستحقه كلها في حكم آيات الوعيد والعفو فيه جائز، فلا معنى للقول بالبت، ومن هنا قيل: إن الآية لا تصلح دليلا للمعتزلة مع قوله تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: ٤٨].
وقد أخرج البيهقي عن قريش بن أنس قال: «كنت عند عمرو بن عبيد في بيته فأنشأ يقول: يؤتى بي يوم القيامة فأقام بين يدي الله تعالى فيقول لي: لم قلت: إن القاتل في النار؟ فأقول أنت قلته ثم تلا هذه الآية وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً

صفحة رقم 112
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية