
اللَّه يكفيك معرّتهم «١» وينتقم لك منهم إذا قوى أمر الإسلام وعز أنصاره. وقرئ (بَيَّتَ طائِفَةٌ) بالإدغام وتذكير الفعل، لأنّ تأنيث الطائفة غير حقيقى، ولأنها في معنى الفريق والفوج.
[سورة النساء (٤) : آية ٨٢]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢)
تدبُّر الأمر: تأمُّله والنظر في إدباره وما يؤل إليه في عاقبته ومنتهاه، ثم استعمل في كل تأمل فمعنى تدبر القرآن: تأمل معانيه وتبصر ما فيه لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً لكان الكثير منه مختلفا متناقضا قد تفاوت نظمه وبلاغته ومعانيه، فكان بعضه بالغا حدّ الإعجاز، وبعضه قاصرا عنه يمكن معارضته، وبعضه إخبارا بغيب قد وافق المخبر عنه، وبعضه إخبارا مخالفا للمخبر عنه، وبعضه دالا على معنى صحيح عند علماء المعاني. وبعضه دالا على معنى فاسد غير ملتئم، فلما تجاوب كله بلاغة معجزة فائتة لقوى البلغاء وتناصر صحة معان وصدق إخبار، علم أنه ليس إلا من عند قادر على ما لا يقدر عليه غيره، عالم بما لا يعلمه أحد سواه. فإن قلت: أليس نحو قوله: (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ)، (كَأَنَّها جَانٌّ)، (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)، (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) من الاختلاف؟ قلت: ليس باختلاف عند المتدبرين.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٨٣ الى ٨٤]
وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣) فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤)
هم ناس من ضعفة المسلمين «٢» الذين لم تكن فيهم خبرة بالأحوال ولا استبطان للأمور.
(٢). قال محمود: «هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم تكن فيهم خبرة بالأحوال... الخ» قال أحمد: وفي اجتماع الهمزة والباء على التعدية نظر، لأنهما متعاقبتان وهو الذي اقتضى عند الزمخشري قوله في الوجه الثاني: فعلوا الاذاعة ليخرجها عن الباء المعاقبة للهمزة، ثم في هذه الآية تأديب لمن يحدث بكل ما يسمع، وكفى به كذباً، وخصوصا عن مثل السرايا والمناصبين الأعداء والمقيمين في نحر العدو، وما أعظم المفسدة في لهج العامة بكل ما يسمعون من أخبارهم، خيراً أو غيره. ولقد جربنا ذلك في زماننا هذا منذ طرق العدو المخذول البلاد- طهرها اللَّه من دنسه، وصانها عن رجسه ونجسه، وعجل للمسلمين الفتح وأنزل عليهم السكينة والنصر.

كانوا إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من أمن وسلامة أو خوف وخلل أَذاعُوا بِهِ وكانت إذاعتهم مفسدة، ولو ردوا ذلك الخبر إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وإلى أولى الأمر منهم- وهم كبراء الصحابة البصراء بالأمور أو الذين كانوا يؤمرون منهم- لَعَلِمَهُ لعلم تدبير ما أخبروا به الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ الذين يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها. وقيل: كانوا يقفون من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأولى الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء، أو على خوف واستشعار، فيذيعونه فينتشر فيبلغ الأعداء، فتعود إذاعتهم مفسدة. ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر وفوّضوه إليهم وكانوا كأن لم يسمعوا، لعلم الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون ويذرون فيه. وقيل: كانوا يسمعون من أفواه المنافقين شيئاً من الخبر عن السرايا مظنونا غير معلوم الصحة فيذيعونه، فيعود ذلك وبالأعلى المؤمنين. ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر وقالوا نسكت حتى نسمعه منهم ونعلم هل هو مما يذاع أو لا يذاع، لعلمه الذين يستنبطونه منهم، لعلم صحته وهل هو مما يذاع أو لا يذاع هؤلاء المذيعون، وهم الذين يستنبطونه من الرسول وأولى الأمر، أى يتلقونه منهم ويستخرجون علمه من جهتهم. يقال: أذاع السر، وأذاع به. قال:
أَذَاعَ بِهِ فِى النَّاسِ حتَّى كَأَنَّهُ | بِعَلْيَاءَ نَارٌ أُوقِدَتْ بِثَقُوب «١» |
فَإنْ أَهْجُهُ يَضجَرْ كَمَا ضَجْرَ بَازِلٌ | مِنَ الْأُدْمِ دَبْرَتْ صَفْحَتَاهُ وَغَارِبُهْ «٢» |
أمنت على السر امرءاً غير حازم | ولكنه في النصح غير مريب |
أذاع به في الناس حتى كأنه | بعلياء نار أوقدت بثقوب |
وضعت السر عند من لا يصونه، وغرني صدق نصحه فأفشاه بين الناس. حتى كأنه نار في أكمة عالية أشعلت بالثقوب، فتكون أشد ظهوراً.
(٢). ضجر البعير: كثر رغاؤه من ثقل الحمل. والبازل البعير الذي انشق نابه، وذلك في السنة الثامنة أو التاسعة.
والأدم: الشديدات البياض: جمع آدم أى شديد البياض، وربما علته صفرة، وزان حمر وأحمر، خصها لرقة جلودها. والدبر: الانجراح والانتقاب من الرحل. والغارب: العظم الناشز في الظهر. وضجر، ودبر: فعلان ماضيان من باب تعب، سكن وسطهما تخفيفا. يقول: إن أذمه يتضجر كتضجر ذلك البعير من حمله.

وهو إرسال الرسول، وإنزال الكتاب «١»، والتوفيق لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ لبقيتم على الكفر إِلَّا قَلِيلًا منكم. أو إلا اتباعا قليلا، لما ذكر في الآي قبلها تثبطهم عن القتال، وإظهارهم الطاعة وإضمارهم خلافها. قال: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إن أفردوك وتركوك وحدك لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ غير نفسك وحدها أن تقدّمها إلى الجهاد، فإنّ اللَّه هو ناصرك لا الجنود، فإن شاء نصرك وحدك كما ينصرك وحولك الألوف. وقيل: دعا الناس في بدر الصغرى إلى الخروج، وكان أبو سفيان واعد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم اللقاء فيها، فكره بعض الناس أن يخرجوا فنزلت، فخرج وما معه إلا سبعون لم يلو على أحد، ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده، وقرئ (لا تكلف) بالجزم على النهى. ولا نكلف: بالنون وكسر اللام، أى لا نكلف نحن إلا نفسك وحدها وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ وما عليك في شأنهم إلا التحريض فحسب، لا التعنيف بهم عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم قريش، وقد كف بأسهم فقد بدا لأبى سفيان وقال: هذا عام مجدب، وما كان معهم زاد إلا السويق، ولا يلقون إلا في عام مخصب فرجع بهم وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً من قريش وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا تعذيبا.