آيات من القرآن الكريم

فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ۚ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا
ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ

بذلك أن من أحكام الله ما هو منصوص عليه، ومنها ما هو مودع في النص، قد كلفنا الوصول إلى علمه بالاستدلال عليه واستنباطه.
فقد حوت هذه الآية معاني منها: أن في أحكام الحوادث ما ليس بمنصوص عليه، بل مدلول عليه. ومنها: أن على العلماء استنباطه، والتوصل إلى معرفته برده إلى نظائره من المنصوص. ومنها أن العامي عليه تقليد العلماء في أحكام الحوادث. ومنها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد كان مكلفا باستنباط الأحكام والاستدلال عليها بدلائلها لأنه تعالى أمر بالرد إلى الرسول وإلى أولي الأمر. ثم قال:
لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ولم يخص أولي الأمر بذلك دون الرسول، وفي ذلك دليل على أن للجميع الاستنباط والتوصل إلى معرفة الحكم بالاستدلال «١».
التحريض على الجهاد
[سورة النساء (٤) : آية ٨٤]
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤)
المفردات اللغوية:
لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ لا تهتم بتخلفهم عنك، وقاتل ولو وحدك، فإنك موعود بالنصر.
وَحَرِّضِ حثهم على القتال ورغبهم فيه. بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي شدتهم وقوتهم. وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا تعذيبا ومعاقبة بما فيه عبرة ونكال لغيرهم.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى في الآية المتقدمة تثبيطهم (شغلهم) عن القتال وإظهارهم

(١) أحكام القرآن: ٢/ ٢١٥

صفحة رقم 178

الطاعة وإضمارهم خلافها، قال: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى عبده ورسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بأن يباشر القتال بنفسه، وأما من نكل عنه فليتركه.
فقاتل يا محمد في سبيل الله إن أفردوك وتركوك وحدك إن أردت الظفر على الأعداء، لا تكلف غير نفسك وحدها أن تقدمها إلى الجهاد، فإن الله هو ناصرك، لا الجنود، فإن شاء نصرك وحدك، كما ينصرك وحولك الألوف.
أما غيرك الذين يقولون: لم كتبت علينا القتال، ويبيتون غير ما يعلنون أمامك من الطاعة، فاتركهم وشأنهم، والله مجازيهم على أعمالهم.
وما عليك في شأنهم إلا التحريض على القتال فحسب، لا التعنيف بهم، عسى الله- هنا بمعنى الخبر والوعد ووعد الله لا يخلف- أن يرد عنك بأس أي شدة وقوة الذين كفروا وهم قريش، والله أشد بأسا- قوة- من قريش، وأشد تنكيلا: تعذيبا ومعاقبة وهو قادر عليهم في الدنيا والآخرة لكفرهم وجرأتهم على الحق.
وقد تحقق هذا الوعد الإلهي، فكفّ بأس الكافرين،
وذلك أن أبا سفيان بعد موقعة أحد كان قد طلب اللقاء في بدر في العام المقبل، فأجابه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى مطلبه، فحينما حل موعد بدر الصغرى في السنة الثالثة لغزوة أحد، صمم النبي صلّى الله عليه وسلّم على الخروج، وقال: «والذي نفسي بيده لأخرجن ولو وحدي»
فخرج ومعه سبعون فقط، وتحقق لهم النصر لأن أبا سفيان بدا له وقال: هذا عام مجدب، وما كان معهم زاد إلا السويق، ولا يلقون إلا في عام مخصب، فرجع من الطريق، وصرفه الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.

صفحة رقم 179

فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآية في الغاية القصوى من التحريض على القتال وخوض المعارك، فلا يكلف إلا النبي وحده إذا امتنع المسلمون عن مشاركته في الجهاد، والمعنى لا تدع جهاد العدو والاستنصار عليهم للمستضعفين من المؤمنين، ولو وحدك لأنه وعده بالنصر. قال الزجاج: أمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالجهاد وإن قاتل وحده لأنه قد ضمن له النصرة.
وهي تدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم أمر بقتال المشركين الذين قاوموا دعوته بقوتهم وإن كان وحده، كما أنها تدل على اتصاف النبي صلّى الله عليه وسلّم بشجاعة لا نظير لها، وقد ثبت وحده في أحد وحنين وكان الأبطال يتقون به،
قال علي كرم الله وجهه: «كنا إذا حمي الوطيس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه».
واشتملت الآية على حض المؤمنين على الجهاد والقتال، ودلت على وعد من الله بنصر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتحقق هذا الوعد، كما أوضحت، ولا يلزم وجوده على الاستمرار والدوام، فمتى وجد ولو لحظة مثلا، فقد صدق الوعد، فكف الله بأس المشركين ببدر الصغرى، وأخلفوا ما كانوا عاهدوه من الحرب والقتال: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ [الأحزاب ٣٣/ ٢٥]. وكذلك انتصر المؤمنون على المشركين في الحديبية أيضا عما راموه من الغدر وانتهاز الفرصة، ففطن بهم المسلمون، فخرجوا فأخذوهم أسرى، وكان ذلك والسفراء يمشون بينهم في الصلح، وهو المراد بقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [الفتح ٤٨/ ٢٤].
وألقى الله الرعب في قلوب الأحزاب يوم الخندق، وانصرفوا من غير قتل ولا قتال، كما قال تعالى: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ [الأحزاب ٣٣/ ٢٥].
وخرج اليهود من ديارهم وأموالهم بغير قتال المؤمنين لهم. وقبل كثير من

صفحة رقم 180
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية