
وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ.
لطيفة:
الخطاب في أَصابَكَ عام لكل من يقف عليه. لا للنبيّ صلى الله عليه وسلم. كقوله:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
ويدخل فيه المذكورون دخولا أوليّا. وجوّز أن يكون الخطاب له صلى الله عليه وسلم، كما قبله وما بعده، لكن لا لبيان حاله صلى الله عليه وسلم، بل لبيان حال الكفرة بطريق التصوير. ولعل ذلك لإظهار كمال السخط والغضب عليهم، والإشعار بأنهم لفرط جهلهم وبلادتهم بمعزل من استحقاق الخطاب. لا سيما بمثل هذه الحكمة الأنيقة. قرره أبو السعود.
قال بعض المفسرين: وثمرة الآية ردّ التطيّر والتشاؤم.
وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا بيان لجلالة منصبه ﷺ ومكانته عند الله عز وجل.
بعد بيان بطلان زعمهم الفاسد في حقه عليه الصلاة والسلام. بناء على جهلهم بشأنه الجليل. وتعريف (الناس) للاستغراق. أفاده أبو السعود. أي: فمن أين يتصور لك الشؤم وقد أرسلت داعيا العموم إلى الخيرات؟ فأنت منشأ كل خير ورحمة وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أي: على رسالتك وصدقك، بإظهار المعجزات على يديك.
أي: وإذا ثبتت رسالتك، فاليمن في طاعتك، والشؤم في مخالفتك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٨٠]
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠)
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ لأنه عليه الصلاة والسلام مبلغ لأمره ونهيه.
مرجع الطاعة وعدمها هو الله سبحانه وتعالى وَمَنْ تَوَلَّى عن طاعته فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أي كفيلا تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها وتعاقبهم بحسبها. فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد: ٤٠].
ولما بين تعالى وجوب طاعة الرسول، تأثره بذكر معاملتهم معه. فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٨١]
وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٨١)
وَيَقُولُونَ أي: المنافقون، إذا أمرتهم بشيء، وهم عندك طاعَةٌ بالرفع.

أي: أمرنا وشأننا طاعة. ويجوز النصب بمعنى: أطعناك طاعة. كما يقول المنقاد:
سمعا وطاعة، وسمع وطاعة. قال سيبويه: سمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقال له:
كيف أصبحت؟ فيقول: حمد الله وثناء عليه. كأنه قال: أمري وشأني حمد الله وثناء عليه. ولو نصب (حمد الله) كان على الفعل. والرفع يدل على ثبات الطاعة واستقرارها. فَإِذا بَرَزُوا أي خرجوا مِنْ عِنْدِكَ أي: من مجلسك بَيَّتَ أي:
دبّر ليلا طائِفَةٌ مِنْهُمْ أي من القائلين المذكورين وهم رؤساؤهم غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ أي: خلاف ما قالت لك، من القبول وضمان الطاعة. لأنهم مصرون على الرد والعصيان. وإنما يظهرون ما يظهرون على وجه النفاق.
تنبيهان:
الأول- في (القاموس وشرحه) وبيّت الأمر: عمله أو دبره ليلا. وقال الزجاج:
كل ما فكر فيه، أو خيض بليل، فقد بيّت. ويقال: بيّت بليل ودبّر بليل بمعنى واحد.
وفي الحديث: أنه كان ﷺ لا يبيّت مالا ولا يقيله
. أي: إذا جاءه مال لا يمسكه إلى الليل ولا إلى القائلة. بل يعجل قسمته. انتهى.
ونقل الرازيّ عن الزجاج أيضا: أن كل أمر تفكر فيه وتأمل في مصالحه ومفاسده كثيرا، يقال فيه مبيّت. وفي اشتقاقه وجهان: الأول- من البيتوتة لأن أصلح الأوقات للفكر أن يجلس الإنسان في بيته بالليل. فهناك تكون الخواطر أخلى، والشواغل أقل. فلما كان الغالب أن الإنسان وقت الليل يكون في البيت، والغالب أنه يستقصي الأفكار في الليل، لا جرم سمي الفكر المستقصى مبيّتا. الثاني- اشتقاقه من أبيات الشعر. لأن الشاعر يدبرها ويسويها. قال الأخفش: العرب إذا أرادوا قرض الشعر بالغوا في التفكر فيه. فسمّوا المتفكّر فيه، المستقصى، مبيّتا. تشبيها له ببيت الشعر. من حيث إنه يسوى ويدبر.
الثاني- تذكير الفعل. لأن تأنيث (طائفة) غير حقيقيّ. ولأنها في معنى الفوج والفريق. وإسناده إلى طائفة منهم، لبيان أنهم المتصدون له بالذات. والباقون أتباع لهم في ذلك. لا لأن الباقين ثابتون على الطاعة. وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ أي:
يثبته في صحائف أعمالهم بما يأمر به حفظته الكاتبين الموكلين بالعباد فيجازيهم عليه.
قال ابن كثير: والمعنى في هذا التهديد، أنه تعالى يخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرّونه فيما بينهم. وما يتفقون عليه ليلا من مخالفة الرسول ﷺ وعصيانه. وإن