
(الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ... (٧٦)
* * *
سبيل الله تعالى هي سبيل الحق الثابت الذي لَا يكون فيه العدل، ولا يكون بغي ولا فحشاء ولا أذى، وفيه قيام المصالح ودفع المفاسد. والطاغوت هو فَعَلُوت من طغى، وهو مجاوزة الحد، والبغي الشديد، وترك الخير، وفعل الشر، والسعي في الأرض بالفساد.
وهنا مقابلة بين قتال أهل الإيمان، وقتال أهل الكفر - بالغاية منهما - فغاية المؤمنين نصرة الحق ودفع الفساد، وغاية الكافرين نشر الظلم والفساد في الأرض، ولو ترك الظالمون من غير أن يقاومهم أهل الحق، لعم الفساد، وذهب الخير، وهدم الحق، كما قال سبحانه: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنً اللَّهُ ذُو فَضلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ). (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠).

وإن السبب في أن يجاهد المؤمنون في سبيل الله، وهي سبيل الحق ورفع الإنسانية، والمحافظة على كرامة الإنسان، هو إيمانهم، فالإيمان يدفع إلى أسمى الغايات والدفاع عنها، وذلك السمو هو سبيل الله تعالى، والكافرون لعدم إيمانهم بالمثل العليا الإنسانية يقاتلون في سبيل الطغيان والسيطرة الظالمة على الأرض.
وإن هذه ظاهرة ثابتة، فالقتال في ظل الدين، والتمسك بمثله العليا، رفعة للإنسانية، ومنع الفساد، ومنع لتحكم الرذيلة في الفضيلة. والماضي ينبئ عن ذلك، فقتال النبي والصحابة من بعده كان فيه حد من طغيان الملوك، وظلم الظالمين، ونشر للواء العدل، ومنع للفتنة في الدين، وتحكم الإنسان في أخيه الإنسان. وقد وصف الله المؤمنين إذا انتصروا، فقال سبحانه وتعالى في أحوالهم: (الَذينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ)، أي أنهم إذا انتصروا رفعوا لواء العدل، وأقاموا مجتمعا فاضلا على أساس من الفضيلة ودفع الرذيلة.
وأما الذين لَا يذعنون للحق، ولا يؤمنون به، ولا يقيمون للفضيلة وزنا، فإن قتالهم في سبيل الغلب، والسلطان الغاشم، والتحكم والسيطرة، وإن الماضي والحاضر يشهدان بصدق ذلك، وإن العيان ليؤيد هذه الشهادة الصادقة. ألم تر إلى أولئك الذين يتحكمون الآن في مصاير العالم، لَا يفكرون إلا في الغلب على قطعة من الأرض يستولون عليها، أو يبسطون نفوذهم فيها، وما ذلك إلا طغيان المتحكمين المسيطرين في بلادهم! وانظر نظرة عميقة إلى أولئك الذين وضعوا أيديهم على أدوات الحرب المخربة، التي إن ألقيت لَا تبقي ولا تذر، وتأكل الأخضر واليابس، فإنهم يتغالبون على النفوذ، ولو استشيرت أمَمُهم فردا فردا، لاستنكروا ما هم مقدمون عليه أو يكادون! فالحروب التي يثيرها الكافرون في هذا الزمان لَا يدفعها إلا طغيان أفراد معدودين، يتحكمون في الشعوب ومصايرها، بطريقة أقسى مما كان يتحكم الملوك من قبل!.

(فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) إذا كان الكافرون يقاتلون في سبيل الطغيان، والظلم والسيطرة والفتنة في الدين، وإكراه الناس، حتى لَا يستمروا على إيمانهم، فإن على المؤمنين أن يقاتلوهم؛ لأنهم نصراء الشيطان، أو الذين دخلوا في ولايته. ومعنى النص السامي: قاتلوا أيها المؤمنون الذين ارتضيتم سبيل الله طريقا، ونصرة الحق منهاجا، الكافرين الذين اتخذوا الشيطان لهم وليا يوالونه، ونصيرا لهم ينصرهم في زعمهم؛ وذلك لأنكم تُعلون الحق، وتدفعون الأذى، وتمنعون الشر والفتنة في الدين، وتحاربون الفساد. ولا تخافوا من هؤلاء الذين يوالون الشيطان، ويزعمون أنه ينصرهم، فإنهم يتبعون تدبير الشيطان لهم، أي يتبعون وساوس أنفسهم، وأهواءها التي يتحكم فيها الشيطان ويسيّرها. وتدبير الشيطان مهما يكن، لَا يكون قويا ينتصر به أهل الكفر والفساد على أهل الحق. وضعف ذلك الكيد والتدبير الذي يدبره الكافرون وإبليس معهم، سببه أنهم تسيطر عليهم الأهواء، والأهواء تفسد الفكر وتفسد الأعمال، وتوجد الشحناء. وأهل الحق لو اتخذوا كل أسباب القوة، واعتزموا أمورهم ودبروا تدبيرهم، وقد جانبوا الهوى والشهوات، هم غالبون لَا محالة، وما يغلب أهل الباطل إلا لعدم اتخاذ أهل الإيمان الأسباب.
وسمى الله سبحانه تدبير الكافرين مع شيطانهم (كَيْدَ)، لأنهم لا يقصدون بالتدبير رفع حق أو خفض باطل، بل الكيد والأذى لأهل الحق.
اللهم اهد المؤمنين إلى أسباب القوة، وأخذ الأهبة، وإعداد العدة للجهاد في سبيلك، سبيل الحق والكرامة والسمّو والعلو.
* * *

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٧٧) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (٧٨)
* * *
الآيات السابقة في الحض على القتال، وبيان أن القتال دفاع عن العجزة، والنساء، والأطفال، الذين لَا يجدون حيلة للخروج من الهوان والاستكانة للظالمين، ولا يجدون سبيلا لأن يخرجوا من ديار الذل أو يدفعوا عن أنفسهم أوْضَاره وآلامه، ففي القتال دفاع عن هؤلاء، وإخراج لهم. ولكن المسلمين لم يكونوا سواء في تلقي شدائد القتال: فمنهم من يتقدم للميدان لَا يهمه أن يقع على الموت أو يقع عليه، كعلي بن أبي طالب، وغيره من صناديد المؤمنين، ومنهم من يخشاه ويخافه، وهذا الصنف في كل جماعة، ولقد قال الله تعالى فيه: