آيات من القرآن الكريم

وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا
ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ ﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ

عليه وذلك الثواب المذكور هو من الله لا من غيره. وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً بالطاعة وكيفية الثواب عليها، وفيه ترغيب للمكلف على إكمال الطاعة والاحتراز عن التقصير فيه.
التأويل:
الوجود المجازي أمانة من الله تعالى كما أنّ وجود الظل أمانة من الشمس فلا جرم إذا تجلت شمس الربوبية لظلال وجود النفس والقلب والروح يقول بلسان العزة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها فتلاشت الظلال واضمحلّت الأغيار وانمحت الآثار وبقي الواحد القهار، وهذا أحد أسرار قوله: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [الرعد: ١٥]. وَإِذا حَكَمْتُمْ بعد فناء الوجود المجازي وبقاء الوجود الحقيقي بين الروح والقلب والنفس أن تحكموا بآداب الطريقة فيراقب القلب شواهد اللقاء ويلازم الروح عقبة الفناء والسر وارد سلطان البقاء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الخطاب مع القلب والروح والسر فإنهم آمنوا على الحقيقة، وطاعة القلب لله أن يحب الله وحده، وطاعة الروح أن لا يلتفت إلى غيره، وطاعة السر أن لا يرى غيره في الوجود. أما الرسول فهو الرسول الوارد من الحق في الباطن كما
قال ﷺ لوابصة بن معبد: استفت قلبك يا وابصة ولو أفتاك المفتون.
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يعني مشايخكم ومن بيده أمر تربيتكم.
فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ يعني منازعة النفس القلب والروح والسر فردوه إلى الكتاب والسنة أو يريد منازعة القلب فيما يحكم به الكتاب والسنّة نزاعا من قصور الفهم والدراية فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ لمراقبة القلوب بشواهد الغيوب وَإِلَى الرَّسُولِ وارد الحق بصدق النية وصفاء الطوية ذلك الإيمان الإيقاني بشهود النور الرباني خير من تعلم الكتاب والسنة بالتقليد دون التحقيق. ثم يخبر عن حال أهل القال المتحاكمين إلى طاغوت الهوى والخبال من أهل البدع والضلال بقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الآية. أصابتهم مصيبة ملامة من الخلق أو سياسة من السلطان. فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ فيه أن الإيمان الحقيقي ليس بمجرد التصديق والإقرار ولكنه سيضرب على محك الاعتبار وهو تحكيم الشرع لا الطبع والنبوة لا البنوة والمولى لا الهوى ووارد الحق لا موارد الخلق فيما اختلفت آراؤهم وتحيّرت عقولهم ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي مرآة أَنْفُسِهِمْ صورة كراهة من القضاء الأزلي والأحكام الإلهية.
والصديقين الذين لهم قدم صدق عند ربهم، والشهداء أهل الجهاد الأكبر، والصالحين الذين لهم صلوح الولاية وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً في سلوك طريق الحق والله المستعان.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٧١ الى ٨١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥)
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٧٩) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠)
وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٨١)

صفحة رقم 444

القراآت:
لَيُبَطِّئَنَّ ونحوه مثل فَلَنُنَبِّئَنَّ ولَنُبَوِّئَنَّهُمْ بالياء الخالصة: يزيد والشموني وحمزة في الوقف. كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بالتاء الفوقانية: ابن كثير وحفص والمفضل وسهل ويعقوب. الباقون بياء الغيبة يَغْلِبْ فَسَوْفَ وبابه نحو إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ [الرعد: ٥] اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ [الإسراء: ٦٣] مدغما: أبوبكر وحمزة غير خلف وعلي وهشام. ولا يظلمون بالياء التحتانية: ابن كثير، وعلي وحمزة وخلف وهشام ويزيد وابن مجاهد عن ابن ذكوان. الباقون بتاء الخطاب بَيَّتَ طائِفَةٌ مدغما: أبوبكر وحمزة.
الوقوف:
جَمِيعاً هـ لَيُبَطِّئَنَّ ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب شَهِيداً هـ عَظِيماً هـ بِالْآخِرَةِ ط عَظِيماً هـ أَهْلُها ج وَلِيًّا كذلك للتفصيل بين الدعوات نَصِيراً هـ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ج للفصل بين القصتين المتضادتين. أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ ج لاحتمال الابتداء وتقدير الفاء واللام. ضَعِيفاً هـ الزَّكاةَ ط لأنّ جواب «فلما» منتظر ولكن التعجب في قوله: أَلَمْ تَرَ واقع على قوله: إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ.
خَشْيَةً ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى. الْقِتالُ ج لأنّ «لولا» أي «هلا» استفهام

صفحة رقم 445

آخر مع اتحاد المعمول. قَرِيبٍ ط قَلِيلٌ ج للفصل بين وصف الدارين. فَتِيلًا هـ مُشَيَّدَةٍ ط للعدول لفظا ومعنى. مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ط للفصل بين النقيضين. مِنْ عِنْدِكَ ج. مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ط. حَدِيثاً هـ. فَمِنَ اللَّهِ ز فصلا بين النقيضين فَمِنْ نَفْسِكَ ط. رَسُولًا هـ. شَهِيداً هـ أَطاعَ اللَّهَ ج لحق العطف مع ابتداء بشرط آخر حَفِيظاً ط لاستئناف الفعل بعدها. طاعَةٌ ز لابتداء بشرط مع أن المقصود من بيان نفاقهم لا يتم بعد. تَقُولُ ط يُبَيِّتُونَ ج لاختلاف الجملتين مع الاتصال أي إذا كتب الله ما يبيتون فأعرض ولا تهتم. عَلَى اللَّهِ ط وَكِيلًا هـ.
التفسير:
إنه سبحانه عاد بعد الترغيب في طاعة الله وطاعة رسوله إلى ذكر الجهاد لأنه أشق الطاعات ولأنه أعظم الأمور التي بها تناط تقوية الدين فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ والحذر والحذر بمعنى كالأثر والإثر والمثل والمثل. يقال: أخذ حذره إذا تيقظ واحترز عن المخوف كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه ويعصم بها روحه. والمعنى احذروا واحترزوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم. وقيل: المراد بالحذر السلاح لأنه مما يتقي به ويحذر. فإن قيل: أي فائدة في هذا الأمر والحذر لا يغني عن القدر والمقدور كائن والهم فضل؟ قلت: هذا من عالم الأسباب والوسائط المرتبطة ولا ريب أن الكل يقع على نحو ما قدّر، فمن امتثل وترتب عليه الأثر كان بقدر، ومن أهمل حتى فاتته السلامة كان أيضا بقدر، وهكذا شأن جميع التكاليف إذا اعتبر. فَانْفِرُوا إلى قتال عدوّكم انهضوا لذلك
قال صلى الله عليه وسلم: «وإذا استنفرتم فانفروا» «١».
ثُباتٍ جماعات متفرقة سرية بعد سرية واحدها ثبة محذوفة اللام وأصلها ثبى فعوضت الهاء عن الياء المحذوفة. والتركيب يدل على الاجتماع ومنه الثبة لوسط الحوض الذي يجتمع عنده الماء وصبيت الشيء جمعته. أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً مجتمعين كركبة واحدة وهذا قريب مما قاله الشاعر: طاروا إليه زرافات ووحدانا. والغرض النهي عن التخاذل وإلقاء النفس إلى التهلكة. وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ اللام الأولى هي الداخلة في خبر «إنّ» والثانية هي الداخلة في جواب القسم، وتقدير الكلام: لمن حلف بالله ليبطئن وهو إما متعد بسبب التشديد فيكون المفعول محذوفا أي ليبطئن غيره وليثبطنه عن الغزو كما هو ديدن المنافق عبد الله بن أبي ثبّط الناس يوم أحد، وإما لازم فقد جاء بطأ بالتشديد بمعنى أبطأكعتم بمعنى أعتم أي ليتثاقلن وليختلفن عن الجهاد، وهذا

(١) رواه البخاري في كتاب الصيد باب ١٠. مسلم في كتاب الحج حديث ٤٤٥. أبو داود في كتاب الجهاد باب ٢. الترمذي في كتاب السير باب ٣٢. النسائي في كتاب البيعة باب ١٥. ابن ماجه في كتاب الجهاد باب ٩. الدارمي في كتاب السير باب ٦٩. أحمد في مسنده (١/ ٢٢٦، ٣١٦).

صفحة رقم 446

المعنى أوفق بقوله: فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ من قتل أو هزيمة قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ فتح أو غنيمة ليقولن (قوله) كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ اعتراض بين الفعل الذي هو لَيَقُولَنَّ وبين مفعوله وهو يا لَيْتَنِي والمنادى محذوف أي يا قوم ليتني. وجوّز أبو علي إدخال حرف النداء في الفعل والحرف من غير إضمار المنادي. كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ منصوب بإضمار أن أي ليت لي كونا معهم فافوز. والخطاب في قوله: وَإِنَّ مِنْكُمْ للمذكورين في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا والأظهر أن هذا المبطئ سواء جعل لازما أو متعديا كان منافقا فلعله جعله من المؤمنين من حيث الجنس أو النسب أو الاختلاط أو لأنه كان حكمه حكم المؤمنين لظاهر الإيمان. والمراد يا أيها المؤمنون في زعمكم ودعواكم كقوله: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ [الحجر: ٦] ومعنى الاعتراض في البين أن المنافقين كانوا يوادون المؤمنين ويصادقونهم في الظاهر وإن كانوا يبغون لهم الغوائل في الباطن. وقال جمع من المفسرين: إنّ هؤلاء المبطئين كانوا ضعفة المسلمين. وعلى هذا فالتبطئة بمعنى الإبطاء البتة لأنّ المؤمن لا يثبط غيره ولكنه قد يتثاقل وهم المراد بقوله:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ [التوبة: ٣٨] ثم لما ذم المبطئين رغب في الجهاد بقوله: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ ومعناه يشترون أو يبيعون. وعلى الأول فهم المنافقون المبطئون وعظوا بأن يغيروا ما بهم من النفاق ويجاهدوا حق الجهاد ولا يختاروا الدنيا على المعاد. وعلى الثاني فهم المؤمنون الذين تركوا الدنيا لأجل الآخرة. والمراد إن أبطأ أهل النفاق وضعفة الإيمان عن القتال فليقاتل التائبون المخلصون. وقيل: يحتمل أن يراد المؤمنون على التقدير الأول أيضا لأن الإنسان إذا أراد أن يبذل هذه الحياة الدنيا في سبيل الله بخلت نفسه فاشتراها من نفسه بسعادة الآخرة ليقدر على بذلها في سبيل الله، أو لعله أريد اشتغل بالقتال واترك ترجيح الفاني على الباقي، أو المراد أنهم كانوا يرجحون الحياة على الموت لاستيفاء السعادات البدنية فقيل لهم: قاتلوا فإنكم تستولون على الأعداء وتفوزون بالأموال. وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ وعد الأجر العظيم على تقديري المغلوبية والغالبية ليعلم أنه لا عمل أشرف من الجهاد، وليكون المجاهد على بصيرة من حاله على أي تقدير كان فيقدم ولا يحجم، ثم زاد في تحريضهم فقال: وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ ومعناه أنه لا عذر لكم في ترك المقاتلة وقد بلغ الحال إلى ما بلغ. وقوله: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ إما مجرور أي في سبيل الله وفي خلاص المستضعفين، وإما منصوب على الاختصاص أي وأخص من سبيل الله الذي هو عام في كل خير خلاص المستضعفين وهم الذين أسلموا بمكة وصدهم المشركون والإعسار والضعف

صفحة رقم 447

عن الهجرة فبقوا بين أظهرهم أذلاء يلقون منهم أذى شديدا، فكانوا يدعون الله بالخلاص ويستنصرونه فيسر الله لبعضهم الخروج إلى المدينة وبقي بعضهم إلى الفتح. والولدان جمع ولد كخربان في خرب. وقيل: الرجال والنساء الأحرار والحرائر، والولدان العبيد والإماء لأنّ العبد والأمة يقال لهما الوليد والوليدة وجمعهما الولدان والولائد إلّا أنه خص الولدان بالذكر تغليبا كالآباء والإخوة مع إرادة الأمهات والأخوات أيضا. وعن ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين من الولدان والنساء. والظالم صفة للقرية إلّا أنه مسند إلى أهلها فتبع القرية في الإعراب، وهو مذكر لإسناده إلى الأهل. والأهل يذكر ويؤنث، ولو أنّث لا لتأنيث الموصوف بل لجواز تأنيث الأهل جاز. وإنما اشترك الولدان في الدعاء وإن كانوا غير مكلفين لأن المشركين كانوا يؤذونهم إرغاما لآبائهم، أو لأن المستضعفين كانوا يشركون صبيانهم في دعائهم استنزالا لرحمة الله بدعاء صغائرهم الذين لم يذنبوا كما فعل قوم يونس، ووردت السنة بإخراجهم في الاستسقاء. وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا أي كن أنت لنا وليا وناصرا وولّ علينا رجلا يوالينا ويقوم بمصالحنا. فاستجاب الله دعاءهم لأنّ النبي ﷺ لما فتح مكة جعل عتاب بن أسيد أميرا لهم فكان الولي هو الرسول، وكان النصير عتاب بن أسيد كما أرادوا. قال ابن عباس: كان ينصر الضعيف من القوي حتى كانوا أعزّ بها من الظلمة. ثم شجع المؤمنين تشجيعا بأن أخبرهم أنهم يقاتلون في سبيل الله فهو وليّهم وناصرهم وأعداؤهم يقاتلون في سبيل غير الله وهو الطاغوت والشيطان فلا ولي لهم إلّا الشيطان وإن كيده أوهن شيء وأضعفه. والكيد السعي في فساد الحال على جهة الاحتيال.
وفائدة إدخال «كان» أن يعلم أنه منذ كان كان موصوفا بالضعف والذلة. ألا ترى أن أهل الخير والدين يبقى ذكرهم الجميل على وجه الدهر وإن كانوا مدة حياتهم في غاية الخمول والفقر، وأما الملوك والجبابرة فإذا ماتوا انقرض أثرهم ولا يبقى في الدنيا رسمهم ولا ظلمهم؟
قوله سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ فيه قولان: الأول
أنها نزلت في المؤمنين نفر من أصحاب رسول الله ﷺ منهم عبد الرحمن بن عوف والمقداد بن الأسود وقدامة بن مظعون وسعد بن أبي وقاص كانوا يلقون من المشركين أذى كثيرا ويقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ائذن لنا في قتال هؤلاء. فيقول لهم: كفوا أيديكم عنهم فإني لم أؤمر بقتالهم. فلما هاجر إلى المدينة وأمرهم الله بقتال المشركين كرهه بعضهم وشق عليهم.
الثاني قال ابن عباس في رواية أبي صالح: لما استشهد الله من المسلمين من استشهد يوم أحد قال المنافقون الذين تخلّفوا عن الجهاد: لو كان إخواننا الذين قتلوا عندنا ما ماتوا وما

صفحة رقم 448

قتلوا فنزلت. وقد يحتج للقول الأول بأن رغبتهم في القتال أوّلا دليل الإيمان، ويمكن أن يجاب بأن المنافقين أيضا كانوا يظهرون الرغبة في الجهاد إلى أن أمروا بالقتال فأحجموا.
واحتج أصحاب القول الثاني بأنهم كانوا يخشون الناس كخشية الله أو أشد، وكانوا يعترضون على الله تعالى بقولهم: لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ وكانوا يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة فلهذا قيل لهم قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وكل هذه الأمور من نعوت المنافقين وأجيب بأن حب الحياة والنفرة عن القتل من لوازم الطباع وهو المعنى بالخشية والاعتراض محمول على تمني تخفيف التكليف لا على الإنكار وقوله: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ إنما ذكر ليهون على قلبهم أمر هذه الحياة. والأقوى حمل الآية على المنافقين لأن ما بعدها وهو قوله: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ في شأنهم بلا اختلاف. وفي الآية دلالة على أن إيجاب الصلاة والزكاة كان مقدما على الجهاد وهو أيضا ترتيب مطابق لما في المعقول، لأنّ التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله مقدمان على الترهيب والقتل في سبيل الله. وإذا في إِذا فَرِيقٌ للمفاجأة وهو مجرد عن الظرفية والعامل في لما معنى المفاجأة أي فاجأ وقت خشية فريق زمان كتبة القتال عليهم. وقوله: كَخَشْيَةِ اللَّهِ من إضافة المصدر إلى المفعول. ومحل الكاف النصب على الحال لما عطف عليه من قوله: أَوْ أَشَدَّ ثم نصب خَشْيَةً على التمييز فالتقدير: يخشون الناس مشبهين لأهل خشية الله أو أشد خشية من خشية أهل الله. نعم لو قيل: أشد خشية بالإضافة انتصب خشية الله على المصدر ولا يمكن أن يقال أشد خشية بالنصب على إرادة المصدر، اللهم إلّا أن تجعل الخشية خاشية أو ذات خشية مثل جد جده فيكون المعنى: خشية مثل خشية الله أو خشية أشد خشية من خشية الله.
وعلى هذا يجوز أن يكون محل أَشَدَّ مجرورا عطفا على خشية الله أي كخشية الله أو كخشية أشد خشية منها. وكلمة «أو» ليست للشك هاهنا فإن ذلك على علام الغيوب محال ولكنها بمعنى الواو، أو المراد أن كل خوفين فإن أحدهما بالنسبة إلى الآخر إما أن يكون أنقص أو مساويا أو أزيد، فبيّن في الآية أن خوفهم من الناس ليس بأنقص من خوفهم من الله فيبقى إما أن يكون مساويا أو أزيد فهذا لا يوجب كونه تعالى شاكا فيه ولكنه يوجب إبقاء الإبهام في هذين القسمين على المخاطبين. أو هذا نظر قوله وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: ١١٧] يعني أن من يراهم يقول هذا الكلام.
وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ [النساء: ٧٧] إن كانت الآية في المؤمنين فهم إنما قالوا ذلك لا اعتراضا على الله ولكن جزعا من الموت وحبا للحياة واستزادة في مدة الكف واستمهالا إلى وقت آخر كقوله: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى

صفحة رقم 449

أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ
[المنافقون: ١٠] وإن كان من كلام المنافقين فلا شك أنهم كانوا منكرين لكتبة القتال عليهم، فهم قالوا ذلك بناء على زعم الرسول ودعواه. ومعنى لَوْلا أَخَّرْتَنا هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا، ثم أزال الشبهة وأزاح العلة بقوله: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لا لكل الناس بل لِمَنِ اتَّقى فإن للكافر والفاسق هنالك نيرانا وأهوالا ومن هنا
قال صلى الله عليه وسلم: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» «١».
وأما ترجيح الآخرة فلأن نعم الدنيا قليلة ونعم الآخرة كثيرة، ونعم الدنيا منقطعة ونعم الآخرة مؤبّدة، ونعم الدنيا مشوبة بالأقذار ونعم الآخرة صافية عن الأكدار، ونعم الدنيا مشكوكة التمتع بها ونعم الآخرة يقينية الانتفاع منها. ثم بكت الفريق الخائنين بأنهم يدركهم الموت أينما كانوا ولو كانوا في حصون مرتفعة. والبروج في كلام العرب القصور والحصون وأصلها من الظهور ومنه تبرجت المرأة إذا أظهرت محاسنها. والغرض أنه لا خلاص لهم من الموت والجهاد موت مستعقب للسعادة الأبدية، وإذا كان لا بد من الموت فوقوعه على هذا الوجه أولى. قال المفسرون: كانت المدينة مملوءة من النعم وقت مقدم الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما ظهر عناد اليهود ونفاق المنافقين أمسك الله تعالى عنهم بعض الإمساك كما جرت عادته في جميع الأمم قال:
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ [الأعراف: ٩٤] فعند هذا قالت اليهود والمنافقون: ما رأينا أعظم شؤما من هذا الرجل نقصت ثمارنا وغلت أسعارنا منذ قدم. فقوله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يعني الخصب والرخص وتتابع الأمطار قالوا هذا من عند الله، وإن تصبهم سيئة يعني الجدب وانقطاع الأمطار قالوا هذا من شؤم محمد وهذا كقوله: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الأعراف: ١٣١]. وقال قوم: الحسنة النصر على الأعداء والغنيمة، والسيئة القتل والهزيمة. وقال أهل التحقيق: خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ وكل ما ينتفع به فهو حسنة. فإن كان منتفعا به في الدنيا فهو الخصب والغنيمة وأمثالهما، وإن كان منتفعا به في الآخرة فهو الطاعة. فالحسنة تعم الحسنات، والسيئة تعم السيئات فلا جرم أجابهم الله تعالى بقوله: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وكيف لا وجميع الممكنات من الأفعال والذوات والصفات لا بد من استنادها إلى الواجب بالذات؟ ولهذا تعجب من حالهم وقال: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً فنفى عنهم مقاربة الفقه والفهم فضلا عن الفقه والفهم. قالت المعتزلة: بل هذه الآية حجة لنا لأنه لو كان حصول الفهم والمعرفة بتخليق

(١) رواه مسلم في كتاب الزهد حديث ١. الترمذي في كتاب الزهد باب ١٦. ابن ماجه في كتاب الزهد باب ٣. أحمد في مسنده (٢/ ١٩٧).

صفحة رقم 450

الله تعالى لم يبق لهذا التعجب معنى البتة لأنه تعالى ما خلقها. والجواب: أنه تعالى لا يسأل عما يفعل. وأيضا المعارضة بالعلم والداعي. وقالت المعتزلة أيضا: الحديث «فعيل» بمعنى «مفعول» والمراد به الآيات المذكورة في هذه المواضع فيلزم منه كون القرآن محدثا.
والجواب بعد تسليم ما ذكروا أنه لا نزاع في حدوث العبارات إنما النزاع في الكلام النفسي.
قوله عز من قائل: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ قال أبو علي الجبائي: السيئة تارة تقع على البلية والمحنة وتارة تقع على الذنب والمعصية. ثم إنه تعالى أضاف السيئة إلى نفسه في الآية الأولى بقوله: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وأضافها في هذه الآية إلى العبد بقوله:
وَما أَصابَكَ أي يا إنسان خطابا عاما مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ فلابد من التوفيق وإزالة التناقض، وما ذاك إلّا بأن يجعل هناك بمعنى البلية وهاهنا بمعنى المعصية. قال: وإنما فصل بين الحسنة والسيئة في هذه الآية فأضاف الحسنة التي هي الطاعة إلى نفسه دون السيئة مع أن كليهما من فعل العبد عندنا، لأنّ الحسنة إنما تصل إلى العبد بتسهيل الله وألطافه فصحت إضافتها إليه، وأما السيئة فلا يصح إضافتها إلى الله تعالى لا بأنه فعلها ولا بأنه أرادها ولا بأنه أمر بها ولا بأنه رغب فيها. وقال في الكشاف: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ أي من نعمة وإحسان فَمِنَ اللَّهِ تفضلا منه وإحسانا وامتنانا وامتحانا وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ أي من بلية ومصيبة فَمِنْ عِنْدِكَ لأنك السبب فيها بما اكتسبت يداك كما
روي عن عائشة «ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها وحتى انقطاع شسع نعله إلّا بذنب وما يعفو الله أكثر منه» «١».
وقالت الأشاعرة: كل من الحسنة والسيئة بأي معنى فرض فإنها من الله تعالى لوجوب انتهاء جميع الحوادث إليه. لكنه قد يظن بعض الظاهريين أن إضافة السيّئة إلى الله تعالى خروج عن قانون الأدب فبين في الآية أن كل ما يصيب الإنسان من سيّئة حتى الكفر الذي هو أقبح القبائح فإن ذلك بتخليق الله تعالى. والوجه فيه أن يقدر الكلام استفهاما على سبيل الإنكار ليفيد أن شيئا من السيّئات ليست مضافة إلى الإنسان بل كلها بقضائه ومشيئته، ويؤيده ما
يروى أنه قرىء فَمِنْ نَفْسِكَ بصريح الاستفهام.
ومما يدل دلالة ظاهرة على أن المراد من هذه الآيات إسناد جميع الأمور إلى الله تعالى قوله بعد ذلك: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا أي ليس لك إلّا الرسالة والتبليغ وقد فعلت ذلك وما قصرت وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على جدّك وعدم تقصيرك في أداء الرسالة وتبليغ الوحي، فأما

(١) رواه البخاري في كتاب المرضى باب ١. مسلم في كتاب البر حديث ٥٢. الترمذي في كتاب الجنائز باب ١. أحمد في مسنده (٢/ ٣٠٣)، (٣/ ٤، ١٨).

صفحة رقم 451

تحصيل الهداية فليس إليك بل إلى الله. قال علماء المعاني: قوله رَسُولًا حال من الكاف أي حال كونك ذا رسالة ولِلنَّاسِ صفة رَسُولًا متعلق ب أَرْسَلْناكَ وإلّا لقيل إلى الناس. فأصل النظم وأرسلناك رسولا للناس فلابد للتقديم من خاصية هو التخصيص أعني ثبوت الحكم للمقدم ونفيه عما يقابله حقيقة أو عرفا لا عما عداه مطلقا. وبعد تقديم هذه المقدمة فاللام في قوله: لِلنَّاسِ إما أن يكون للعهد الخارجي أو للجنس أو للاستغراق.
والأول باطل لأن المعهود الخارجي حصة معينة من الأفراد فيلزم اختصاص إرساله ببعض الإنس لوقوع بعض الناس في مقابلة كلهم عرفا فيكون مناقضا لما في الآيات الأخر كقوله:
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: ١٥٨] ولقوله: «بعثت إلى الخلق كافة» والثاني وهو حمل اللام على تعريف الجنس أيضا باطل لأنه يلزم اختصاص إرساله بالإنس دون الجن، لأنّ ثبوت الحكم لحقيقة الإنس بوساطة التقديم ينفي الحكم عما يقابلها عرفا وهو حقيقة الجن، أو ينفي الحكم عما عداها من الحقائق فيشمل حقيقة الجن ضرورة.
وعلى التقديرين يلزم الخلف لأنه ﷺ مبعوث إلى الثقلين لقوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ [الأحقاف: ٢٩] الآية. فتعين حمل اللام على الاستغراق ليثبت الحكم لكل فرد من أفراد الإنسان وتحصل موجبة كلية وينفي نقيض هذا الحكم وهو ما كان يزعمه الضالة من سالبة جزئية هي أنه ليس مبعوثا إلى بعض الناس كالعجم وأنه رسول العرب خاصة، وعلى هذا يكون الجن مسكوتا عنهم بالنسبة إلى هذه الآية. فلدلالة دليل آخر على كونه مبعوثا إلى الثقلين لا تكون منافية لدلالة هذه الآية، لأن التقديم قد استوفى حظه من الخاصية من غير تعرض للجن. ثم لما بين أنه لكل فرد من أفراد الناس رسول أوجب طاعته بقوله: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ لأنّ طاعة الرسول لكونه رسولا فيما هو رسول لا تكون إلّا طاعة لله.
قال مقاتل في هذه الآية: إنّ النبي ﷺ كان يقول: «من أحبني فقد أحب الله ومن أطاعني فقد أطاع الله» فقال المنافقون: لقد قارف الرجل الشرك، هو ينهي أن يعبد غير الله ويريد أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى فأنزل الله هذه الآية.
وهي من أقوى الدلائل على أنه معصوم في جميع الأوامر والنواهي وفي تبليغه وفي أفعاله وإلّا لم تكن طاعته فيما أخطأ طاعة لله. وَمَنْ تَوَلَّى قيل: هو التولي بالقلب أي حكمك يا محمد على الظواهر، وأما البواطن فلا تتعرّض لها. وقيل: هو التولي بالظاهر ومعناه فلا ينبغي أن تغتم بسبب ذلك التولّي. فَما أَرْسَلْناكَ لتحفظ الناس عن المعاصي فإن من أضلّه الله لم يقدر أحد على إرشاده. والمعنى فما أرسلناك لتشتغل بزجرهم عند ذلك التولي كقوله: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة: ٢٥٦] ثم نسخ بآية الجهاد. ثم حكى سيرة المنافقين بقوله:

صفحة رقم 452

وَيَقُولُونَ أي حين ما أمرتهم بشيء طاعَةٌ أي أمرنا وشأننا طاعة، والنصب في مثل هذا جائز بمعنى أطعناك طاعة، ولكن الرفع يدل على ثبات الطاعة واستقرارها فلهذا لم يقرأ بغيره فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ أي دبرت خلاف ما أمرت به وما ضمنت من الطاعة. قال الزجاج: كل أمر تفكروا فيه كثيرا وتأملوا في مصالحه ومفاسده كثيرا قيل هذا أمر مبيت. وفي اشتقاقه وجهان: الأول أن أصلح الأوقات للفكر أن يجلس في بيته في الليل فهناك يكون الخاطر أصفى والشواغل أقل فلا جرم سمي الفكر المستقصى تبييتا.. الثاني قال الأخفش: إذا أراد العرب قرض الشعر بالقوافي بالغوا في التفكر فيه فسمي الفكر البليغ تبييتا، فاشتقاقه من أبيات الشعر. ثم إنه تعالى خص طائفة من المنافقين بالتبييت، وذكروا في التخصيص وجهين: أحدهما أنه ذكر من علم أنه يبقى على كفره ونفاقه، فأما من علم أنه يرجع عن ذلك فلم يذكرهم. وثانيهما أن هذه الطائفة كانوا قد سهروا ليلهم في التبييت وغيرهم سمعوا وسكتوا ولم يبيتوا فلا جرم لم يذكروا. قلت:
ووجه ثالث وهو أن هذا النوع من الكلام أجلب للقلوب وأدخل في عدم الإنكار. وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ يثبته في صحائف أعمالهم ويجازيهم عليه أو يكتبه في جملة ما يوحى إليك فيطلعك على أسرارهم فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في شأنهم فإنّ الله ينتقم لك منهم إذا قوي أمر الإسلام وعزت أنصاره. قال بعضهم: الأمر بالإعراض منسوخ بآية الجهاد. والأكثرون على أن الصفح مطلق فلا حاجة إلى التزام النسخ والله تعالى أعلم.
التأويل:
خُذُوا حِذْرَكُمْ وهو ذكر الله فَانْفِرُوا ثُباتٍ جاهدوا بالرياضات من عالم التفرقة وهو عالم الحيوانية أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً من عالم الجمعية وهو عالم الروحانية إلى عالم الوحدة وَإِنَّ مِنْكُمْ أيها الصدّيقون لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ من المدعين المتكاسلين في السير، القانعين بالاسم، النازلين على الرسم مصيبة شدة ومجاهدة فضل من الله مواهب غيبية وعلوم لدنية ومرتبة عند الخواص وقبول عند العوام يشترون الحياة الدنيا يشترون حظوظ النفس بحقوق الرب فيقتل نفسه بسيف الصدق أو يغلب عليها بالظفر فتسلم على مدة. وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ أي الأرواح الضعيفة استضعفتها النفوس باستيلائها عليها وَالنِّساءِ أي القلوب فإنّ القلب للروح كالزوجة للزوج لتصرف الروح في القلب كتصرف الزوج في الزوجة. وَالْوِلْدانِ الصفات الحميدة المتولّدة بين الروح والقلب مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ قرية البدن الظَّالِمِ أَهْلُها وهي النفس الأمارة بالسوء نَصِيراً شيخا مربيا أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ من أهل السلامة كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ من الاعتصام بحبل أهل الملامة وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فإنكم لستم أهل الغرام فاقنعوا بدار السلام والسلام لأرباب

صفحة رقم 453
غرائب القرآن ورغائب الفرقان
عرض الكتاب
المؤلف
نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
تحقيق
زكريا عميرات
الناشر
دار الكتب العلميه - بيروت
سنة النشر
1416
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية