
صرحت الآية بتكذيبهم (١).
وقوله تعالى: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾. قال ابن عباس: يريد بخلقه (٢).
قال أهل المعاني: تأويل هذا يعود إلى أنه لا يضيعُ عنده عملُ عامل؛ لأنه عالم لا يخفى عليه شيء (٣).
٧١ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ الآية. هذا حث من الله تعالى عباده المؤمنين على الجهاد.
والحذر في اللغة يعني الحذر، وهو كالمثل والمثَل والعدْل والعدَل (٤)، (والعرب تقول: فخذ حذر) (٥).
قال أهل المعاني في هذا قولين: أحدهما: أن المراد بالحذر ههنا السلاح، والمعنى: خذوا سلاحكم (٦)، فيسمى السلاح حذرًا؛ لأنه يتقي به ويحذر.
والثاني: أن يكون ﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ بمعنى احذروا عدوكم (٧)، إلا أن هذا الأمر بالحذر مضمن بأخذ السلاح؛ لأن أخذ السلاح هو الحذر من
(٢) لم أقف عليه. وانظر: "الطبري" ٥/ ١٦٤.
(٣) انظر: الطبري ٥/ ١٦٤.
(٤) انظر: "الصحاح" ٢/ ٦٢٦ (حذر)، "الكشف والبيان" ٤/ ٨٥ ب، "التفسير الكبير" ١٠/ ١٧٦، "اللسان" ٢/ ٨٠٩ - ٨١٠ (حذر).
(٥) هكذا في المخطوط، وفي "الوسيط" للمؤلف ٢/ ٦١٥: "وتقول العرب: خُذ حذرك، أي أحذر".
(٦) "بحر العلوم" ١/ ٣٦٧، "الكشف والبيان" ٤/ ٨٥ ب، وانظر: "معالم التنزيل" ٢/ ٢٤٨، "زاد المسير" ٢/ ١٢٩، "التفسير الكبير" ١٠/ ١٧٦، ابن كثير ١/ ٥٧٥.
(٧) انظر: "الكشف والبيان" ٤/ ٨٥ ب، "معالم التنزيل" ٢/ ٢٤٨، "زاد المسير" ٢/ ١٢٩ "التفسير الكبير" ١٠/ ١٧٧.

العدو. فالتأويل يعود إلى الأول (١).
فعلى القول الأول الأمر مصرح بأخذ السلاح، وعلى القول الثاني أخذ السلاح مدلول عليه بفحوى الكلام (٢).
وأما التفسير فقال ابن عباس: ﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ يريد عند لقاء العدو (٣). وهذا يقوي القول الأول. وقد صرح مقاتل (٤) بالقول الأول فقال: خذوا حذركم من السلاح (٥).
وقال الكلبي: خذوا حذركم من عدوكم (٦).
وهذا التفسير على القول الثاني، وكأنه اختيار أبي إسحاق؛ لأنه قال في هذه الآية: أمر الله أن لا يلقي المؤمنون بأيديهم إلى التهلكة، وأن يحذروا عدوهم، وأن يجاهدوا حق الجهاد (٧).
وهذه الآية لا تدل على أن الحذر يرد شيئًا من القدر، ولكنا تعبِّدنا في الشريعة بالحذر من (.. (٨)..) والتوقِّي من النشر، والقدر جارٍ على ما قضي. وكان رسول الله - ﷺ - إذا مر عدُّوا له أسرع المشي، وقد قال الله تعالى له: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة:
(٢) انظر: "التفسير الكبير" ١٠/ ١٧٧.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ٨٩
(٤) هو مقاتل بن حيان. انظر: "الدر المنثور" ٢/ ٣٢٦.
(٥) أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم بلفظ. "عدتكم من السلاح". انظر: "الدر المنثور" ٢/ ٥٩١.
(٦) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ٨٩.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٧٤.
(٨) كلمة غير واضحة، ويمكن أن تكون: (الخطر)، أو (العدد).

٥١] (١).
وقوله تعالى: ﴿فَانْفِرُوا﴾. قال الفراء: يقال: نفر القوم ينفرون نفرًا ونفيرًا (٢) إذا هم نهضوا لقتال عدو وخرجوا لحرب (٣).
واستنفر الإمام الناس لجهاد العدو فنفروا ينفرون، إذا حثهم على النفير ودعاهم إليه. ومنه قول النبي - ﷺ -: وإذا استنفرتم فانفروا (٤). والنفير اسم للقوم الذين ينفرون (٥)، ومنه فلان (لا في العير ولا في النفير) (٦).
وقال أصحاب العربية: أصل هذا الحرف من النُّفور والنِّفار، وهو الفزع، نفر ينظر نفورًا إذا فزع إليه (٧). والمعنى انفروا إلى قتال عدوكم.
وقوله تعالى: ﴿ثُبَاتٍ﴾. قال جميع أهل اللغة: الثُّبات جماعات متفرقة واحدها ثبة (٨)، وأنشدوا لزهير:
(٢) من "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٦٢٨ (نفر).
(٣) انظر: "الوسيط" ٢/ ٦١٦.
(٤) من "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٦٢٨ (نفر). وحديث: "إذا استنفرتم" أخرجه البخاري من حديث ابن عباس (١٨٣٤) كتاب: جزاء الصيد، باب لا يحل القتال بمكة، ومسلم (١٣٥٣) كتاب: الحج، باب: تحريم مكة.
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٦٢٨، "أساس البلاغة" ٢/ ٤٦٣ - ٤٦٤ (نفر)، القرطبي ٥/ ٢٧٤.
(٦) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٦٢٨ (نفر)، "جمهرة الأمثال" للعسكري ٢/ ٣٩٩، "مجمع الأمثال" للميداني ٣/ ١٦٨.
(٧) انظر: القرطبي ٥/ ٢٧٤.
(٨) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٣٢، "غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٢٧، الطبري ٨/ ٥٣٦، "معاني الزجاج" ٢/ ٧٥، "تهذيب اللغة" (٤٦٥) (ثاب)، "اللسان" ١/ ٥١٩، (ثوب)، "عمدة الحفاظ" ص ٨٥.

وقد أغدو على ثبة كرامٍ | نشاوى واجدين لما نشاء (١) |
يُثَبِّي ثناءً من كريمٍ وقولُه | ألا انعم على حسن التحيَّة واشربِ (٣) |
كم لِيَ من ذي تُدْرأٍ مذبِّ | أشوس أبَّاءٍ على المُثَبِّي (٤) |
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٧٥، "معاني النحاس" ٢/ ١٣١، "تهذيب اللغة" ١/ ٤٦٥ (ثاب)، "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٦٠٢، وانظر: "مقاييس اللغة" ١/ ٤٠١ (ثبي)، "التفسير الكبير" ١٠/ ١٧٧.
(٣) "ديوانه" ص ٨، "تهذيب اللغة" ١/ ٤٦٥ (ثاب)، "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٦٠٢ "مقاييس اللغة" ١/ ٤٠١ (ثبي)، وانظر: "معجم شواهد العربية" ص ٥٥.
(٤) البيت غير منسوب في "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٦٠٢، "اللسان" ١/ ٥١٩ (ثوب) ومعنى "ذي تدرأ": ذي قوة وعدة على دفع أعدائه في نفسه، "مذب": من الذب وهو الدفع والمنع، "أشوس": جريء على القتال الشديد.

والذي ينبغي أن يُقضى به في ثبة أن تكون من الواو، وذلك أن أكثر ما حذفت لامه إنما هو من الواو نحو: أبٍ وأخٍ وغدٍ وحمٍ (١).
قال الزجاج: وتصغيرها ثبية، وتصغير ثبة الحوَض: ثوبية؛ لأن المحذوف من هذه عين الفعل، لأنه من ثاب، (وثبة الحوض حيث) (٢) يثوب الماء إليه، أي يرجع (٣).
ويجمع الثبة التي هي الجماعة ثبين (٤)، قال عمرو:
وأما يوم خشيتنا عليهم | فتُصبح خيلنا عصمًا (٥) ثبينا (٦) |
وأما التفسير فقال المفسرون في الثبات نحو قول أهل اللغة، فقال مقاتل: عصبا متفرقين (٧).
وقال ابن عباس: سرايا متفرقين (٨).
(٢) في "معاني الزجاج" ٢/ ٧٥: "وثبة الحوض وسطه" وهذا أولى.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٧٥.
(٤) "مجاز القرآن" ١/ ١٣٢، والطبري ٥/ ١٦٤، "معاني الزجاج" ٢/ ٧٥، وانظر: "أحكام القرآن" لابن العربي ١/ ٤٥٨، وابن كثير ١/ ٥٧٥.
(٥) في القرطبي ٥/ ٢٧٤، "الدر المنثور" ٢/ ٣٢٧ "عصبا" ولعله أولى.
(٦) أخرج الطستي عن ابن عباس عن مسائل نافع بن الأزرق المشهورة، وفيها هذا البيت. انظر: "الدر المنثور" ٢/ ٣٢٧، وأورده أبو عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ١٣٢، والقرطبي ٥/ ٢٧٤، وفيها نسبته لعمرو بن كلثوم.
(٧) انظر: "الوسيط" ٢/ ٦١٦، ولعله مقاتل بن حيان. انظر ابن كثير ١/ ٥٧٥.
(٨) "تفسيره" ص ١٥١، وأخرجه الطبري ٥/ ١٦٥، وابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" ٢/ ٣٢٦.

وقال قتادة: الثبات الفرق (١).
وأما معنى الآية فقال العلماء: هذه الآية تدل على أن الجهاد من فروض الكفاية؛ لأن الله تعالى خيرهم بين أن يُقاتلوا جميعًا، وبين أن يقاتل بعضهم دون بعض بقوله: ﴿فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا﴾ فدل أنه ليس من فروض الأعيان (٢). وهذا مذهب جماعة من المفسرين في الآية.
وقال قوم: الآية لا تدل على ذلك؛ لأن قوله: ﴿فَانْفِرُوا﴾ ﴿أَوِ انْفِرُوا﴾ محمول على حالين مختلفين، فقوله: ﴿انْفِرُوا ثُبَاتٍ﴾ إذا لم ينفر معهم رسول الله - ﷺ -، (أو انفروا جميعًا) مع الرسول. نظيره قوله: ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ١٢٠] إذا نفر رسول الله: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾ [التوبة: ١٢٢] إذا لم ينفر رسول الله. وهذا قول عبد الرحمن بن زيد والكلبي (٣).
وقد ذكرنا في سورة البقرة ابتداء وجوب الجهاد، ومذاهب العلماء في وجوبه اليوم عند قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ الآية [البقرة: ٢١٦].
ومنهم من قال: التخيير في قوله: ﴿فَانْفِرُوا﴾ (أو انفروا) يعود إلى صفة الخروج للقتال، يقول: انفروا جماعات متفرقة، أو انفروا جميعًا بعضكم إلى بعض، أي على أي صفة كانت من الاجتماع في النفر والوقوف ليتلاحق الآخر والأول والمبادرة وترك التفريج للتلاحق. ولهذا المعنى أراد الشاعر لما قاله:
(٢) انظر: "الوسيط" ٢/ ٦١٧، والقرطبي ٥/ ٢٧٥.
(٣) انظر: القرطبي ٥/ ٢٧٥، "تنوير المقياس" بهامش المصحف ص ٨٩.