الْكِتْمَانُ عَائِدٌ إِلَى مَا كَتَمُوا مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الثَّانِي: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا رَأَوْا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَلَا يَغْفِرُ/ شِرْكًا، قَالُوا: تَعَالَوْا فَلْنَجْحَدْ فَيَقُولُونَ: واللَّه رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، رَجَاءَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّه لَهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتَتَكَلَّمُ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَهُنَالِكَ يَوَدُّونَ أَنَّهُمْ كَانُوا تُرَابًا وَلَمْ يَكْتُمُوا اللَّه حَدِيثًا.
الطَّرِيقُ الثَّانِي فِي التَّأْوِيلِ: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُسْتَأْنَفٌ، فَإِنَّ مَا عَمِلُوهُ ظَاهِرٌ عِنْدَ اللَّه، فَكَيْفَ يَقْدِرُونَ عَلَى كِتْمَانِهِ؟
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:
٢٣].
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَوَاطِنَ الْقِيَامَةِ كَثِيرَةٌ، فَمَوْطِنٌ لَا يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً [طه: ١٠٨] وَمَوْطِنٌ يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ كَقَوْلِهِ: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [النَّحْلِ: ٢٨] وَقَوْلِهِمْ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فَيَكْذِبُونَ فِي مَوَاطِنَ، وَفِي مَوَاطِنَ يَعْتَرِفُونَ عَلَى أنفسهم بالكفر ويسألون الرجعة وهو قولهم:
يَا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا [الْأَنْعَامِ: ٢٧] وَآخِرُ تِلْكَ الْمَوَاطِنِ أَنْ يُخْتَمَ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتَتَكَلَّمَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَجُلُودُهُمْ، فَنَعُوذُ باللَّه مِنْ خِزْيِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْكِتْمَانَ غَيْرُ وَاقِعٍ، بَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي التَّمَنِّي عَلَى مَا بَيَّنَّا. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا الْكِتْمَانَ، وَإِنَّمَا أَخْبَرُوا عَلَى حَسَبِ مَا تَوَهَّمُوا، وَتَقْدِيرُهُ: واللَّه مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ عِنْدَ أَنْفُسِنَا، بَلْ مُصِيبِينَ فِي ظُنُونِنَا حَتَّى تَحَقَّقْنَا الْآنَ. وَسَيَجِيءُ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إن شاء اللَّه تعالى.
[سورة النساء (٤) : آية ٤٣]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣)
النَّوْعُ الْعَاشِرُ: مِنَ التَّكَالِيفِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السورة.
[في قَوْلُهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ النُّزُولِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَفَاضِلِ الصَّحَابَةِ صَنَعَ لَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا وَشَرَابًا حِينَ كَانَتِ الْخَمْرُ مُبَاحَةً فَأَكَلُوا وشربوا، فلما تملوا جَاءَ وَقْتُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَقَدَّمُوا أَحَدَهُمْ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ. فَقَرَأَ: أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَأَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَكَانُوا لَا يَشْرَبُونَ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ، فَإِذَا صَلُّوا الْعِشَاءَ شَرِبُوهَا، فَلَا يُصْبِحُونَ إِلَّا وَقَدْ/ ذَهَبَ عَنْهُمُ السُّكْرُ وَعَلِمُوا مَا يَقُولُونَ، ثُمَّ نَزَلَ تَحْرِيمُهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ. وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ الْخَمْرَ تَضُرُّ بِالْعُقُولِ وَالْأَمْوَالِ، فَأَنْزِلْ فِيهَا أَمْرَكَ فَصَبَّحَهُمُ الْوَحْيُ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ كَانُوا يَشْرَبُونَهَا ثُمَّ يَأْتُونَ الْمَسْجِدَ لِلصَّلَاةِ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَهَاهُمُ اللَّه عَنْهُ.
المسألة الثانية: في لفظة الصَّلَاةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَسْجِدُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَسْجِدِ مُحْتَمَلٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ لَا تَقْرَبُوا مَوْضِعَ الصَّلَاةِ، وَحَذْفُ الْمُضَافِ مُجَازٌ شَائِعٌ، وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ [الْحَجِّ: ٤٠] وَالْمُرَادُ بِالصَّلَوَاتِ مَوَاضِعُ الصَّلَوَاتِ، فَثَبَتَ أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الصَّلَاةِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَسْجِدُ جَائِزٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَفْسُ الصَّلَاةِ، أَيْ لَا تُصَلُّوا إِذَا كُنْتُمْ سُكَارَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ فَائِدَةَ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمَعْنَى: لَا تَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ دَالًّا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْجُنُبِ الْعُبُورُ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى، وَلَا تَقْرَبُوهَا حَالَ كَوْنِكُمْ جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ، وَالْمُرَادُ بِعَابِرِ السَّبِيلِ الْمُسَافِرُ، فَيَكُونُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْجُنُبِ الْإِقْدَامُ عَلَى الصَّلَاةِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْمَاءِ. قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: هَذَا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَالَ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَالْقُرْبُ وَالْبُعْدُ لَا يَصِحَّانِ عَلَى نَفْسِ الصَّلَاةِ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ، إِنَّمَا يَصِحَّانِ عَلَى الْمَسْجِدِ. الثَّانِي: أَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مَا قُلْنَا لَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ صَحِيحًا، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مَا قُلْتُمْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا، لَأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَابِرَ سَبِيلٍ وَقَدْ عَجَزَ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ الشَّدِيدِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الصَّلَاةُ بِالتَّيَمُّمِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ أَوْلَى. الثَّالِثُ: أَنَّا إِذَا حَمَلْنَا عَابِرَ السَّبِيلِ عَلَى الْجُنُبِ الْمُسَافِرِ، فَهَذَا إِنْ كَانَ وَاجِدًا لِلْمَاءِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقُرْبُ مِنَ الصَّلَاةِ الْبَتَّةَ، فَحِينَئِذٍ يُحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْآيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِدًا لِلْمَاءِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الصَّلَاةُ إِلَّا مَعَ التَّيَمُّمِ، فَيُفْتَقَرُ إِلَى إِضْمَارِ هَذَا الشَّرْطِ فِي الْآيَةِ، وَأَمَّا عَلَى مَا قُلْنَاهُ فَإِنَّا لَا نَفْتَقِرُ إِلَى إِضْمَارِ شَيْءٍ فِي الْآيَةِ فَكَانَ قَوْلُنَا أَوْلَى. الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ حُكْمَ السَّفَرِ وَعَدَمِ الْمَاءِ، وَجَوَازِ التَّيَمُّمِ بَعْدَ هَذَا، فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ هَذَا/ عَلَى حُكْمٍ مَذْكُورٍ فِي آيَةٍ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالَّذِي يُؤَكِّدُهُ أَنَّ الْقُرَّاءَ كُلَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْوَقْفَ عِنْدَ قَوْلِهِ: حَتَّى تَغْتَسِلُوا ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ قَوْلَهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى لِأَنَّهُ حُكْمٌ آخَرُ. وَأَمَّا إِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَمْ نَحْتَجْ فِيهِ إِلَى هَذِهِ الْإِلْحَاقَاتِ فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى.
وَلِمَنْ نَصَرَ الْقَوْلَ الثَّانِيَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ نَفْسُ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَيْسَ فِيهِ قَوْلٌ مَشْرُوعٌ يَمْنَعُ السُّكْرَ مِنْهُ، أَمَّا الصَّلَاةُ فَفِيهَا أَقْوَالٌ مَخْصُوصَةٌ يَمْنَعُ السُّكْرَ مِنْهَا، فَكَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا أَوْلَى، وَلِلْقَائِلِ الْأَوَّلِ أَنْ يُجِيبَ بِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَذْهَبُ إِلَى الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ، فَمَا يُخِلُّ بِالصَّلَاةِ كَانَ كَالْمَانِعِ مِنَ الذَّهَابِ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلِهَذَا ذُكِرَ هَذَا الْمَعْنَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: السُّكَارَى جَمْعُ سَكْرَانَ، وَكُلُّ نَعْتٍ عَلَى فَعْلَانَ فَإِنَّهُ يُجْمَعُ عَلَى:
فَعَالَى وَفُعَالَى، مِثْلَ كَسَالَى وَكُسَالَى، وَأَصْلُ السَّكَرِ فِي اللُّغَةِ سَدُّ الطَّرِيقِ، وَمِنْ ذَلِكَ سَكْرُ الْبَثْقِ وَهُوَ سَدُّهُ، وَسَكِرَتْ عَيْنُهُ سُكْرًا إِذَا تَحَيَّرَتْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا [الْحِجْرِ: ١٥] أَيْ غُشِيَتْ فليس
يَنْفُذُ نُورُهَا وَلَا تُدْرِكُ الْأَشْيَاءَ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ سَكْرُ الْمَاءِ وَهُوَ رَدُّهُ عَلَى سُنَنِهِ فِي الْجَرْيِ. وَالسُّكْرُ مِنَ الشَّرَابِ وَهُوَ أَنْ يَنْقَطِعَ عَمَّا عَلَيْهِ مِنَ النَّفَاذِ حَالَ الصَّحْوِ، فَلَا يَنْفُذُ رَأْيُهُ عَلَى حَدِّ نَفَاذِهِ فِي حَالِ صَحْوِهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي لَفْظِ السُّكَارَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ السُّكْرُ مِنَ الْخَمْرِ وَهُوَ نَقِيضُ الصَّحْوِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ: وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ سُكْرَ الْخَمْرِ، إِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْهُ سُكْرُ النَّوْمِ، قَالَ: وَلَفْظُ السُّكْرِ يُسْتَعْمَلُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ هَذَا اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لَهُ، وَالدَّلِيلُ دَلَّ عَلَيْهِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، أَمَّا بَيَانُ أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لَهُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَا: أَنَّ لَفْظَ السُّكْرِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ سَدِّ الطَّرِيقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عِنْدَ النَّوْمِ تَمْتَلِئُ مَجَارِي الرُّوحِ مِنَ الْأَبْخِرَةِ الْغَلِيظَةِ فَتَنْسَدُّ تِلْكَ الْمَجَارِي بِهَا، وَلَا يَنْفُذُ الرُّوحُ الْبَاصِرُ وَالسَّامِعُ إِلَى ظَاهِرِ الْبَدَنِ. الثَّانِي: قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
مِنَ السَّيْرِ وَالْإِدْلَاجِ يُحْسَبُ أَنَّمَا | سَقَاهُ الْكَرَى فِي كُلِّ مَنْزِلَةٍ خَمْرًا |
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى/ يَفِيقَ وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ»
وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا السَّكْرَانَ يَكُونُ مِثْلَ الْمَجْنُونِ، فَوَجَبَ ارْتِفَاعُ التَّكْلِيفِ عَنْهُ.
وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ فَإِنَّهُ إِذَا صَلَّى وَهُوَ يَنْعِسُ لَعَلَّهُ يَذْهَبُ لِيَسْتَغْفِرَ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ»
هَذَا تَقْرِيرُ قَوْلِ الضَّحَّاكِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّحِيحَ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لَفْظَ السُّكْرِ حَقِيقَةٌ فِي السُّكْرِ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الْحَقِيقَةُ، فَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى السُّكْرِ مِنَ الْعِشْقِ، أَوْ مِنَ الْغَضَبِ أَوْ مِنَ الْخَوْفِ، أَوْ مِنَ النَّوْمِ، فَكُلُّ ذَلِكَ مَجَازٌ، وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ مُقَيَّدًا. قَالَ تَعَالَى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ [ق: ١٩] وَقَالَ: وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى
[الْحَجِّ: ٢] الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ الْمُفَسِّرِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْآيَةَ إِذَا نَزَلَتْ فِي وَاقِعَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَلِأَجْلِ سَبَبٍ مُعَيَّنٍ، امْتَنَعَ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ السَّبَبُ مُرَادًا بِتِلْكَ الْآيَةِ، فَأَمَّا قَوْلُ الضَّحَّاكِ كَيْفَ يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ حَالَ كَوْنِهِ سَكْرَانَ؟ فَنَقُولُ: وَهَذَا أَيْضًا لا زم عَلَيْكُمْ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: كَيْفَ يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ وَهُوَ نَائِمٌ لَا يَفْهَمُ شَيْئًا؟ ثُمَّ الْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ النَّهْيُ عَنِ الشُّرْبِ الْمُؤَدِّي إِلَى السُّكْرِ الْمُخِلِّ بِالْفَهْمِ حَالَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، فَخَرَجَ اللَّفْظُ عَنِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ السُّكْرِ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ النَّهْيُ عَنِ الشُّرْبِ الْمُوجِبِ لِلسُّكْرِ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي تَمَسَّكَ بِهِ فَذَاكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّكْرَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ النَّوْمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ، وَأَقُولُ: الَّذِي يُمْكِنُ ادِّعَاءُ النَّسْخِ فِيهِ أَنَّهُ يُقَالُ: نَهَى عَنْ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ حَالَ السُّكْرِ مَمْدُودًا إِلَى غَايَةِ أَنْ يَصِيرَ بِحَيْثُ يَعْلَمُ مَا يَقُولُ وَالْحُكْمُ الْمَمْدُودُ إِلَى غَايَةٍ يَقْتَضِي انْتِهَاءَ ذَلِكَ الْحُكْمِ عِنْدَ تِلْكَ الْغَايَةِ، فَهَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ مَعَ السُّكْرِ إِذَا صَارَ بِحَيْثُ يَعْلَمُ مَا صفحة رقم 87
يَقُولُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ فَقَدْ رَفَعَ هَذَا الْجَوَازَ، فَثَبَتَ أَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ نَاسِخَةٌ لِبَعْضِ مَدْلُولَاتِ هَذِهِ الْآيَةِ. هَذَا مَا خَطَرَ بِبَالِي فِي تَقْرِيرِ هَذَا النَّسْخِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ حَاصِلَ هَذَا النَّهْيِ رَاجِعٌ إِلَى النَّهْيِ عَنِ الشُّرْبِ الْمُوجِبِ لِلسُّكْرِ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَتَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الظَّنِّ الضَّعِيفِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ نَسْخًا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ سَكَارَى بِفَتْحِ السِّينِ وَ (سَكْرَى) عَلَى أَنْ يَكُونَ جَمْعًا نَحْوَ: هَلْكَى، وَجَوْعَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ قَوْلُهُ: وَلا جُنُباً عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ سُكارى وَالْوَاوُ هاهنا لِلْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ حَالَ مَا تَكُونُونَ سُكَارَى، وَحَالَ مَا تَكُونُونَ جُنُبًا، وَالْجُنُبُ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، لِأَنَّهُ اسْمٌ جَرَى مَجْرَى الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الْإِجْنَابُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَصْلَ الْجَنَابَةِ الْبُعْدُ، وَقِيلَ لِلَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ: جُنُبٌ، لِأَنَّهُ يَجْتَنِبُ الصَّلَاةَ وَالْمَسْجِدَ وَقِرَاءَةَ الْقُرْآنِ حَتَّى يَتَطَهَّرَ. ثُمَّ قَالَ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الْعُبُورَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعُبُورُ فِي الْمَسْجِدِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ الْمُسَافِرُونَ، وَبَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ ترجيح أحدهما على الآخر.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هاهنا أَصْنَافًا أَرْبَعَةً: الْمَرْضَى، وَالْمُسَافِرِينَ، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنَ الغائط، والذين لا مسوا النِّسَاءَ.
فَالْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ: يُلْجِئَانِ إِلَى التَّيَمُّمِ، وَهُمَا الْمَرَضُ وَالسَّفَرُ.
وَالْقِسْمَانِ الْأَخِيرَانِ: يُوجِبَانِ التَّطَهُّرَ بِالْمَاءِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ، وَبِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ:
أَمَّا السَّبَبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَرَضُ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَوِ اسْتَعْمَلَ الْمَاءَ لَمَاتَ، كَمَا فِي الْجُدَرِيِّ الشَّدِيدِ وَالْقُرُوحِ الْعَظِيمَةِ، وَثَانِيهَا: أَنْ لَا يَمُوتَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَلَكِنَّهُ يَجِدُ الْآلَامَ الْعَظِيمَةَ. وَثَالِثُهَا: أَنْ لَا يَخَافَ الْمَوْتَ وَالْآلَامَ الشَّدِيدَةَ. لَكِنَّهُ يَخَافُ بَقَاءَ شَيْنٍ أَوْ عَيْبٍ عَلَى الْبَدَنِ، فَالْفُقَهَاءُ جَوَّزُوا التَّيَمُّمَ فِي الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَمَا جَوَّزُوهُ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ وَزَعَمَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ فِي الْكُلِّ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ شَرَطَ جَوَازَ التَّيَمُّمِ لِلْمَرِيضِ بِعَدَمِ وِجْدَانِ الْمَاءِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ:
فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً وَإِذَا كَانَ هَذَا الشَّرْطُ/ مُعْتَبَرًا فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ، فَعِنْدَ فِقْدَانِ هَذَا الشَّرْطِ وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ التَّيَمُّمُ، وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَكَانَ يَقُولُ: لَوْ شَاءَ اللَّه لَابْتَلَاهُ بِأَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ. وَدَلِيلُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ تَعَالَى جَوَّزَ التَّيَمُّمَ لِلْمَرِيضِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَنْعِهِ مِنَ التَّيَمُّمِ عِنْدَ وُجُودِهِ، ثُمَّ قَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ على
جَوَازِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا
رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أنه أصابته جنابة وكان بِهِ جِرَاحَةٌ عَظِيمَةٌ، فَسَأَلَ بَعْضَهُمْ فَأَمَرَهُ بِالِاغْتِسَالِ، فَلَمَّا اغْتَسَلَ مَاتَ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّه،
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ مَا ذَكَرْنَاهُ.
السَّبَبُ الثَّانِي: السَّفَرُ: وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ تَيَمَّمَ، طَالَ سَفَرُهُ أَوْ قَصُرَ لِهَذِهِ الْآيَةِ.
السَّبَبُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ وَالْغَائِطُ الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ مِنَ الْأَرْضِ وَجَمْعُهُ الْغِيطَانُ. وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ قَضَاءَ الْحَاجَةِ طَلَبَ غَائِطًا مِنَ الْأَرْضِ يَحْجُبُهُ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، ثُمَّ سُمِّيَ الْحَدَثُ بِهَذَا الِاسْمِ تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ مَكَانِهِ.
السَّبَبُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (لَمَسْتُمْ) بِغَيْرِ أَلِفٍ مِنَ اللَّمْسِ، وَالْبَاقُونَ لامَسْتُمُ بِالْأَلِفِ مِنَ الْمُلَامَسَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي اللمس المذكور هاهنا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِمَاعُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، لِأَنَّ اللَّمْسَ بِالْيَدِ لَا يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّ المراد باللمس هاهنا الْتِقَاءُ الْبَشَرَتَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ بِجِمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَرْجَحُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ وَاللَّمْسُ حَقِيقَتُهُ الْمَسُّ بِالْيَدِ، فَأَمَّا تَخْصِيصُهُ بِالْجِمَاعِ فَذَاكَ مَجَازٌ، وَالْأَصْلُ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: أَوْ لامَسْتُمُ فَهُوَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ اللَّمْسِ، وَذَلِكَ لَيْسَ حَقِيقَةً فِي الْجِمَاعِ أَيْضًا، بَلْ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ أَيْضًا، لِئَلَّا يَقَعَ التَّنَاقُضُ بَيْنَ الْمَفْهُومِ مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ الْمُتَوَاتِرَتَيْنِ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِاللَّمْسِ الْجِمَاعُ، بِأَنَّ لَفْظَ اللَّمْسِ وَالْمَسِّ وَرَدَا فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْجِمَاعِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٧] وَقَالَ فِي آيَةِ الظِّهَارِ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [الْمُجَادَلَةِ: ٣] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّه حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَعَفُّ وَيَكْنِي، فَعَبَّرَ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ بِالْمُلَامَسَةِ. وَأَيْضًا الْحَدَثُ نَوْعَانِ: الْأَصْغَرُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ فَلَوْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ/ عَلَى الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ لَمَا بَقِيَ لِلْحَدَثِ الْأَكْبَرِ ذِكْرٌ فِي الْآيَةِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرُوهُ عُدُولٌ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ. وَأَيْضًا فَحُكْمُ الْجَنَابَةِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلا جُنُباً فَلَوْ حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْجَنَابَةِ لَزِمَ التَّكْرَارُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: إِنَّمَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُ اللَّامِسِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ أَمَّا الْمَلْمُوسُ فَلَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عنه: بل ينتقض وضوءهما مَعًا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْأَسْبَابَ الْأَرْبَعَةَ قَالَ: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: إِذَا دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَطَلَبَ الْمَاءَ وَلَمْ يَجِدْهُ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى، ثُمَّ دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الطَّلَبُ مَرَّةً أُخْرَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَا يَجِبُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً وَعَدَمُ الْوِجْدَانِ مُشْعِرٌ بِسَبْقِ الطَّلَبِ، فَلَا بُدَّ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْ سَبْقِ الطَّلَبِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُنَا: وَجَدَ، لَا يُشْعِرُ بِسَبْقِ الطَّلَبِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى [الضُّحَى: ٧، ٨] وَقَوْلِهِ: وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ [الْأَعْرَافِ: ١٠٢] وَقَوْلِهِ: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً فَإِنَّ الطَّلَبَ عَلَى اللَّه مُحَالٌ.
قُلْنَا: الطَّلَبُ وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّهِ تَعَالَى مُحَالًا، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا أَخْرَجَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ لَائِقًا لِقَوْمِهِ صَارَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ طَلَبَهُ، وَلَمَّا أَمَرَ الْمُكَلَّفِينَ بِالطَّاعَاتِ ثُمَّ إِنَّهُمْ قَصَّرُوا فِيهَا صَارَ كَأَنَّهُ طَلَبَ شَيْئًا ثُمَّ لَمْ يَجِدْهُ، فَخَرَجَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْوِيلِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَجَدَ الْمَاءَ لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِعَطَشِهِ أَوْ عَطَشِ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ، أَمَّا إِذَا وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا لَا يَكْفِيهِ لِلْوُضُوءِ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْمَاءِ وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ؟ قَدْ أَوْجَبَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، مُتَمَسِّكًا بِظَاهِرِ لَفْظِ الْآيَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً وفي مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَصْدِ، يُقَالُ: أَمَمْتُهُ وَتَيَمَّمْتُهُ وَتَأَمَّمْتُهُ، أَيْ قصدته وأما الصَّعِيدِ فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الصَّاعِدِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: الصَّعِيدُ وَجْهُ الْأَرْضِ، تُرَابًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: لَوْ فَرَضْنَا صَخْرًا لَا تُرَابَ عَلَيْهِ فَضَرَبَ الْمُتَيَمِّمُ يَدَهُ عَلَيْهِ وَمَسَحَ كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تُرَابٍ يَلْتَصِقُ بِيَدِهِ. احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: التَّيَمُّمُ هُوَ الْقَصْدُ، وَالصَّعِيدُ هُوَ مَا تَصَاعَدَ مِنَ الْأَرْضِ، فَقَوْلُهُ: فَتَيَمَّمُوا/ صَعِيداً طَيِّباً أَيِ اقْصُدُوا أَرْضًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَدْرُ كَافِيًا. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ هذه الآية هاهنا مُطْلَقَةٌ، وَلَكِنَّهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ مُقَيَّدَةٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [الْمَائِدَةِ: ٦] وَكَلِمَةُ «مِنْ» لِلتَّبْعِيضِ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى فِي الصَّخْرِ الَّذِي لَا تُرَابَ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ كَلِمَةَ «مِنْ» لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: مَسَحْتُ بِرَأْسِهِ مِنَ الدُّهْنِ وَمِنَ الْمَاءِ وَمِنَ التُّرَابِ: إِلَّا مَعْنَى التَّبْعِيضِ، ثُمَّ قَالَ: وَالْإِذْعَانُ لِلْحَقِّ أَحَقُّ مِنَ الْمِرَاءِ. الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَوْنَ الصَّعِيدِ طَيِّبًا، وَالْأَرْضُ الطَّيِّبَةُ هِيَ الَّتِي تُنْبِتُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الْأَعْرَافِ: ٥٨] فَوَجَبَ فِي الَّتِي لَا تُنْبِتُ أَنْ لَا تَكُونَ طَيِّبَةً، فَكَانَ قَوْلُهُ:
فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً أَمْرًا بِالتَّيَمُّمِ بِالتُّرَابِ فَقَطْ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ للوجوب. أَنَّ قَوْلَهُ: صَعِيداً طَيِّباً أَمْرٌ بِإِيقَاعِ التَّيَمُّمِ بِالصَّعِيدِ الطَّيِّبِ، وَالصَّعِيدُ الطَّيِّبُ هُوَ الْأَرْضُ الَّتِي لَا سَبَخَةَ فِيهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّيَمُّمَ بِهَذَا التُّرَابِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَوَجَبَ حَمْلُ الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ عَلَيْهِ رِعَايَةً لِقَاعِدَةِ الِاحْتِيَاطِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ خَصَّصَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ التُّرَابَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ،
فَقَالَ: «جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَتُرَابُهَا طَهُورًا»
وَقَالَ: «التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مَحْمُولٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ إِلَى الْكُوعَيْنِ، وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ يَجِبُ مَسْحُ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ اسْمَ الْيَدِ يَتَنَاوَلُ جُمْلَةَ هَذَا الْعُضْوِ إِلَى الْإِبِطَيْنِ، إِلَّا أَنَّا أَخْرَجْنَا الْمِرْفَقَيْنِ مِنْهُ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ، فَبَقِيَ اللَّفْظُ مُتَنَاوِلًا لِلْبَاقِي. ثُمَّ خَتَمَ تَعَالَى