آيات من القرآن الكريم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا ۚ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا
ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ

كتاب (الرد على الجهمية) في باب (بيان ما ضلت فيه الزنادقة من متشابه القرآن) وساق مثل ما تقدم عن ابن عباس. ثم قال: فهذا تفسير ما شكّت فيه الزنادقة. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٤٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر في جماعة كانوا يشربونها ثم يصلّون. أي من مقتضى إيمانكم الحياء من الله. ومن الحياء منه أن لا تقوموا إلى الصلاة وأنتم سكارى لا تعلمون ما تخاطبونه. فالحياء من الله يوجب ذلك. وتصدير الكلام بحرفي النداء والتنبيه، للمبالغة في حملهم على العمل بموجب النهي. وتوجيه النهي إلى قربان الصلاة، مع أن المراد هو النهي عن إقامتها، للمبالغة في ذلك.
قال الحافظ ابن كثير: كان هذا النهي قبل تحريم الخمر. كما دل عليه الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة عند قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة: ٢١٩]. الآية. فإن رسول الله ﷺ تلاها على عمر. فقال: اللهم! بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فلما نزلت هذه الآية تلاها عليه. فقال: اللهم! بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فكانوا لا يشربون الخمر في أوقات الصلوات. حتى نزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إلى قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة:
٩٠- ٩١]. فقال عمر: انتهينا. انتهينا.
ولفظ أبي داود «١» عن عمر بن الخطاب في قصة تحريم الخمر فذكر الحديث.
وفيه: نزلت الآية التي في النساء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ. فكان منادي رسول الله ﷺ إذا قامت الصلاة، ينادي: لا يقربن الصلاة سكران.

(١) أخرجه في: الأشربة، ١- باب في تحريم الخمر، حديث ٣٦٧٠.

صفحة رقم 115

وروى ابن أبي شيبة وابن حاتم عن سعد رضي الله عنه قال: نزلت فيّ أربع آيات:
صنع رجل من الأنصار طعاما فدعا أناسا من المهاجرين وأناسا من الأنصار. فأكلنا وشربنا حتى سكرنا. ثم افتخرنا. فرفع رجل لحى بعير فغرز بها أنف سعد فكان سعد مغروز الأنف وذلك قبل تحريم الخمر. فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى. الآية. والحديث بطوله عند مسلم «١» ورواه أهل السنن إلا ابن ماجة.
وروى أبو داود «٢» والنسائيّ عن عليّ رضي الله عنه، أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر. فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ.
فخلط فيها. فنزلت: لا تَقْرَبُوا. الآية.
وروى ابن أبي حاتم عن عليّ رضي الله عنه: قال صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر. فأخذت الخمر منا. وحضرت الصلاة. فقدموا فلانا. قال: فقرأ قل يا أيها الكافرون ما أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون. فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا. الآية. وكذا رواه الترمذي «٣» وقال: حسن صحيح وَلا جُنُباً عطف على قوله وَأَنْتُمْ سُكارى إذ الجملة في موضع النصب على الحال. والجنب الذي أصابته الجنابة. يستوي فيه المذكر والمؤنث، والواحد والجمع. لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ أي مارّين بلا لبث حَتَّى تَغْتَسِلُوا من الجنابة: أي لا تقربوا موضع الصلاة، وهو المسجد، وأنتم جنب، إلا مجتازين فيه. إما للخروج منه أو للدخول فيه.
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في معنى الآية قال: لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل. قال: تمر به مرّا، ولا تجلس. ثم رواه عن كثير من الصحابة.
منهم ابن مسعود وثلة من التابعين.
وروى ابن جرير «٤» عن الليث قال حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن قول الله عز وجل: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ. أن رجالا من المسجد تصيبهم جنابة ولا ماء عنهم فيريدون الماء. ولا يجدون ممرا إلا في المسجد. فأنزل الله تعالى: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ.

(١) أخرجه مسلم في: فضائل الصحابة، حديث ٤٣. [.....]
(٢) أخرجه في: الأشربة، ١- باب تحريم الخمر، حديث ٣٦٧١.
(٣) أخرجه الترمذيّ في: التفسير، ٤- سورة النساء، ١٢- حدثنا سويد.
(٤) الأثر رقم ٩٥٦٧ من التفسير.

صفحة رقم 116

قال الحافظ ابن كثير: ويشهد لصحة ما قاله يزيد بن أبي حبيب رحمه الله، ما
ثبت في صحيح البخاري «١» أن رسول الله ﷺ قال: سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر
. وهذا قاله ﷺ في آخر حياته. علما منه أن أبا بكر. رضي الله عنه سيلبي الأمر بعده ويحتاج إلى الدخول في المسجد كثيرا للأمور المهمة فيما يصلح للمسلمين. فأمر بسد الأبواب الشارعة. إلى المسجد إلا بابه رضي الله عنه ومن روى: إلا باب عليّ، كما وقع في بعض السنن، فهو خطأ والصواب ما ثبت في الصحيح.
ومن هذا التأويل احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد. ويجوز له المرور. وثمة تأويل آخر في قوله تعالى إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ وهو أن المراد منه المسافرون. أي لا تقربوا الصلاة جنبا في حال من الأحوال إلا حال كونكم مسافرين. فيكون هذا الاستثناء دليلا على أنه يجوز للجنب الإقدام على الصلاة عند العجز عن الماء.
وقد روى ابن أبي حاتم عن زر بن حبيش عن عليّ في هذه الآية، قال: لا يقرب الصلاة لا أن يكون مسافرا تصيبه الجنابة، فلا يجد الماء، فيصلي حتى يجد الماء.
ثم
رواه من وجه آخر عن عليّ: ورواه عن جماعة من السلف أيضا: أنه في السفر.
قال ابن كثير: ويستشهد لهذا القول
بالحديث الذي رواه الإمام أحمد «٢» وأهل

(١)
أخرجه البخاريّ في: فضائل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ٣- باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر»، حديث ٣١١ ونصه: عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: خطب رسول الله ﷺ الناس، وقال: «إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله» قال فبكى أبو بكر. فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله ﷺ عن عبد خير، فكان رسول الله ﷺ هو المخيّر، وكان أبو بكر أعلمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر. ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر. ولكن أخوّة الإسلام ومودته. لا يبقين في المسجد بابا إلا سدّ. إلا باب أبي بكر»
. (٢)
أخرجه في المسند ٥/ ١٤٦. وهاكموه بنصه لنفاسته: عن رجل من بني عامر قال: كنت كافرا فهداني الله للإسلام. وكنت أعزب عن الماء ومعي أهلي فتصيبني الجنابة. فوقع ذلك في نفسي.
وقد نعت لي أبو ذر. فحججت فدخلت مسجد منى، فعرفته بالنعت. فإذا شيخ معروق آدم عليه حلة قطري. فذهبت حتى قمت إلى جنبه وهو يصلي. فسلمت عليه فلم يرد علي. ثم صلى صلاة أتمها وأحسنها وأطالها. فلما فرغ ردّ عليّ. قلت: أنت أبو ذر؟ قال: إن أهلي ليزعمون ذلك. قال: كنت كافرا فهداني الله للإسلام وأهمني ديني، وكنت أعزب عن الماء ومعي أهلي فتصيبني الجنابة. فوقع ذلك في نفسي. قال: أتعرف أبا ذر؟ قلت: نعم. قال: فإني اجتويت المدينة، فأمر لي رسول الله ﷺ بذود من إبل وغنم. فكنت أكون فيها. فكنت أعزب عن الماء ومعي أهلي فتصيبني الجنابة. فوقع

صفحة رقم 117

السنن عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصعيد الطيب طهور المسلم. وإن لم تجد الماء عشر حجج، فإذا وجدت الماء فأمسّه بشرتك فإن ذلك خير لك.
وفي هذا التأويل بقاء لفظ الصلاة على معناه الحقيقيّ في الجملتين المتعاطفتين. وفي التأويل السابق تكون الصلاة، في الجملة الثانية محمولة على مواضعها.
قال في (فتح البيان) : وبالجملة، فالحال الأولى أعني قوله وَأَنْتُمْ سُكارى تقوّي بقاء الصلاة على معناه الحقيقي، من دون تقدير مضاف. وسبب نزول الآية السابق يقوّي ذلك. وقوله إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ يقوّي تقدير المضاف. أي لا تقربوا مواضع الصلاة. ويمكن أن يقال: إن بعض قيود النهي (أعني لا تقربوا وهو قوله:
وَأَنْتُمْ سُكارى) يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقيّ. وبعض قيود النهي (وهو قوله: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) يدل على أن المراد مواضع الصلاة. ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدال عليه. ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد. وهما: لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى. ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال عبوركم المسجد من جانب إلى جانب. وغاية ما يقال في هذا إنه من الجمع بين الحقيقة والمجاز. وهو جائز بتأويل مشهور.
وقال ابن جرير «١» (بعد حكايته للتأويلين) : وأولى القولين بالتأويل لذلك، تأويل من تأوله وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ، إلا مجتازي طريق فيه. وذلك أنه قد بيّن حكم المسافر إذا عدم الماء. وهو جنب، في قوله وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ إلى آخره. فكان معلوما بذلك أن قوله وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا لو كان معنيّا به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ معنى مفهوم. وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك.
وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد

في نفسي أني قد هلكت. فقعدت على بعير منها. فانتهيت إلى رسول الله ﷺ نصف النهار وهو جالس في ظل المجلس في نفر من أصحابه فنزلت عن البعير وقلت: يا رسول الله! هلكت. قال «وما أهلكك» ؟ فحدثته فضحك. فدعا إنسانا من أهله. فجاءت جارية سوداء بعسّ فيه ماء، ما هو بملآن، إنه ليتخضخض. فاستترت بالبعير. فأمر رسول الله ﷺ رجلا من القوم فسترني. فاغتسلت ثم أتيته.
فقال «إن الصعيد الطيّب طهور، ما لم تجد الماء، ولو إلى عشر حجج. فإذا وجدت الماء فأمسّ بشرتك».
(١) تفسير ابن جرير، ٨/ ٣٨٤.

صفحة رقم 118

للصلاة، مصلين فيها، وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا تقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل.
قال: و (العابر السبيل) المجتازه مرّا وقطعا. يقال منه: عبرت هذا الطريق فأنا أعبره عبرا وعبورا. ومه قيل: عبر فلان النهر إذا قطعه وجازه. ومنه قيل، للناقة القوية على الأسفار: هي عبر أسفار. وعبر أسفار، لقوتها على الأسفار.
قال ابن كثير: وهذا الذي نصره (يعني ابن جرير) هو قول الجمهور وهو الظاهر من الآية. وكأنه تعالى نهى عن تعاطي الصلاة على هيئة ناقصة تناقض مقصودها. وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة وهي الجنابة المباعدة للصلاة ولمحلها أيضا، والله أعلم.
وقوله تعالى حَتَّى تَغْتَسِلُوا غاية للنهي عن قربان الصلاة ومواضعها، حال الجنابة. والمعنى: لا تقربوها حال الجنابة حتى تغتسلوا. إلا حال عبوركم السبيل.
تنبيهات:
الأول- في الآية تحريم الصلاة على السكران حال سكره حتى يصحو.
وبطلانها وبطلان الاقتداء به. وعلى الجنب حتى يغتسل إلا أن يكون مسافرا. فيباح له التيمم.
الثاني- تمسك بالآية من قال: إن طلاق السكران لا يقع لأنه إذا لم يعلم ما يقوله انتفى القصد. وبه قال عثمان بن عفان وابن عباس وطاوس وعطاء والقاسم وربيعة والليث بن سعد وإسحاق وأبو ثور والمزنيّ واختاره الطحاويّ. والمسألة مبسوطة في (زاد المعاد) للإمام ابن القيّم.
الثالث- في الآية دليل على أن ردة السكران ليست بردة: لأن قراءة سورة الكافرين، بطرح اللاءات، كفر. ولم يحكم بكفره حتى خاطبهم باسم الإيمان. وما أمر النبيّ ﷺ بالتفريق بينه وبين امرأته. ولا بتجديد الإيمان. ولأن الأمة اجتمعت على أن من أجرى كلمة الكفر على لسانه مخطئا، لا يحكم بكفره. قاله النسفيّ.
الرابع- استدل بأحد التأويلين السابقين على تحريم دخول المسجد على السكران. لما يتوقع منه من التلويث وفحش القول. فيقاس به كل ذي نجاسة يخشى منها التلويث والسباب ونحوه. كذا في (الإكليل).
الخامس- استدل ابن الفرس بتوجيه الخطاب لهم في الآية على تكليف

صفحة رقم 119

السكران ودخوله تحت الخطاب. وفيه نظر. لأن الخطاب عام لكل مؤمن. وعلى تقدير أنه قصد به الذين صلوا في حال السكر، فإنما نزل بعد صحوهم. كذا في (الإكليل).
السادس- في قوله تعالى حَتَّى تَغْتَسِلُوا رد على من أباح جلوس الجنب مطلقا إذا توضأ. لأن الله تعالى جعل غاية التحريم الغسل. فلا يقوم مقامه الوضوء.
كذا في (الإكليل).
أقول: إنما يكون هذا حجة لو كانت الآية نصّا في تأويل واحد. وحيث تطرق الاحتمال لها، على ما رأيت، فلا.
وقد تمسك المبيح، وهو الإمام أحمد، بما روى هو وسعيد بن منصور في (سننه) بسند صحيح، أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك.
قال سعيد بن منصور في (سننه) : حدثنا عبد العزيز بن محمد، هو الدراورديّ، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار قال: رأيت رجلا من أصحاب رسول الله ﷺ يجلسون في المسجد وهم مجنبون، إذا توضؤوا وضوء الصلاة.
قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم.
السابع- قال العلامة أبو السعود: لعل تقديم الاستثناء على قوله حَتَّى تَغْتَسِلُوا للإيذان، من أول الأمر، بأن حكم النهي في هذه الصورة ليس على الإطلاق، كما في صورة السكر، تشويقا إلى البيان، وروما لزيادة تقرره في الأذهان.
الثامن- قال أيضا: في الآية الكريمة إشارة إلى أن المصلي حقه أن يتحرز عما يليه ويشغل قلبه، وأن يزكي نفسه عما يدنسها، ولا يكتفي بأدنى مراتب التزكية، عند إمكان أعاليها.
التاسع- أشعر قوله تعالى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ بالنهي عن الصلاة حال النعاس. كما
روى الإمام أحمد والبخاريّ «١» والنسائيّ عن أنس قال: قال رسول الله

(١)
أخرجه البخاريّ في: الوضوء، ٥٣- باب الوضوء من النوم، حديث ١٦٤ ونصه: عن النبيّ ﷺ قال «إذا نعس أحدكم في الصلاة فلينم حتى يعلم ما يقرأ».
وهذا نص
حديث عائشة الذي أخرجه البخاريّ في الباب نفسه، حديث ١٦١. «إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه».
وقريب منه في المسند ٦/ ٥٦.

صفحة رقم 120

صلى الله عليه وسلم: «إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف ولينم حتى يعلم ما يقول».
وفي رواية: فلعله يذهب يستغفر فيسب نفسه.
وقد روى ابن جرير عن الضحاك في الآية قال: لم يعن بها سكر الخمر. وإنما عنى بها سكر النوم.
قال ابن جرير: والصواب أن المراد سكر الشراب.
قال الرازيّ: ويدل عليه وجهان:
الأول- أن لفظ السكر حقيقة في السكر من شرب الخمر. والأصل في الكلام الحقيقة.
والثاني- أن جميع المفسرين اتفقوا على أن هذه الآية إنما نزلت في شرب الخمر. وقد ثبت في أصول الفقه أن الآية إذا نزلت في واقعة معينة، ولأجل سبب معين، امتنع أن لا يكون ذلك السبب مرادا بتلك الآية.
العاشر- قال الحافظ ابن كثير: قد يحتمل أن يكون المراد من الآية التعريض بالنهي عن السكر بالكلية. لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة الأوقات، من الليل والنهار. فلا يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائما. والله أعلم.
وعلى هذا فيكون كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: ١٠٢]. وهو الأمر لهم بالتأهب للموت على الإسلام، والمداومة على الطاعة لأجل ذلك. انتهى.
الحادي عشر- قال الرازيّ: قال بعضهم: هذه الآية، أي لا تَقْرَبُوا إلخ منسوخة بآية المائدة. وأقول: الذي يمكن ادعاء النسخ فيه أن يقال: نهى عن قربان الصلاة حال السكر ممدودا إلى غاية أن يصير بحيث يعلم ما يقول. والحكم الممدود إلى غاية، يقتضي انتهاء ذلك الحكم عند تلك الغاية. فهذا يقتضي جواز قربان الصلاة مع السكر إذا صار بحيث يعلم ما يقول. ومعلوم أن الله تعالى لما حرم الخمر بآية المائدة، فقد رفع هذا الجواز. فثبت أن آية المائدة ناسخة لبعض مدلولات هذه الآية. هذا ما حضر ببالي في تقرير هذا النسخ.
والجواب عنه: أنا بيّنا أن حاصل هذا النهي راجع إلى النهي عن الشرب الموجب للسكر عند القرب من الصلاة. وتخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه إلا على سبيل الظن الضعيف. ومثل هذا لا يكون نسخا. انتهى.

صفحة رقم 121

وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أي ولم تجدوا بقربكم ماء تستعملونه. ومنه فقد من يناوله إياه، أو خشيته الضرر به أَوْ عَلى سَفَرٍ لا تجدونه فيه أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أي أو كنتم محدثين. والغائط هو المكان المنخفض. فالمجيء منه كناية عن الحدث.
لأن المعتاد أن من يريده يذهب إليه ليواري شخصه عن أعين الناس.
قال الخازن: كانت عادة العرب إتيان الغائط للحدث. فكنوا به عن الحدث.
وذلك أن الرجل منهم، كان إذا أراد قضاء الحاجة، طلب غائطا من الأرض، يعني مكانا منخفضا منها يحجبه عن أعين الناس. فسمي الحدث بهذا الاسم. فهو من باب تسمية الشيء باسم مكانه. انتهى. وإسناد المجيء إلى واحد مبهم من المخاطبين دونهم، للتفادي عن التصريح بنسبتهم إلى ما يستحيا منه أو يستهجن التصريح به. كذا قاله أبو السعود. ثم قال: وكذلك إيثار الكناية فيما عطف عليه من قوله عز وجل أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ على التصريح بالجماع. قال الشهاب: وفي ذكر (أحد) دون غيره إشارة إلى أن الإنسان ينفرد عند قضاء الحاجة كما هو دأبه وأدبه فَلَمْ تَجِدُوا ماءً قال المهايميّ: أي فلا تستحيوا من الله، بل اعتذروا إليه فَتَيَمَّمُوا أي اقصدوا صَعِيداً أي ترابا أو وجه الأرض طَيِّباً أي طاهرا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً تعليل للترخيص والتيسير، وتقرير لهما. فإن من عادته المستمرة أن يعفو عن الخاطئين ويغفر للمذنبين، لا بد أن يكون ميسرا لا معسرا. وفي هذه الآية مسائل:
الأول- الظاهر أن قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا راجع إلى جميع ما قبلها وحينئذ لا يجوز التيمم في الكل إلا عند عدم الماء. وأما ما قيل أنه راجع إلى قوله تعالى أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ لأنه قد وجد المانع هاهنا من تقييد السفر والمرض، بعدم الوجود للماء، وهو أن كل واحد منهما عذر مستقل في غير هذا الموضع كالصوم- فلا يفيد. لأن عدم الوجود معتبر فيهما لإباحة التيمم قطعا. إذ ليس السفر بمجرده مبيحا. وكذلك المرض. وأما ما يقال من أنه قد يباح للمريض التيمم مع وجود الماء إذا خشي الضرر به، فعدم الوجود في حقه إذن غير قيد.
فالجواب: أن هذا داخل تحت عدم الماء لأن من تعذر عليه استعماله هو، عادم له، إذ ليس المراد الوجود الذي لا ينفع. فمن كان يشاهد ماء في قعر بئر، يتعذر عليه الوصول إليه بوجه من الوجوه، فهو عادم له. وهكذا خوف السبيل الذي يسلك إلى الماء. وهكذا من كان يحتاجه للشرب فهو عادم له. ولئن سلمنا، تنزلا، أن المراد مطلق الوجود فنقول: المدعي أنه تعالى جوز التيمم للمريض إذا لم يجد الماء.

صفحة رقم 122

وليس فيه دلالة على منعه من التيمم عند وجوده لعارض يمنعه من الماء. فإن قيل:
من أين تستدلون حينئذ على إباحة تيممه؟ قلنا: من التحقيق الذي ذكرناه وهو أن المتعذر استعماله معدوم شرعا وكذا من قوله تعالى وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: ٢٩] وقوله وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: ١٩٥] وقوله وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: ٧٨]، ومما
أخرجه أبو داود «١» وابن ماجة والدّارقطنيّ من حديث جابر رضي الله عنه قال: خرجنا في سفر. فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه. ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات. فلما قدمنا على النبيّ ﷺ أخبر بذلك. فقال: قتلوه، قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا؟
فإنما شفاء العيّ السؤال. إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصر (ويعصب) على جرحه، ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده.
ومما
رواه أحمد وأبو داود «٢» وابن حبان والحاكم والدّارقطنيّ عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت، أن أهلك. فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح.
فذكروا ذلك للنبيّ ﷺ فقال: يا عمرو! صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً فضحك رسول الله ﷺ ولم يقل شيئا
. فهذا وما قبله يدل على جواز العدول إلى التيمم لخشية الضرر.
قال مجد الدين ابن تيمية: في حديث عمرو، من العلم، أن التمسك بالعمومات حجة صحيحة. انتهى.
وقد روى ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله تعالى وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى قال:
نزلت في رجل من الأنصار كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ. ولم يكن له خادم فيناوله. فأتى النبيّ ﷺ فذكر ذلك له، فأنزل الله هذه الآية.
قال ابن كثير: هذا مرسل.
الثانية- ما يصدق عليه مفهوم عدم الوجود المقيد بالقيام إلى الصلاة، هو المعتبر في تسويغ التيمم. كما هو الظاهر من الآية. لا عدم الوجود مع طلب

(١) أخرجه أبو داود في: الطهارة، ١٢٥- باب في المجروح يتيمم، حديث ٣٣٦.
(٢) أخرجه أبو داود في: الطهارة، ٢٤- باب إذا خاف الجنب البرد، أيتيمم؟ حديث ٣٣٤.

صفحة رقم 123

مخصوص، كما قيل: إنه يطلب في كل جهة من الجهات الأربع في ميل أو ينتظر إلى آخر الوقت حتى لا يبقى إلا ما يسع الصلاة بعد التيمم. إذ لا دليل على ذلك. فإذا دخل الوقت المضروب للصلاة، وأراد المصلي القيام إليها فلم يجد حينئذ ما يتوضأ به، أو يغتسل في منزله أو مسجده، أو ما يقرب منهما، كان ذلك عذرا مسوّغا للتيمم.
فليس المراد بعدم الوجود في ذلك أن لا يجده بعد الكشف والبحث وإحفاء السؤال.
بل المراد أن لا يكون معه علم أو ظن بوجود شيء منه هنالك، ولم يتمكن في تلك الحالة من تحصيله بشراء أو نحوه. فهذا يصدق عليه أنه لم يجد الماء عند أهل اللغة. والواجب حمل كلام الله تعالى على ذلك، مع عدم وجود عرف شرعيّ. وقد وقع منه ﷺ ما يشعر بما ذكرناه. فإنه تيمم في المدينة من جدار. كما ثبت ذلك في الصحيحين «١» من دون أن يسأل ويطلب. ولم يصح عنه في الطلب شيء تقوم به الحجة. فهذا، كما يدل على وجوب الطلب، يدل على عدم وجوب انتظار آخر الوقت، ويدل على ذلك حديث الرجلين اللذين تيمما في سفر ثم وجدا الماء. فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر:
فقال ﷺ للذي لم يعد: أصبت السنة. أخرجه أبو داود «٢» والحاكم وغيرهما من حديث أبي سعيد.
فإنه يردّ قول من قال بوجوب الانتظار إلى آخر الوقت على المتيمم. سواء كان مسافرا أو مقيما. كذا في (الروضة الندية).
الثالثة- دلت الآية على أن المسافر إذا لم يجد الماء تيمم. طال سفره أو قصر.
الرابعة- قرئ في السبع (لامستم ولمستم) والملامسة واللمس يردان، لغة، بمعنى الجس باليد، وبمعنى الجماع. قال المجد في (القاموس) لمسه يلمسه

(١) أخرجه البخاريّ في: التيمم، ٣- باب التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء، حديث ٢٣٢ ونصه:
عن حميد الأعرج، قال: سمعت عميرا مولى ابن عباس، قال: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار، مولى ميمونة، زوج النبيّ ﷺ حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاريّ. فقال أبو الجهيم: أقبل النبيّ ﷺ من نحو بئر جمل. فلقيه رجل فسلّم عليه. فلم يردّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم. حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السّلام.
وأخرجه مسلم في: الحيض، حديث ١١٤.
(٢)
أخرجه أبو داود في: الطهارة، ١٢٦- باب المتيمم يجد الماء بعد ما يصلي في الوقت، حدث ٣٣٨ ونصه: عن أبي سعيد الخدريّ قال: خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء.
فتيمما صعيدا طيبا. فصليا. ثم وجدا الماء في الوقت. فأعاد أحدهم الصلاة والوضوء. ولم يعد الآخر. ثم أتيا رسول الله ﷺ فذكرا ذلك له. فقال للذي لم يعد «أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك» وقال للذي توضأ وأعاد «لك الأجر مرتين».

صفحة رقم 124

ويلمسه: مسّه بيده. والجارية جامعها. ثم قال: والملامسة المماسة والمجامعة.
ومن ثمة اختلف المفسرون والأئمة في المعنيّ بذلك هنا. فمن قائل بأن اللمس حقيقة في الجس باليد، مجاز في غيره. والأصل حمل الكلام على حقيقته لأنه الراجح، لا سيما على قراءة (لمستم) إذ لم يشتهر في الوقاع كالملامسة. وروي عن ابن مسعود من طرق متعددة أنه قال «١» : الملامسة ما دون الجماع. وعنه «٢» : القبلة من المس وفيها الوضوء. رواهما ابن جرير.
وروى الطبرانيّ بإسناده عن عبد الله بن مسعود قال: يتوضأ الرجل من المباشرة، ومن اللمس بيده، ومن القبلة. وكان يقول في هذه الآية أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ: هو الغمز.
وروى ابن جرير «٣» عن نافع أن ابن عمر كان يتوضأ من قبلة المرأة. ويرى فيها الوضوء. ويقول: هي من اللّماس. وذكر ابن أبي حاتم أنه روي عن كثير من التابعين نحو ذلك. قالوا: ومما يؤيد بقاء اللمس على معناه الحقيقيّ قوله تعالى وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ [الأنعام: ٧] أي جسّوه.
وقال ﷺ «٤»
لماعز، حين أقر بالزنى، يعرّض له بالرجوع عن الإقرار: «لعلك قبلت أو لمست» ؟
وفي الحديث الصحيح «٥» : واليد زناها اللمس.
وقالت عائشة «٦» : قلّ يوم إلا ورسول

(١) الأثر رقم ٩٦٠٦.
(٢) الأثر رقم ٩٦٠٧. [.....]
(٣) الأثر رقم ٩٦١٧.
(٤)
أخرجه البخاريّ في: الحدود، ٢٨- باب قول الإمام للمقرّ: لعلك لمست أو غمزت؟ حديث ٢٥١٦ ونصه: عن ابن عباس رضي الله عنهما قالا: لما أتى ماعز بن مالك النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال له «لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت؟» قال: لا، يا رسول الله! قال «أنكتها» ؟ لا يكنى. قال فعند ذلك أمر برجمه.
(٥)
أخرجه الإمام أحمد في المسند ٢/ ٣٤٩، ونصه: عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال «كل ابن آدم أصاب من الزنى لا محالة. فالعين زناها النظر، واليد زناها اللمس. والنفس تهوى وتحدث. ويصدق ذلك ويكذبه الفرج»
. (٦)
أخرجه الإمام أحمد في المسند ٦/ ١٠٨. ونصه: عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما من يوم إلا وهو يطوف علينا جميعا، امرأة امرأة. فيدنو ويلمس من غير مسيس. حتى يفضي إلى التي هو يومها، فيبيت عندها
.

صفحة رقم 125

الله ﷺ يطوف علينا. فيقبل ويلمس.
ومنه ما
ثبت في الصحيحين «١» : أن رسول الله ﷺ نهى عن بيع الملامسة.
وهو يرجع إلى الجس باليد. واستأنسوا أيضا
بالحديث الذي رواه أحمد «٢» عن معاذ أن رسول الله ﷺ أتاه رجل فقال: يا رسول الله! ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها، فليس يأتي الرجل من امرأته شيئا إلا أتاه منها غير أنه لم يجامعها. قال فأنزل الله عز وجل هذه الآية وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ [هود: ١١٤] الآية. قال فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: توضأ ثم صلّ. قال معاذ: فقلت: يا رسول الله! أله خاصة أم للمؤمنين عامة؟ فقال: بل للمؤمنين عامة.
ورواه الترمذيّ «٣»
وقال: ليس بمتصل. والنسائيّ مرسلا. قالوا: فأمره بالوضوء لأنه لمس المرأة ولم يجامعها.

فصل


ومن قائل: إن المعنيّ باللمس هنا الجماع. وذلك لوروده في غير هذه الآية بمعناه. فدل على أنه من كنايات التنزيل. قال تعالى وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: ٢٣٧]. وقال تعالى إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب: ٤٩]. وقال في آية الظهار فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة: ٣]. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ قال: الجماع. وروى ابن جرير»
عنه. قال: إن اللمس والمس والمباشرة: الجماع. ولكن الله يكني ما يشاء بما شاء. وقد صح من غير وجه عن ابن عباس أنه قال ذلك. وقد تقرر أن تفسيره أرجح من تفسير غيره، لاستجابة دعوة الرسول ﷺ فيه بتعليمه تأويل الكتاب «٥». كما أسلفنا بيان ذلك في مقدمة التفسير. ويؤيد عدم النقض بالمس ما
رواه مسلم «٦» والترمذيّ وصححه عن عائشة
(١)
أخرجه البخاريّ في: البيوع، ٦٢- باب بيع الملامسة، حديث ٢٤٣ ونصه: عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ نهى عن المنابذة
، وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل أن يقلّبه أو ينظر إليه. ونهى عن الملامسة. والملامسة لمس الثوب لا ينظر إليه.
(٢) أخرجه في المسند ٥/ ٢٤٤.
(٣) أخرجه الترمذيّ في: التفسير، ١١- سورة هود، ٥- حدثنا عبد بن حميد.
(٤) الأثر رقم ٩٥٨١.
(٥)
أخرجه البخاريّ في: العلم، ١٧- باب قول النبيّ ﷺ «اللهم علمه الكتاب». حديث ٦٥ ونصه:
عن ابن عباس قال: ضمني رسول الله ﷺ وقال: «اللهم علمه الكتاب»
. (٦) أخرجه مسلم في: الصلاة، حديث ٢٢٢.

صفحة رقم 126

قالت: فقدت رسول الله ﷺ ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد. وهما منصوبتان. وهو يقول: «اللهم! إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك».
وروى «١» النسائيّ عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن كان رسول الله ﷺ ليصلي وإني لمعترضته بين يديه اعتراض الجنازة. حتى إذا أراد أن يوتر مسّني برجله.
قال الحافظ ابن حجر في (التلخيص) : إسناده صحيح. وقوله في (الفتح) :
يحتمل أنه كان بحائل أو أنه خاص به صلى الله عليه وسلم، تكلف، ومخالفة للظاهر.
وعن إبراهيم التيميّ عن عائشة رضي الله عنها. أن النبيّ ﷺ كان يقبل بعض أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ. رواه أبو داود «٢» والنسائيّ
: قال أبو داود: هو مرسل.
إبراهيم التيميّ لم يسمع من عائشة. وقال النسائيّ: ليس في هذا الباب أحسن من هذا الحديث، وإن كان مرسلا. وصححه ابن عبد البر وجماعة. وشهد له ما تقدم وما
رواه الطبرانيّ في المعجم الصغير من حديث عمرة عن عائشة قالت: فقدت رسول الله ﷺ ذات ليلة. فقلت: إنه قام إلى جاريته مارية. فقمت ألتمس الجدار فوجدته قائما يصلي. فأدخلت يدي في شعره لأنظر: أغتسل أم لا؟ فلما انصرف قال: أخذك شيطانك يا عائشة
. وفيه محمد بن إبراهيم عن عائشة. قال ابن أبي حاتم: ولم يسمع منها.
قال ابن جرير «٣» : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى الله بقوله أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ الجماع دون غيره من معاني اللمس. لصحة الخبر عن رسول الله ﷺ أنه قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ. ثم أسنده من طرق. وبه يعلم أن حديث عائشة قرينة صرفت إرادة المعنى الحقيقيّ من اللمس، وأوجبت المصير إلى معناه المجازيّ. وأما ما روي عن ابن عمر وابن مسعود، فنحن لا ننكر صحة إطلاق

(١) أخرجه النسائيّ في: الطهارة، ١١٩- باب ترك الوضوء من مسّ الرجل امرأته من غير شهوة.
(٢) رواه أبو داود في: الطهارة، ٦٨- باب الوضوء من القبلة، حديث ١٧٨ ونصه: عن عائشة أن النبيّ ﷺ قبلها ولم يتوضأ.
والنسائي في: الطهارة، ١٢١- باب ترك الوضوء من القبلة. ونصه نص المتن.
(٣) التفسير ٨/ ٣٩٦.

صفحة رقم 127

اللمس على الجسّ باليد. بل هو المعنى الحقيقيّ. ولكنا ندعي أن المقام محفوف بقرائن توجب المصير إلى المجاز. وأما قولهم: بأن القبلة فيها الوضوء، فلا حجة في قول الصحابيّ. لا سيما إذا وقع معارضا لما ورد عن الشارع. ويؤيد ذلك قول اللغويين. أن المراد بقول بعض الأعراب للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إن امرأته لا تردّ يد لامس، الكناية عن كونها زانية. ولهذا قال له صلى الله عليه وسلم: طلقها.
وأما حديث معاذ الذي استأنسوا به فلا دلالة فيه على النقض. لأنه لم يثبت أنه كان متوضئا قبل أن يأمره النبيّ ﷺ بالوضوء. ولا ثبت أنه كان متوضئا عند اللمس، فأخبره النبيّ ﷺ أنه قد انتقض وضوؤه كذا في (نيل الأوطار).
وقال ابن كثير: هو منقطع بين ابن أبي ليلى ومعاذ. فإنه لم يلقه. ثم يحتمل أنه إنما أمره بالوضوء والصلاة المكتوبة، كما تقدم في حديث الصديق «١» : ما من عبد يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له. وهو مذكور في سورة آل عمران عند قوله ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آل عمران: ١٣٥] الآية.
الخامسة- التيمم، لغة، القصد. يقال: تيممته وتأممته ويممته وآممته أي قصدته. وأما الصعيد فهو فعيل بمعنى الصاعد. قال الزجاج: الصعيد وجه الأرض، ترابا كان أو غيره. لا أعلم اختلافا بين أهل اللغة في ذلك. وفي (المصباح) الصعيد في كلام العرب يطلق على وجوه: على التراب الذي على وجه الأرض وعلى وجه الأرض. وعلى الطريق وفي (القاموس) : الصعيد التراب أو وجه الأرض.
قال الأزهريّ: ومذهب أكثر العلماء أن الصعيد من قوله تعالى صَعِيداً طَيِّباً هو التراب. انتهى.
واحتجوا بما
في صحيح مسلم «٢» عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله ﷺ فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة. وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا. وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء.
وفي لفظ: وجعل ترابها لنا طهورا إذا لم نجد الماء
. قالوا: فخصص الطهورية بالتراب في مقام الامتنان.
فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه. قالوا: وحديث جابر «٣» المتفق عليه: جعلت

(١) أخرجه أبو داود في: الصلاة، ٢٦- باب في الاستغفار، حديث ١٥٢١. [.....]
(٢) أخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث ٤.
(٣)
أخرجه البخاريّ في: التيمم، ١- باب قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ، حديث ٢٣١، ونصه: عن جابر أن النبيّ ﷺ قال: «أعطيت

صفحة رقم 128

لي الأرض مسجدا وطهورا، خصصه ما قبله لأن الخاص يحمل عليه العام. واحتجوا أيضا بأن الطيّب لا يكون إلا ترابا. قال الواحديّ: إنه تعالى أوجب في هذه الآية كون الصعيد طيّبا. والأرض الطيبة هي التي تنبت بدليل قوله تعالى وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الأعراف: ٥٨] فوجب في التي لا تنبت أن لا تكون طيبة.
فكان قوله فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً أمرا بالتيمم بالتراب فقط. وظاهر الأمر للوجوب.
واحتجوا أيضا بآية المائدة. قالوا: الآية هاهنا مطلقة ولكنها في سورة المائدة مقيّدة وهي قوله سبحانه وتعالى فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة: ٦] وكلمة (من) للتبعيض وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه.
قال الزمخشريّ: وقولهم إن (من) لابتداء الغاية، قول متعسف. ولا يفهم أحد من العرب، من قول القائل: (مسحت برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب) إلا معنى التبعيض. ثم قال: والإذعان للحق أحق من المراء. انتهى.
وأجاب القائلون، بجواز التيمم بالأرض وما عليها، عن هذه الحجج- بأن الظاهر من لفظ الصعيد وجه الأرض لأنه ما صعد أي علا وارتفع على وجه الأرض.
وهذه الصفة لا تختص بالتراب. ويؤيد ذلك
حديث: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا.
وهو متفق عليه من حديث جابر وغيره. وما
ثبت في رواية بلفظ (وتربتها طهورا) كما أخرجه مسلم من حديث حذيفة
- فهو غير مستلزم لاختصاص التراب بذلك عند عدم الماء. لأن غاية ذلك أن لفظ التراب دل بمفهومه على أن غيره من أجزاء الأرض لا يشاركه في الطهورية. وهذا مفهوم لقب لا ينتهض لتخصيص عموم الكتاب والسنة. ولهذا لم يعمل به من يعتد به من أئمة الأصول. فيكون ذكر التراب، في تلك الرواية من باب التنصيص على بعض أفراد العام. وهكذا يكون الجواب عن ذكر التراب في غير هذا الحديث. ووجه ذكره أنه الذي يغلب استعماله في هذه الطهارة. ويؤيد هذا ما ثبت من تيممه ﷺ من جدار. وأما الاستدلال بوصف الصعيد بالطيب، ودعوى أن الطيب لا يكون إلا ترابا طاهرا منبتا لقوله تعالى

خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر. وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلّ. وأحل لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي. وأعطيت الشفاعة. وكان النبيّ يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة».
وأخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث ٣
.

صفحة رقم 129

وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف: ٥٨]- فغير مفيد للمطلوب إلا بعد بيان اختصاص الطيّب بما ذكر. والضرورة تدفعه. فإن التراب المختلط بالأزبال أجود إخراجا للنبات. كذا في (الروضة الندية).
وأما الاستدلال بآية المائدة وظهور التبعيض في (من) فذاك إذا كان الضمير عائدا إلى الصعيد.
قال الناصر في (الانتصاف) : وثمة وجه آخر وهو عود الضمير على الحدث المدلول عليه بقوله وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى إلى آخرها فإن المفهوم منه: وإن كنتم على حدث في حال من هذه الأحوال: سفر أو مرض، أو مجيء من الغائط، أو ملامسة النساء فلم تجدوا ماء تتطهرون به من الحدث، فتيمموا منه. يقال: تيممت من الجنابة. قال: وموقع (من) على هذا مستعمل متداول. وهي على هذا الإعراب إما للتعليل أو الغاية. وكلاهما فيها متمكن. والله أعلم.
السادسة- أفاد قوله تعالى فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ أن الواجب في التيمم عن وضوء أو غسل هو مسح الوجه واليدين فقط. وهذا إجماع. إلا أن في اليدين مذاهب للأئمة. فمن قائل بأنهما يمسحان إلى المرفقين، لأن لفظ اليدين يصدق في إطلاقهما على ما يبلغ المنكبين وعلى ما يبلغ المرفقين. كما في آية الوضوء. وعلى ما يبلغ الكفين كما في آية السرقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما. وقالوا:
وحمل ما أطلق هاهنا، على ما قيد في آية الوضوء، أولى لجامع الطهورية.
وروى الشافعيّ عن إبراهيم بن محمد عن أبي الحويرث عن الأعرج عن ابن الصمة قال: مررت على النبي ﷺ وهو يبول. فسلمت عليه فلم يرد عليّ. حتى قام إلى الجدار فحتّه بعصا كانت معه. ثم وضع يده على الجدار فمسح وجهه وذراعيه.
ثم رد عليّ.
وهذا الحديث منقطع. لأن الأعرج، وهو عبد الرحمن بن هرمز، لم يسمع هذا من ابن الصمة. وإنما سمعه من عمير مولى ابن عباس عن ابن الصمة. وكذا هو مخرج في الصحيحين عن عمير مولى ابن عباس قال: دخلنا على أبي جهيم بن الحارث. فقال أبو جهيم: أقبل رسول الله ﷺ من نحو بئر جمل. فلقيه رجل فسلم عليه. فلم يردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، حتى أقبل على الجدار. فوضع يده على الحائط. فمسح بوجهه ويديه. ثم ردّ عليه السلام.

صفحة رقم 130

ولأبي داود «١» عن نافع قال: انطلقت مع ابن عمر في حاجة إلى ابن عباس.
فقضى ابن عمر حاجته. فكان من حديثه يومئذ أن قال: مر رجل على رسول الله ﷺ في سكة من السكك. وقد خرج من غائط أو بول. فسلم عليه فلم يرد عليه. حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى في السكة، ضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه. ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه. ثم رد على الرجل السلام. وقال: إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام، إلا أني لم أكن على طهر. وفي رواية: فمسح ذراعيه إلى المرفقين
. فهذا أجود ما في الباب. فإن البيهقيّ أشار إلى صحته. كذا في (لباب التأويل).
قال ابن كثير في حديث أبي داود ما نصه: ولكن في إسناده محمد بن ثابت العبديّ. وقد ضعفه بعض الحفاظ. ورواه غيره من الثقات فوقفوه على فعل ابن عمر.
قال البخاريّ، وأبو زرعة وابن عديّ: هو الصحيح.
وقال البيهقيّ: رفع هذا الحديث منكر.
قال ابن كثير: وذكر بعضهم ما رواه الدّارقطنيّ عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين.
ولكن لا يصح. لأن في إسناده ضعفا لا يثبت الحديث به. انتهى.
وذلك لأن فيه عليّ بن ظبيان. قال الحافظ ابن حجر: هو ضعيف، ضعفه القطان وابن معين وغير واحد. وبه يعلم أن ما استدل به على إيجاب الضربتين، مما ذكر، ففيه نظر. لأن طرقها جميعها لا تخلو من مقال. ولو صحت لكان الأخذ بها متعينا لما فيها من الزيادة.

فصل


ذهب الزهريّ إلى أنه يمسح اليدين إلى المنكبين. ويدل على ذلك ما روي عن عمار بن ياسر قال: تمسّحوا وهم مع رسول الله ﷺ بالصعيد لصلاة الفجر.
فضربوا بأكفهم الصعيد ثم مسحوا وجوههم مسحة واحدة. ثم عادوا فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى. فمسحوا بأيديهم كلها إلى المناكب والآباط من بطون أيديهم.
أخرجه أبو داود «٢».
(١) أخرجه أبو داود في: الطهارة، ١٢٢- باب التيمم في الحضر، حديث ٣٣٠.
(٢) أخرجه أبو داود: الطهارة، ١٢١- باب التيمم، حديث ٣١٨.

صفحة رقم 131

قال الحافظ في (الفتح) : وأما رواية الآباط فقال الشافعيّ وغيره: إن كان ذلك وقع بأمر النبيّ ﷺ فكل تيمم صح للنبيّ ﷺ بعده فهو ناسخ له. وإن كان وقع بغير أمره فالحجة فيما أمر به.

فصل


والحق الوقوف في صفة التيمم على ما ثبت في الصحيحين «١» من حديث عمار، من الاقتصار على ضربة واحدة للوجه والكفين.
قال عمار: أجنبت فلم أصب الماء. فتمعكت في الصعيد وصليت. فذكرت ذلك للنبيّ ﷺ فقال: إنما كان يكفيك هكذا. وضرب النبيّ ﷺ بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه
. متفق عليه.
وفي لفظ: إنما كان يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب ثم تنفخ فيهما ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين. رواه الدّارقطنيّ.
وروى الإمام أحمد وأبو داود «٢» عن عمار بن ياسر أن النبيّ ﷺ قال في التيمم ضربة للوجه واليدين.
وفي لفظ: إن النبيّ ﷺ أمره بالتيمم للوجه والكفين. رواه الترمذيّ «٣»
وصححه.
قال ابن عبد البر: أكثر الآثار المرفوعة عن عمار ضربة واحدة. وما روي عنه من ضربتين فكلها مضطربة. وأما الجواب عن المتفق عليه من حديث عمار بأن المراد منه بيان صورة الضرب، وليس المراد منه جميع ما يحصل به التيمم- فتكلف واضح، ومخالفة للظاهر.
وقد سرى هذا إلى العلامة السنديّ في (حواشي البخاريّ) حيث كتب على
(١)
أخرجه البخاريّ في: التيمم، ٤- باب المتيمم هل ينفخ فيهما؟ حديث ٢٣٣ ونصه: عن عبد الرحمن بن أبزى قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني أجنبت فلم أصب الماء. فقال عمّار ابن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر أنا كنا في سفر، أنا وأنت. فأما أنت فلم تصلّ. وأما أنا فتمعكت فصليت. فذكرت للنبيّ صلى الله عليه وسلم. فقال النبيّ ﷺ «إنما كان يكفيك هكذا» فضرب النبيّ ﷺ وأخرجه مسلم في: الحيض، حديث ١١٢.
(٢) أخرجه أبو داود في: الطهارة، ١٢١- باب التيمم، حديث ٣٢٧.
(٣) أخرجه الترمذيّ في: الطهارة، ١١٠- باب ما جاء في التيمم.

صفحة رقم 132

حديث عمار ما نصه: قد استدل المصنف (يعني البخاريّ) بهذا الحديث على عدم لزوم الذراعين في التيمم في موضع. وعلى عدم وجوب الضربة الثانية في موضع آخر، وكذا سيجيء في الروايات هذا الحديث أنه ﷺ قدم في هذه الواقعة الكفين على الوجه. فاستدل به القائل لعدم لزوم الترتيب. فلعل القائل بخلاف ذلك يقول: إن هذا الحديث ليس مسوقا لبيان عدد الضربات ولا لبيان تحديد اليد في التيمم ولا لبيان عدم لزوم الترتيب. بل ذلك أمر مفوض إلى أدلة خارجة، وإنما هو مسوق لرد ما زعمه عمار من أن الجنب يستوعب البدن كله، والقصر في قوله: (إنما كان يكفيك) معتبر بالنسبة إليه. كما هو القاعدة أن القصر يعتبر بالنظر إلى زعم المخاطب.
فالمعنى: إنما يكفيك استعمال الصعيد في عضوين: وهما الوجه واليد. وأشار إلى اليد ب (الكف). ولا حاجة إلى استعماله في تمام البدن. وعلى هذا يستدل على عدد الضربات وتحديد اليد ولزوم الترتيب أو عدمه بأدلة أخر. كحديث: التيمم ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المرفقين. وغير ذلك. فإنه صحيح كما نص عليه بعض الحفاظ. وهو مسوق لمعرفة عدد الضربات وتحديد اليد، فيقدم على غير المسوق لذلك. والله تعالى أعلم. انتهى كلامه.
وقوله: فإنه حديث صحيح، فيه ما تقدم.
وقد قال الإمام ابن القيم في (زاد العماد) في (فصل هديه ﷺ بالتيمم) ما نصه: كان ﷺ يتيمم بضربة واحدة للوجه والكفين. ولم يصح عنه أنه تيمم بضربتين ولا إلى المرفقين. قال الإمام أحمد: من قال: إن التيمم إلى المرفقين فإنما هو شيء زاده من عنده. وكذلك كان يتيمم بالأرض التي يصلي عليها. ترابا كانت أو سبخة أو رملا. وصح عنه أنه
قال: حيثما أدركت رجلا من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره
. وهذا نص صريح في أن من أدركته الصلاة في الرمل فالرمل له طهور. ولما سافر ﷺ هو وأصحابه في غزوة تبوك، قطعوا تلك الرمال في طريقهم، وماؤهم في غاية القلة. ولم يرو عنه أنه حمل معه التراب، ولا أمر به، ولا فعله أحد من أصحابه. مع القطع بأن في المفاوز، الرمال أكثر من التراب. وكذلك أرض الحجاز وغيره. ومن تدبر هذا قطع بأنه كان يتيمم بالرمل. والله أعلم. وهذا قول الجمهور.
وأما ما ذكر في صفة التيمم من وضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهور اليمنى، ثم إمرارها إلى المرفق، ثم إدارة بطن كفه على بطن الذراع، وإقامة إبهامه اليسرى كالمؤذن إلى أن يصل إلى إبهامه اليمنى، فيطبقها عليها- فهذا مما يعلم

صفحة رقم 133

قطعا أن النبيّ ﷺ لم يفعله. ولا علّمه أحدا من أصحابه. ولا أمر به ولا استحسنه.
وهذا هديه. إليه التحاكم. وكذلك لم يصح عنه التيمم لكل صلاة. ولا أمر به. بل أطلق وجعله قائما مقام الوضوء. وهذا يقتضي أن يكون حكمه حكمه، إلا فيما اقتضى الدليل خلافه. انتهى.
السابعة- ذكر هنا الحافظ ابن كثير سبب مشروعية التيمم قال: وإنما ذكرنا ذلك هاهنا، لأن هذه الآية التي في النساء متقدمة النزول على آية المائدة. وبيانه: أن هذه نزلت قبل تحريم الخمر. والخمر إنما حرم بعد أحد بيسير. في محاصرة النبيّ ﷺ لبني النضير. وأما المائدة فإنها من آخر ما نزل. ولا سيما صدرها. فناسب أن يذكر السبب هنا. وبالله الثقة.
قال الإمام أحمد «١» حدثنا ابن نمير حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة. أنها استعارت من أسماء قلادة. فهلكت. فبعث رسول الله ﷺ رجالا في طلبها.
فوجدوها. فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء. فصلوا بغير وضوء. فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله عز وجل التيمم. فقال أسيد بن الحضير، لعائشة: جزاك الله خيرا. فو الله! ما نزل بك أمر تكرهينه، إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيرا.
(طريق أخرى)
قال البخاريّ «٢» : حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أنبأنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه، عن عائشة زوج النبيّ ﷺ قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في بعض أسفاره: حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش، انقطع عقد لي. فأقام رسول الله ﷺ على التماسه. وأقام الناس معه. وليسوا على ماء.
وليس معهم ماء. فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟
أقامت برسول الله ﷺ وبالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر، ورسول الله ﷺ واضع رأسه على فخذي، قد نام. فقال: حبست رسول الله ﷺ والناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء؟ قالت عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول. فجعل يطعنني بيده في خاصرتي. فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رأس رسول الله ﷺ على فخذي. فقام رسول الله ﷺ حتى أصبح على غير ماء.
فأنزل الله آية التيمم. فتيمموا. فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر.

(١) أخرجه في المسند ٦/ ٥٧.
(٢) أخرجه البخاريّ في: التيمم، ١- باب قول الله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ، حديث ٢٣٠.

صفحة رقم 134

قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته.
وقد رواه البخاريّ «١» أيضا عن قتيبة بن سعيد عن مالك.
ورواه مسلم «٢» عن يحيى بن يحيى عن مالك.
انتهى كلام ابن كثير.
وأورد الواحديّ في (أسباب النزول) هذا الحديث عند ذكر آية النساء أيضا.
وقال ابن العربيّ: لا نعلم أي الآيتين عنت عائشة. قال ابن بطال: هي آية النساء أو آية المائدة. وقال القرطبيّ: هي آية النساء. ووجهه بأن آية المائدة تسمى آية الوضوء، وآية النساء لا ذكر فيها للوضوء، فيتجه تخصيصها بآية التيمم.
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : وخفي على الجميع ما ظهر للبخاريّ «٣» من أن المراد بها آية المائدة بغير تردد. لرواية عمرو بن الحارث. إذ صرح فيها بقوله:
فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الآية.
وقال الحافظ قبل: استدل به (أي بحديث عائشة) على أن الوضوء كان واجبا عليهم قبل نزول آية الوضوء. ولهذا استعظموا نزولهم على غير ماء. ووقع من أبي بكر في حق عائشة ما وقع. وقال ابن عبد البر: معلوم عند جميع أهل المغازي أنه ﷺ لم يصلّ منذ افترضت الصلاة عليه إلا بوضوء. ولا يدفع ذلك إلا جاهل أو معاند، قال:
وفي قوله في هذا الحديث (آية التيمم) إشارة إلى أن الذي طرأ عليهم من العلم حينئذ حكم التيمم لا حكم الوضوء، قال: والحكمة في نزول آية الوضوء مع تقدم العمل به، ليكون فرضه متلوّا بالتنزيل.
قال السيوطيّ في (لباب النقول) بعد تصويب هذا الكلام: فإن فرض الوضوء كان مع فرض الصلاة بمكة. والآية مدنية. انتهى.

(١) أخرجه في: فضائل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ٥- باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذا خليلا».
(٢) أخرجه مسلم في: الحيض، حديث ١٠٨.
(٣)
أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٥- سورة المائدة، ٣- باب قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً، حديث ٢٣٠، حدثنا يحيى بن سليمان ونصه: عن عائشة رضي الله عنها: سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة. فأناخ النبيّ ﷺ ونزل. فثنى رأسه في حجري راقدا. أقبل أبو بكر فلكزني لكزة شديدة وقال: حبست الناس في قلادة. فبي الموت لمكان رسول الله ﷺ وقد أوجعني. ثم إن النبيّ ﷺ استيقظ وحضرت الصبح، فالتمس الماء فلم يوجد. فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ... الآية. فقال أسيد بن حضير: لقد بارك الله للناس فيكم يا آل بكر، ما أنتم إلا بركة لهم.

صفحة رقم 135

وقال الحافظ ابن حجر أيضا في قول أسيد (ما هي بأول بركتكم) : يشعر بأن هذه القصة كانت بعد قصة الإفك. فيقوّي قول من ذهب إلى تعدد ضياع العقد.
وممن جزم بذلك محمد بن حبيب الأخباريّ فقال: سقط عقد عائشة في غزوة ذات الرقاع وفي غزوة بني المصطلق.
وقد روى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة قال: لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع... الحديث. فهذا يدل على تأخرها عن غزوة بني المصطلق. لأن إسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة، وهي بعدها بلا خلاف قال: وسيأتي في المغازي أن البخاريّ يرى أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد قدوم أبي موسى، وقدومه كان في وقت إسلام أبي هريرة. ومما يدل على تأخر القصة أيضا عن قصة الإفك، ما رواه الطبرانيّ من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة قالت: لما كان من أمر عقدي ما كان وقال أهل الإفك ما قالوا، خرجت مع رسول الله ﷺ في غزوة أخرى فسقط أيضا عقدي حتى حبس الناس على التماسه. فقال لي أبو بكر: يا بنية! في كل سفرة تكونين عناء وبلاء على الناس؟ فأنزل الله عز وجل الرخصة في التيمم. فقال أبو بكر: إنك لمباركة (ثلاثا). وفي إسناده محمد بن حميد الرازيّ وفيه مقال. وفي سياقه من الفوائد بيان عتاب أبي بكر الذي أبهم في حديث الباب، والتصريح بأن ضياع العقد كان مرتين في غزوتين. والله أعلم. انتهى كلام الحافظ.
وقال الإمام شمس الدين ابن القيّم في (زاد المعاد) في (غزوة المريسيع، وهي غزوة بني المصطلق) : إنها كانت في شعبان سنة خمس. وبعد ذكرها قال: قال ابن سعد: وفي هذه الغزوة سقط عقد لعائشة فاحتبسوا على طلبه، فنزلت آية التيمم. ثم ساق حديث الطبرانيّ المتقدم وقال: هذا يدل على أن قصة العقد التي نزل التيمم لأجلها بعد هذه الغزوة. وهو الظاهر. ولكن فيها كانت قصة الإفك بسبب فقد العقد والتماسه. فالتبس على بعضهم إحدى القصتين بالأخرى. انتهى.
وقد روي سبب نزول الآية المذكورة أيضا عن عمار بن ياسر رضي الله عنه «١» قال: إن رسول الله ﷺ عرّس بأولات الجيش ومعه عائشة فانقطع عقد لها من جزع ظفار فحبس الناس ابتغاء عقدها ذلك حتى أضاء الفجر وليس مع الناس ماء. فتغيظ عليها أبو بكر. وقال: حبست الناس وليس معهم ماء! فأنزل الله تعالى على رسوله ﷺ رخصة التطهّر بالصعيد الطيب. فقام المسلمون مع رسول الله ﷺ فضربوا

(١) أخرجه أبو داود في: الطهارة، ١٢١- باب التيمم، حديث ٣٢٠. [.....]

صفحة رقم 136
محاسن التأويل
عرض الكتاب
المؤلف
محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي
تحقيق
محمد باسل عيون السود
الناشر
دار الكتب العلميه - بيروت
سنة النشر
1418
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية