آيات من القرآن الكريم

وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ ۚ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ۚ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ۚ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ۚ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
ﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ

وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهُ، وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا» «١» وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَلَهُ أَلْفَاظٌ موضعها كتاب الأحكام.
وقوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ مَنْ حَمَلَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى نِكَاحِ الْمُتْعَةِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى، قَالَ: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا انْقَضَى الْأَجَلُ أَنْ تَرَاضَوْا عَلَى زِيَادَةٍ بِهِ، وَزِيَادَةٍ لِلْجُعْلِ «٢»، قَالَ السُّدِّيُّ: إِنْ شَاءَ أَرْضَاهَا مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ الْأُولَى، يَعْنِي الْأَجْرَ الَّذِي أَعْطَاهَا عَلَى تَمَتُّعِهِ بِهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: أَتَمَتَّعُ مِنْكِ أَيْضًا بِكَذَا وَكَذَا، فَازْدَادَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَ رحمها يوم تنقضي المدة، وهو قوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ. قَالَ السُّدِّيُّ: إِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ فَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهَا سَبِيلٌ، وَهِيَ مِنْهُ بَرِيئَةٌ وَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَبْرِئَ مَا فِي رَحِمِهَا، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مِيرَاثٌ، فَلَا يَرِثُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، ومن قال بهذا القول الْأَوَّلِ جَعَلَ مَعْنَاهُ كَقَوْلِهِ وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً [النِّسَاءِ: ٤]، أَيْ إِذَا فَرَضْتَ لَهَا صَدَاقًا فَأَبْرَأَتْكَ مِنْهُ أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ وَلَا عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ جرير «٣» : حدثنا محمد بن الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: زَعَمَ الْحَضْرَمِيُّ أَنَّ رِجَالًا كَانُوا يَفْرِضُونَ الْمَهْرَ، ثُمَّ عَسَى أَنْ يُدْرِكَ أَحَدُهُمُ الْعُسْرَةُ، فَقَالَ: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ. يَعْنِي إِنْ وَضَعَتْ لَكَ مِنْهُ شَيْئًا فَهُوَ لَكَ سَائِغٌ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ وَالتَّرَاضِي أَنْ يُوَفِّيَهَا صَدَاقَهَا ثُمَّ يُخَيِّرَهَا، يعني في المقام أو الفراق. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً مُنَاسِبُ ذِكْرِ هذين الوصفين بعد شرع هذه المحرمات.
[سورة النساء (٤) : آية ٢٥]
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥)
يقول تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَيْ سَعَةً وَقُدْرَةً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ أي الحرائر العفائف المؤمنات. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْجَبَّارِ عَنْ رَبِيعَةَ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ قال ربيعة: الطول الهوى، يعني ينكح الأمة

(١) صحيح مسلم (نكاح حديث ٢١).
(٢) الجعل: الأجر المتفق عليه.
(٣) تفسير الطبري ٤/ ١٦.

صفحة رقم 227

إذا كان هواه فيها، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، ثُمَّ أخذ يُشَنِّعُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَيَرُدُّهُ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ أَيْ فَتَزَوَّجُوا مِنَ الْإِمَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ اللَّاتِي يَمْلِكُهُنَّ الْمُؤْمِنُونَ، وَلِهَذَا قَالَ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: فَلْيَنْكِحْ مِنْ إِمَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ. ثُمَّ اعْتَرَضَ بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أَيْ هُوَ الْعَالِمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَسَرَائِرِهَا، وَإِنَّمَا لَكُمْ أيها الناس الظاهر من الأمور ثم فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ السَّيِّدَ هُوَ وَلِيُّ أَمَتِهِ لَا تُزَوَّجُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وكذلك هو ولي عبده ليس له أن يتزوج بغير إذنه، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذَنْ مَوَالِيهِ فَهُوَ عَاهِرٌ» أَيْ زَانٍ. فَإِنْ كَانَ مَالِكُ الْأَمَةِ امْرَأَةٌ زَوَّجَهَا مَنْ يُزَوِّجُ الْمَرْأَةَ بِإِذْنِهَا لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ وَلَا الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا، فَإِنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا» «١» وَقَوْلُهُ تعالى:
وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أَيْ وَادْفَعُوا مُهُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، أَيْ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْكُمْ، وَلَا تَبْخَسُوا مِنْهُ شَيْئًا اسْتِهَانَةً بِهِنَّ لِكَوْنِهِنَّ إِمَاءً مَمْلُوكَاتٍ، وقوله تعالى: مُحْصَناتٍ أَيْ عَفَائِفَ عَنِ الزِّنَا لَا يَتَعَاطَيْنَهُ، وَلِهَذَا قَالَ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَهُنَّ الزَّوَانِي اللَّاتِي لا يمنعن من أرادهن بالفاحشة- وقوله تعالى: وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُسَافِحَاتُ هن الزواني المعلنات، يَعْنِي الزَّوَانِي اللَّاتِي لَا يَمْنَعْنَ أَحَدًا أَرَادَهُنَّ بِالْفَاحِشَةِ. ومُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ يَعْنِي أَخِلَّاءَ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالضَّحَّاكِ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَالسُّدِّيِّ، قَالُوا: أَخِلَّاءَ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَعْنِي الصَّدِيقَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَيْضًا وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ ذات الخليل الواحد الْمُقِرَّةُ بِهِ، نَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. يَعْنِي تزويجها ما دامت كذلك.
وقوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي أُحْصِنَّ، فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الصَّادِ مَبْنِيٌّ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَقُرِئَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالصَّادِ فِعْلٌ لَازِمٌ، ثُمَّ قِيلَ: مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أحدهما: أن المراد بالإحصان هاهنا الإسلام، وروي ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَالْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ وَزِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَالسُّدِّيِّ، وَرَوَى نَحْوَهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الذي نص عليه الشافعي فِي رِوَايَةِ الرَّبِيعِ، قَالَ: وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ، اسْتِدْلَالًا بِالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا مَرْفُوعًا، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْجُنَيْدِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذا أُحْصِنَّ قَالَ «إِحْصَانُهَا إِسْلَامُهَا وَعَفَافُهَا» وَقَالَ: الْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا التَّزْوِيجُ. قَالَ: وَقَالَ

(١) سنن ابن ماجة (نكاح باب ١٥).

صفحة رقم 228

عَلِيٌّ: اجْلِدُوهُنَّ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَهُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ «١». (قُلْتُ) وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وفيه من لم يسم، ومثله لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ. وَقَالَ الْقَاسِمُ وَسَالِمٌ: إِحْصَانُهَا إِسْلَامُهَا وَعَفَافُهَا.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا التَّزْوِيجُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَطَاوُسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيرٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَنَقَلَهُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي كِتَابِهِ الْإِيضَاحُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، فِيمَا رَوَاهُ أَبُو الْحَكَمِ بْنُ عبد الحكم عنه. وَقَدْ رَوَى لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: إِحْصَانُ الْأَمَةِ أَنْ يَنْكِحَهَا الْحُرُّ، وَإِحْصَانُ الْعَبْدِ أَنْ يَنْكِحَ الْحُرَّةَ، وَكَذَا رَوَى ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَوَاهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ «٢» فِي تَفْسِيرِهِ. وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ. وَقِيلَ: مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ مُتَبَايِنٌ. فَمَنْ قَرَأَ: أُحْصِنَّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ فَمُرَادُهُ التزويج، ومن قرأ بفتحها فمراده الإسلام. اختاره أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «٣» فِي تَفْسِيرِهِ وَقَرَّرَهُ وَنَصَرَهُ، وَالْأَظْهَرُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَانِ هَاهُنَا التَّزْوِيجُ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ سِيَاقُهَا كُلُّهَا فِي الْفَتَيَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَإِذا أُحْصِنَّ أَيْ تَزَوَّجْنَ، كَمَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمِنْ تَبِعَهُ، وَعَلَى كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ إِشْكَالٌ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَمَةَ إِذَا زَنَتْ فَعَلَيْهَا خَمْسُونَ جِلْدَةً، سَوَاءٌ كَانَتْ مُسْلِمَةً أَوْ كَافِرَةً، مُزَوَّجَةً أَوْ بِكْرًا، مَعَ أن مفهوم الآية يقتضي أنه لاحد على غير المحصنة ممن زنى مِنَ الْإِمَاءِ. وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَجْوِبَتُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَالُوا: لَا شَكَّ أَنَّ الْمَنْطُوقَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَفْهُومِ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ عَامَّةٌ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْإِمَاءِ، فَقَدَّمْنَاهَا عَلَى مَفْهُومِ الْآيَةِ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمُ الْحَدَّ مَنْ أُحْصِنَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُحْصَنْ، فَإِنَّ أَمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَنَتْ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَهَا، فَإِذَا هِيَ حَدِيثَةُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ فَخَشِيتُ إِنْ جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك لنبي اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَحْسَنْتَ اتْرُكْهَا حَتَّى تَمَاثَلَ» «٤»، وَعِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ عَنْ غَيْرِ أَبِيهِ «فَإِذَا تَعَالَتْ «٥» مِنْ نَفْسِهَا حَدَّهَا خَمْسِينَ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ، وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّانِيَةَ، فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ، وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا ولو

(١) انظر الدر المنثور ٢/ ٢٥٤.
(٢) تفسير الطبري ٤/ ٢٦.
(٣) تفسير الطبري ٤/ ٢٦.
(٤) صحيح مسلم (حدود حديث ٣٤).
(٥) تعالت المرأة: طهرت.

صفحة رقم 229

بِحَبْلٍ مَنْ شَعْرٍ» «١» وَلِمُسْلِمٍ «إِذَا زَنَتْ ثَلَاثًا فليبعها في الرابعة»، وروى مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ قَالَ: أَمَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي فِتْيَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَجَلَدْنَا ولائد مِنْ وَلَائِدِ الْإِمَارَةِ خَمْسِينَ خَمْسِينَ فِي الزِّنَا.
الْجَوَابُ الثَّانِي: جَوَابُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْأَمَةَ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا تُضْرَبُ تَأْدِيبًا وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ طَاوُسٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَعُمْدَتُهُمْ مَفْهُومُ الْآيَةِ، وَهُوَ مِنْ مَفَاهِيمِ الشرط، وهو حجة عند أكثرهم فقدم عَلَى الْعُمُومِ عِنْدَهُمْ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم سئل عن الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ؟ قَالَ:
«إِنْ زَنَتْ فَحِدُّوهَا، ثُمَّ إِنَّ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ». قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لَا أدري أبعد الثالثة أو الرابعة وأخرجاه فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَعِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: الضفير الحبل.
قالوا: فلم يؤقت فيه عدد كما أقت في المحصنة، وكما وقت في القرآن بِنِصْفِ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ، فَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ بِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ- وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَيْسَ عَلَى أَمَةٍ حَدٌّ حَتَّى تُحْصَنَ- أَوْ حَتَّى تُزَوَّجَ- فَإِذَا أُحْصِنَتْ بِزَوْجٍ فَعَلَيْهَا نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ» وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِمْرَانَ الْعَابِدِيِّ عَنْ سُفْيَانَ بِهِ مَرْفُوعًا، وَقَالَ: رَفْعُهُ خَطَأٌ إِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَكَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِمْرَانَ وَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَهُ ابن خزيمة.
قالوا: وحديث علي وعمر قَضَايَا أَعْيَانٍ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ أَجْوِبَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ.
الثَّانِي: أَنَّ لفظة الحد في قوله «فليجلدها الحد» مقحمة مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ بِدَلِيلِ الْجَوَابِ الثَّالِثِ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا مِنْ حَدِيثِ صَحَابِيَّيْنِ وَذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَطْ، وَمَا كَانَ عَنِ اثنين فهو أولى بالتقديم مِنْ رِوَايَةِ وَاحِدٍ، وَأَيْضًا فَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا زَنَتِ الْأَمَةُ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِذَا زَنَتْ فَبِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ».
الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ أَطْلَقَ لفظة الْحَدِّ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْجَلْدِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْجَلْدُ اعْتَقَدَ أَنَّهُ حَدٌّ، أَوْ أَنَّهُ أَطْلَقَ لَفْظَةَ الْحَدِّ عَلَى التَّأْدِيبِ، كَمَا أَطْلَقَ الحد على ضرب من زنى

(١) صحيح البخاري (حدود باب ٣٦) وصحيح مسلم (حدود حديث ٣٠) وسنن أبي داود (حدود باب ٣٢) ومسند أحمد ٢/ ٢٤٩.

صفحة رقم 230

مِنَ الْمَرْضَى بِعُثْكَالِ نَخْلٍ فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ «١»، وَعَلَى جَلْدِ مَنْ زَنَى بِأَمَةِ امْرَأَتِهِ إِذَا أَذِنَتْ لَهُ فِيهَا مِائَةً، وَإِنَّمَا ذَلِكَ تَعْزِيرٌ وتأديب عند من يراه كأحمد وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ. وَإِنَّمَا الْحَدُّ الْحَقِيقِيُّ هُوَ جَلْدُ الْبِكْرِ مِائَةً. وَرَجْمُ الثَّيِّبِ أَوِ اللَّائِطِ، والله أعلم. وقد روى ابن ماجة وابن جَرِيرٍ «٢» فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ: لَا تُضْرَبُ الْأَمَةُ إِذَا زَنَتْ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَنْهُ، وَمَذْهَبٌ غريب إن أراد أنها لا تضرب الأمة أصلا لاحدا، وَكَأَنَّهُ أَخَذَ بِمَفْهُومِ الْآيَةِ وَلَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ، وإن أَرَادَ أَنَّهَا لَا تُضْرَبُ حَدًّا، وَلَا يَنْفِي ضربها تأديبا فهو كقول ابن عباس رضي الله عنه وَمَنْ تَبِعَهُ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ الْمُحْصَنَةَ تُحَدُّ نِصْفَ حَدِّ الْحُرَّةِ، فَأَمَّا قَبْلَ الْإِحْصَانِ فَعُمُومَاتُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ شَامِلَةٌ لَهَا فِي جَلْدِهَا مِائَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [النُّورِ: ٢] وَكَحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ «خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمُهَا بِالْحِجَارَةِ» وَالْحَدِيثُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «٣» وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيِّ وَهُوَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا كَانَ أَمَرَ بِجِلْدِ الْمُحْصَنَةِ مِنَ الْإِمَاءِ بِنِصْفِ مَا عَلَى الْحُرَّةِ مِنَ الْعَذَابِ، وَهُوَ خَمْسُونَ جَلْدَةً، فَكَيْفَ يَكُونُ حُكْمُهَا قَبْلَ الْإِحْصَانِ أَشَدَّ مِنْهُ بَعْدَ الْإِحْصَانِ وَقَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ فِي ذَلِكَ عَكْسُ مَا قَالَ؟ وَهَذَا الشَّارِعُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سأله أَصْحَابُهُ عَنِ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ، فَقَالَ: اجْلِدُوهَا، وَلَمْ يَقُلْ:
مِائَةً، فَلَوْ كَانَ حكمها كما زعم دَاوُدُ لَوَجَبَ بَيَانُ ذَلِكَ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا سَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ لِعَدَمِ بَيَانِ حُكْمِ جَلْدِ الْمِائَةِ بَعْدَ الْإِحْصَانِ فِي الْإِمَاءِ، وَإِلَّا فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِمْ: وَلَمْ تُحْصَنْ لِعَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا لَوْ لَمْ تَكُنِ الْآيَةُ نَزَلَتْ، لَكِنْ لَمَّا عَلِمُوا حُكْمَ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ سَأَلُوا عَنْ حكم الآخر فبينه لهم، كما فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوهُ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَذَكَرَهَا لَهُمْ، ثُمَّ قَالَ «وَالسَّلَامُ مَا قَدْ عَلِمْتُمْ» وَفِي لَفْظٍ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الْأَحْزَابِ: ٥٦] قَالُوا: هَذَا السَّلَامُ عَلَيْكَ قَدْ عَرَّفْنَاهُ، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَهَكَذَا هَذَا السُّؤَالُ.
الْجَوَابُ الرَّابِعُ: عَنْ مَفْهُومِ الآية جواب أبي ثور وهو أغرب من قول داود من وجوه، وذلك أَنَّهُ يَقُولُ: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنَّ عَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ الْمُزَوَّجَاتِ وَهُوَ الرَّجْمُ، وَهُوَ

(١) العثكال والعثكول: العذق عليه البسر، وهو من النخل كالعنقود من الكرم. والشمراخ: غصن دقيق ينبت في أعلى الغصن الغليظ. فالعثكال يتكون عادة من شماريخ عدة. [.....]
(٢) تفسير الطبري ٤/ ٢٦.
(٣) صحيح مسلم (حدود حديث ١٢).

صفحة رقم 231

لا ينصف فَيَجِبُ أَنْ تُرْجَمَ الْأَمَّةُ الْمُحَصَنَةُ إِذَا زَنَتْ، وَأَمَّا قَبْلَ الْإِحْصَانِ فَيَجِبُ جَلْدُهَا خَمْسِينَ، فَأَخْطَأَ فِي فَهْمِ الْآيَةِ، وَخَالَفَ الْجُمْهُورَ فِي الْحُكْمِ، بَلْ قَدْ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْمُسْلِمُونَ فِي أَنْ لَا رَجْمَ عَلَى مَمْلُوكٍ فِي الزِّنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْمُحْصَنَاتِ لِلْعَهْدِ، وَهُنَّ الْمُحْصَنَاتُ الْمَذْكُورَاتُ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُرَادُ بِهِنَّ الْحَرَائِرُ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِتَزْوِيجِ غَيْرِهِ، وَقَوْلِهِ: نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي يُمْكِنُ تَنْصِيفُهُ وَهُوَ الْجَلْدُ لَا الرجم، والله أعلم. وقد روى أحمد «١» نَصًّا فِي رَدِّ مَذْهَبِ أَبِي ثَوْرٍ مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ صيفة كَانَتْ قَدْ زَنَتْ بِرَجُلٍ مِنَ الْحُمْسِ «٢»، فَوَلَدَتْ غلاما، فادعاه الزاني، فاختصما إلى عثمان، فَرَفَعَهُمَا إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَقْضِي فِيهِمَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَجَلَدَهُمَا خَمْسِينَ خَمْسِينَ، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ مِنَ الْمَفْهُومِ التَّنْبِيهُ بِالْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى أَيْ أَنَّ الْإِمَاءَ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الْحَرَائِرِ فِي الْحَدِّ وَإِنْ كُنَّ مُحْصَنَاتٍ وَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ رَجْمٌ أَصْلًا لَا قَبْلَ النِّكَاحِ وَلَا بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِنَّ الْجَلْدُ فِي الْحَالَتَيْنِ بِالسُّنَّةِ، قَالَ ذَلِكَ صَاحِبُ الإفصاح، وذكر هذا عَنِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَنِ والآثار، وهو بعيد من لَفْظِ الْآيَةِ، لِأَنَّا إِنَّمَا اسْتَفَدْنَا تَنْصِيفَ الْحَدِّ مِنَ الْآيَةِ لَا مِنْ سِوَاهَا فَكَيْفَ يُفْهَمُ مِنْهَا التَّنْصِيفُ فِيمَا عَدَاهَا وَقَالَ: بَلْ أُرِيدُ بِأَنَّهَا فِي حَالِ الْإِحْصَانِ لَا يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَيْهَا إِلَّا الْإِمَامُ وَلَا يَجُوزُ لِسَيِّدِهَا إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مذهب أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَأَمَّا قَبْلَ الْإِحْصَانِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَالْحَدُّ فِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرَّةِ، وَهَذَا أَيْضًا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَوْلَا هَذِهِ لم ندر ما حكم الإماء فِي التَّنْصِيفِ، وَلَوَجَبَ دُخُولُهُنَّ فِي عُمُومِ الْآيَةِ فِي تَكْمِيلِ الْحَدِّ مِائَةً، أَوْ رَجْمُهُنَّ كَمَا ثبت فِي الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ عَلِيٍّ أنه قال: أيها الناس أقيموا الحد على أرقائكم مَنْ أُحْصِنَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُحْصَنْ، وَعُمُومُ الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَيْسَ فِيهَا تَفْصِيلٌ بَيْنَ الْمُزَوَّجَةِ وَغَيْرِهَا لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ الْجُمْهُورُ: «إِذَا زَنَتِ أَمَةُ أَحَدِكُمْ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ، وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا».
مُلَخَّصُ الْآيَةِ: أنها إذا زنت أقوال: أحدها تُجْلَدُ خَمْسِينَ قَبْلَ الْإِحْصَانِ وَبَعْدَهُ. وَهَلْ تُنْفَى؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهَا تُنْفَى عَنْهُ. والثاني لا تنفى عنه مطلقا والثالث أنها تنفى نصف سنة وهو نصف نفي الْحُرَّةِ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا أبو حنيفة فعنده أن

(١) مسند أحمد ١/ ١٠٤.
(٢) كذا في الأصول. وفي مسند «أن يحنّس وصفية كانا من سبي الخمس فزنت صفية برجل من الخمس» إلخ وهو الصواب.

صفحة رقم 232
تفسير القرآن العظيم
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي
تحقيق
محمد حسين شمس الدين
الناشر
دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون - بيروت
الطبعة
الأولى - 1419 ه
عدد الأجزاء
1
التصنيف
كتب التفسير
اللغة
العربية