آيات من القرآن الكريم

وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ

(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ... (١٨)
* * *
بعد أن بين سبحانه الذين أخذ العهد أن يقبل توبتهم، وهم الذين قد كانت حالهم ما ذكره سبحانه، بين حال الذين لَا تقبل توبتهم، فقال تعالت كلماته: (وَلَيْسَتِ التَوْبَةُ) هنا نفي لوقوع التوبة؛ لأن حقيقة التوبة كما بينا تقتضي أن يكون العبد في فسحة من الوقت تمكنه من معاودة الخير، فمن يقول عند حضور الموت: (إِنِّي تُبْت الآنَ) ليس بتائب.
وإذا لم تتحقق منه التوبة فإنه لَا يستحق من الله تعالى القبول؛ إذ لَا موضوع له.

صفحة رقم 1614

ومن هم أولئك الذين لَا توجد منهم التوبة، حتى لَا يتصور قبولها؛ ذكر الله فريقين: فريق العصاة من المسلمين، وفريق الذين يموتون وهم كفار، أما فريق العصاة من المسلمين فقد ذكر لهم وصفين أو أمرين: أحدهما - أنهم يعملون السيئات، أي تتعدد أنواع السوء، وتكثر وتشيع في النفوس، حتى يَرْبَدَّ القلب بها وَيَسْوَدَّ، وهم الذين قال الله تعالى في أمثالهم: (بَلَى مَن كَسَبَ سيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، فالفرق بين هؤلاء ومن سبقوا أن الأولين ارتكبوا في غفوة من الضمير، ولم يمت. وأما هؤلاء فقد مات وجدانهم الديني، كأولئك الذين نراهم سادرين في الفساد وقد استهانوا بكل المحرمات الدينية والتكليفات الربانية. والوصف الثاني أنهم لَا ينطقون بالتوبة في وقت الاختيار، بل ينطقون بها في وقت الاضطرار؛ ولذا قال سبحانه: (حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ).
أي أنهم يستمرون في غيهم يعمهون، لَا يستيقظ لهم ضمير، ولا يقلعون عن معصية، حتى إذا أزفت الآزفة، وحضر الموت، ولم يكن مناص من أخذهم، قال قائلهم: إني تبت الآن، ولم يقل سبحانه عن حالهم إنهم تابوا، بل حكى قول أحد: (إِنِّي تُبْتُ الآنَ) مما يدل على أنهم لم تقع منه توبة قط، وقوله لا يعد توبة في حقيقته، وإن سماه هو توبة.
وقد ذكر سبحانه من عصاة المسلمين فريقين:
أحدهما: الفريق الذي يتوب من قريب وقد ارتكب السوء بجهالة، وقد وعد سبحانه بأنه يقبل التوبة منه، وتفضل سبحانه فجعل القبول حقا عليه، وهو فوق عباده.
والفريق الثاني: أولئك الذين استمروا في غيهم حتى أدركهم الموت. وبقي ثالث لم يذكره سبحانه، وهو الذي لم يتب من قريب، ولكنه تاب قبل أن يحضره الموت، فما شأن هذا الفريق الثاك؛ قال مفسرو السلف إنه يعدُّ قد تاب من قريب، وإن تأخر في الزمان بالنسبة لأجله، ما دام قد تاب قبل أن يحضره

صفحة رقم 1615

الموت، وكان في فسحة من الوقت، وقد رووا في ذلك آثارا عن النبي - ﷺ -، منها ما روي عن عبد الله بن عمرو أن النبي - ﷺ - قال: " ما من عبد يتوب قبل الموت بشهر إلا قبل الله منه " (١). فمقياس القرب هو ألا تكون التوبة وقت حضور الموت، ووقته علمه بأنها دنت، أما إذا كانت التوبة وهو صحيح يرجو الحياة، فإنها مقبولة، وأجل الإنسان كله قرِيب. وقد بين سبحانه بعد ذلك الذين لَا تقبل توبتهم من غير المسلمين فقال: (ولا الَّذِينَ يَمُوتونَ وَهُمْ كُفَّارٌ).
أي أن الله تعالى لَا يعتبر توبة الكفار عن ذنوبهم توبة لأنهم لم يؤمنوا، فأساس الطاعات الإيمان. وإن تابوا قبل أن يموتوا وهم في فسحة من الوقت، فإن توبتهم غير مقبولة، وإنما تكون مقبولة إذا آمنوا ولم تكن من قبيل قول فرعون عند الغرق: (... آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ).
(أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) أي أولئك الذين لم يتوبوا، هيأنا لهم عذابا مؤلما وجيعا، وهذا يشمل عصاة المؤمنين، والذين ماتوا وهم كفار، غير أن الكفار خالدون في النار، وأما عصاة المؤمنين فبمقدار ذنوبهم.. اللهم نجنا من عذاب النار واقبل توبتنا، (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ...).
* * *
________
(١) عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، يَقُولُ: «مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ عَامًا تِيبَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ تِيبَ عَلَيْهِ»، حَتَّى قَالَ: «يَوْمًا»، حَتَّى قَالَ: «سَاعَةً»، حَتَّى قَالَ: «فُوَاقًا»، قَالَ: قَالَ الرَّجُلُ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ مُشْرِكًا أَسْلَمَ؟ قَالَ: إِنَّمَا أُحَدِّثُكُمْ كَمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ. [رواه أحمد: مسند المكثرين (٦٨٨١)].

صفحة رقم 1616

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (٢١)
* * *
الكلام في الأسرة، وإن حماية الأسرة تكون بحماية ضعفائها، ومن لا يستطيع الذود عن نفسه، ولذلك تكلم القرآن الكريم في شأن اليتامى، ثم في شأن النساء. وقد تكلم سبحانه في الميراث وتقسيمه العادل، وفي هذه الآيات التالية يشير سبحانه إلى نوع من الميراث ظالم، كان من عادات بعض أهل الجاهلية، لم يكن موضوع الميراث فيه مالا، ولا حقا يقبل التوريث، بل كان موضوع الميراث في زعمهم حق امرأة المتوفى في نفسها، فقد زعموا أن من يموت زوجها، لا تكون مالكة لأمر نفسها بموته بل يكون أمر زواجها بيد أوليائه الذين يرثون ماله، فإنهم يرثون مع ماله الولاية على زوجه، فلا تتزوج إلا بإذنهم أو تزويجهم، ولذا قال سبحانه:

صفحة رقم 1617
زهرة التفاسير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد المعروف بأبي زهرة
الناشر
دار الفكر العربي
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية