
البينات «فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ملكا
وعبيدا وفيهما من غيركم من يؤمن به ويصدق ما جاء به وهو غني عنكم «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً» بمن يهديه ويؤمن به ويصدق رسوله «حَكِيماً» (١٧٠) بمن يضله ويعميه عن رؤية الحق وسلوك سبيله
ولما قالت طائفتا اليعقوبية والملكاتية من النصارى أن عيسى هو الله وقالت النسطورية هو ابن الله، وقالت المرقوسية ثالث ثلاثة، وقالت فرقة أخرى هو جوهر واحد عبارة عن ثلاثة أقانيم الآب والابن وروح القدس. واعلم أن الأقنوم كلمة رومية معناها هو أن الإله في زعمهم مركب من ثلاثة أصول، ويريدون باقنوم الأب الذات، وأقنوم الابن عيسى، وأقنوم روح القدس الحياة الحالة فيه وإن له عليه السلام طبعتين ناسوتية من قبيل أمه نسبة للناس ولا هويته من قبل أبيه نسبة للإله، تعالى الله عن ذلك، والذي دسّ هذا في دين النصارى رجل يهودي اسمه بولص تنصّر وألف الإنجيل ونسبه كله إلى سيدنا عيسى بقصد إضلال النصارى عن دينهم الحق قبل البعثة المحمدية. ولهذا البحث صلة ضافية في الآية ٧٢ من سورة المائدة والآية ٣١ من سورة التوبة الآتيتين فراجعهما تجد فيهما ما ينشرح صدرك إن شاء الله، فأنزل الله ردا لهذه الأقوال الواهية قوله «يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ» وتتجاوزوا حده فتدخلوا فيه ما ليس منه، وبالعكس فتحطوه عن منزلته وتنقصوا قدره بنسبة ما ليس منه إليه افتراء على الله وبهتا على رسوله، واحذروا أن تتبعوا أهواء أنفسكم فيه «وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ» الذي أنزله إليكم وهو «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ» ليس بإله ولا بابن للاله ولا ثالث ثلاثة ولا أقنوما «وَكَلِمَتُهُ» التي هي لفظ كن بشرا من مريم بغير أب ولا واسطة، وهذه الكلمة هي التي «أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ» بواسطة أمينه جبريل عليه السلام «وَرُوحٌ مِنْهُ» كسائر الأرواح المخلوقة بخلقه، وإنما أضافه لنفسه الكريم تكريما له وتشريفا لشأنه كما يقال بيت الله وناقة الله، لأن الله خلق جميع الأرواح وجعلها في صلب آدم وأمسك روح عيسى عنده ثم أرسلها عند إرادته خلقه وابرازه هاديا لعباده مع جبريل فنفخها في جيب درع مريم العذراء الطاهرة الزكية، فحملت به وولدته

كما تلد النساء بشرا سويا كريما شريفا زكيا، كما مر في الآية ١٦ فما بعدها من سورة مريم في ج ١ والآية ٤٦ فما بعدها من آل عمران المارة، وروحه روح طاهرة مقدسة عالية، روى البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان له من العمل. ثم دعا خلقه لما به فلاحهم ونجاحهم فأمرهم بقوله «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ» كلهم ولا تفرقوا بين أحد منهم «وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ» كما يقوله بعض النصارى «انْتَهُوا» أيها النصارى كلكم نهيا قطعيا بتا عن هذه المقالة يكون «خَيْراً لَكُمْ» لأنها كلمة كفر وشرك منزه عنها جلال الله «إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ» فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكافئه أحد، ليس بأقانيم ثلاثة ولا حلّت ذاته في أحد من خلقه، تعالت ذاته وتقدست وتنزهت عن ذلك «سُبْحانَهُ» وهو المبرأ من «أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ» أو يكون والدا لأحد «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» يتصرف فيهما ومن فيهما كيف يشاء، ومن كان كذلك لا يعقل أن تكون له زوجة أو يكون له ولد أو معاون أو شريك، فهو المنفرد في ملكه وخلقه الوكيل عليهم وحده «وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» (١٧١) في تدبير خلقه وملكه ويحتاج إليه كل خلقه ناميه وجامده، وهو غني عنهم. واعلموا أيها الناس أنهَ نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ»
بل يتشرف بعبوديته كسائر إخوانه الأنبياء. نزلت هذه الآية حينما قالت النصارى يا محمد إنك تعيب صاحبنا فنقول عبد الله وهو يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص ويمشي على الماء وله خوارق يعجز عنها البشر! يريدون أن من كان من خلق الله وقد شرفه بتلك المعجزات وخصه بتلك الكرامات عار عليه اسم العبودية. كلا أيها النصارى ليست بعار، وإنما هي شرف له، وهو نفسه لا يأنف منها ولا يتعظم على ربه لا هو ولا غيره، َ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ»
مثل جبريل واسرافيل وميكائيل وعزرائيل وحملة العرش والكروبيين وغيرهم، فكلهم يتشرفون بصفة العبودية له جل
جلاله. هذا ولا دليل في هذه الآية لمن يقول

بتفضيل الملائكة على البشر أجمع، لأن الله تعالى ترقى بكلامه العظيم البالغ من جنس البشر إلى جنس الملائكة، ولم يقل هذا رفعا لمقام الملائكة على البشر، بل هو ردّ على من يقول إن الملائكة بنات الله، أو أنهم آلهة، كما ردّ على النصارى قولهم أن المسيح بن الله، وهو رد أيضا على النصارى لأنهم يقولون بتفضيل الملائكة والمراد في هذه الآية هو أنه كما أن المسيح عبد الله فالملائكة عبيده أيضا، ويتشرفون بنسبة عبوديتهم لعزتهَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ»
يا ويله من يوم الحساب يوم يبعثهمَ سَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً»
(١٧٢) ويجازيهم في ذلك اليوم الذي لا يملكون لأنفسهم فيه نفعا، ويعذبهم بالحسرة والغم عند ما يرون ما يناله عباده المطيعون الخاضعون. وفي هذه الآية من التهديد والوعيد ما لا يخفى، ألا فليحذر المخالفون. قال تعالى «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» زيادة لا يقدر قدرها غيره «وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا» عن عبادته «فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً» لا تطيقه أجسادهم ولا تتصوره عقولهم ولا يخطر كنهه على بالهم ولا يقيهم منه شيء بدا «وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» (١٧٣) يتولاهم أو يدفع عنهم شيئا من عقابهم. قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ» هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ليبرهن على وحدانيتنا وإبطال الشرك والتثليث ونفي الولد والصاحبة بآيات مبينات تشرح قلب المؤمن بالتصديق وتبهر المنكر بالإعجاز بما أعطيناه من المعجزات الباهرات، ولهذا سماه الله برهانا لأن البرهان دليل على إقامة الحق وإبطال الباطل وهو كذلك، لأن الله جعله حجة قاطعة لإعذار جميع الخلق «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ» أيها الناس مع ذلك البرهان الجليل «نُوراً مُبِيناً» (١٧٤) قرآنا ظاهرا تبينت فيه الأحكام كما تتبين الأشياء بالنور، وقد سماه نورا لأن المتحير يستضيء به فيزيل حيرته، ولأنه سبب لوقوع نور الإيمان بالقلب الذي هو أعظم الأنوار وأكرم مضغة في الجسد وهو منبع الهداية ومعدن الرشد. قال تعالى «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ» عن كل خلقه فعبدوه وحده «فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ

مِنْهُ وَفَضْلٍ»
لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر شيء عظيم من رب عظيم «وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً» (١٧٥) يسددهم إلى سلوك منهج النعم عليهم ويرشدهم لدينه الذي ارتضاه لهم. قال تعالى «يَسْتَفْتُونَكَ» يا سيد الرسل في نوع آخر في الميراث، وهنا حذف المستفتى عنه اغتناء بالجواب المنبئ عنه المبين بقوله عز قوله يا سيد الرسل «قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ» تقدم معناها في الآية ١١ المارة وقد بينها الله بقوله «إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ» ولا والد ولا حفيد ولا جد «وَلَهُ أُخْتٌ» من أبيه أو شقيقته «فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ» فرضا والنصف الآخر يكون لها ردا عند أبي حنيفة لعدم وجود عصبة لها، وهو كذلك عند عامة أهل العراق، وعند الشافعي يكون لبيت المال، وإذا كان معها بنت كان النصف الآخر للبنت فرضا والنصف العائد لها تأخذه بطريق التعصيب، لأن الأخوات يكنّ مع البنات عصبة، ويسمى هذا التعصب عصبة بغيره، أما الإخوة فهم عصبة بأنفسهم «وَهُوَ» أي الهالك لو هلكت أخته قبله «يَرِثُها» فيأخذ كل مالها «إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ» والأخ الشقيق أو الأب سواء، أما الأخ لأم فقد تقدم حكمه في الآية ١٢ المارة وهو بأنه يأخذ السدس إذا كان واحدا، والثلث إذا كانوا أكثر ذكورهم وأناثهم سواء فيه. أما الأخ الشقيق أو لأب فإنه يأخذ كل المال في مثل هذه المسألة، أما الأخ أو الإخوة لأم فما يفضل عن سهامهم يعود لبيت المال إذا لم يكن للميت عصبة أو أرحام غيرهم، وإن كان للهالكة ولد فإنه يأخذ جميع المال وحده في مسألة كهذه، وكذلك إذا كان لها أب فقط فيأخذ المال كله. «فَإِنْ كانَتَا» الأخوات «اثْنَتَيْنِ» فأكثر وكانتا لأب أو لأبوين «فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ» أخوهما والباقي لعصبته إذا كان هناك عصبة من عم أو ابنه أو ابن أخ، وإلّا فيأخذان الباقي بطريق الردّ «وَإِنْ كانُوا» أي الوارثون «إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ» من الميراث حظ «مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» كما تقدم في الآية ١٠ المارة «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ» أيها الناس هذه الأحكام لتعملوا بها خشية «أَنْ تَضِلُّوا» طريق الصواب ومخافة أن تزيغوا
عن هذه الأحكام فتكونوا

ضلالا لا تعرفون حقكم من حق غيركم فتأكلوه حراما أو تضيعوه حلالا. فتعلموا هذا وأتقنوه واعملوا به «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (١٧٦) واتقوا الله ويعلمكم واسترشدوه واجعلوا سركم كعلانيتكم، فإن علمه محيط بكم لا يخفى عليه شيء من أمركم روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال مرضت فأتاني رسول الله ﷺ وأبو بكر يعودانني ماشيين فأغمي عليّ فتوضأ النبي ﷺ ثم صبّ علي من وضوئه.
فأفقت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت يا رسول الله كيف أصنع في مالي كيف أقضي في مالي؟ فلم يرد علي شيئا حتى نزلت هذه الآية. وفي رواية قلت يا رسول الله إنما يرثني كلالة، فنزلت. وفي رواية الترمذي كان لي تسع أخوات فنزلت.
ولأبي ذرّ قال اشتكيت وعندي سبع أخوات فدخل النبي صلّى الله عليه وسلم فنفخ في وجهي فأفقت، فقلت يا رسول الله ألا أوصي لأخواتي بالثلثين؟ قال أحسن، قلت بالشطر؟
قال أحسن: ثم خرج وتركني، فقال يا جابر لا أراك ميتا من وجعك هذا، وإن الله قد أنزل فبين الذي لأخواتك، فجعل لهن الثلثين. وقد مر أن الوصية بالثلث كثير راجع الآية ١٨ المارة والآية ١٨٢ من سورة البقرة المارة. قال فكان جابر يقول في أنزلت هذه الآية وهنا معجزة لحضرة الرسول، لأن جابر المذكور لم يمت في مرضه ذلك كما أخبره ﷺ وهو في حالة غلب على ظنّه الوفاة فيها، ولذلك سأل حضرة الرسول عما يوصي به لأخواته. هذا والله أعلم، واستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه أجمعين، صلاة وسلاما دائمين إلى يوم الدين.