
وَالظَّاهِرُ أَنَّ اللَّهَ يَقْذِفُ فِي نُفُوسِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ الشَّكَّ فِي صِحَّةِ الصَّلْبِ، فَلَا يَزَالُ الشَّكُّ يُخَالِجُ قُلُوبَهُمْ وَيَقْوَى حَتَّى يَبْلُغَ مَبْلَغَ الْعِلْمِ بِعَدَمِ صِحَّةِ الصَّلْبِ فِي آخِرِ أَعْمَارِهِمْ تَصْدِيقًا لِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ كَذَّبَ أَخْبَارَهُمْ فَنَفَى الصَّلْبَ عَنْ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ مَوْتِهِ عَائِدٌ إِلَى عِيسَى، أَيْ قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، فَفَرَّعَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا تَفَارِيعَ: مِنْهَا أَنَّ مَوْتَهُ لَا يَقَعُ إِلَّا آخِرَ الدُّنْيَا لِيَتِمَّ إِيمَانُ جَمِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِهِ قَبْلَ وُقُوعِ الْمَوْتِ، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ إِيمَانَهُمْ مُسْتَقْبَلًا وَجَعَلَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ مُسْتَقْبَلًا وَمِنْهَا مَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَنْزِلُ فِي آخِرِ مُدَّةِ الدُّنْيَا لِيُؤْمِنَ بِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ
، وَلَا يَخْفَى أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يُبْطِلُ هَذَا التَّفْسِيرَ: لِأَنَّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ- عَلَى حَسَبِ هَذَا التَّأْوِيلِ- هُمُ الَّذِينَ سَيُوجَدُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا جَمِيعُهُمْ.
وَالشَّهِيدُ: الشَّاهِدُ يَشْهَدُ بِأَنَّهُ بَلَّغَ لَهُمْ دَعْوَةَ رَبِّهِمْ فَأَعْرَضُوا، وَبِأَنَّ النَّصَارَى بَدَّلُوا،
وَمَعْنَى الْآيَةِ مُفَصَّلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ الْآيَاتِ فِي سُورَة الْعُقُود [١٠٩].
[١٦٠- ١٦٢]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٦٠ إِلَى ١٦٢]
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً

(١٦٢)
إِنْ كَانَ مُتَعَلَّقَ قَوْلِهِ: فَبِما نَقْضِهِمْ [النِّسَاء: ١٥٥] مَحْذُوفًا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ كَانَ قَوْلُهُ: فَبِظُلْمٍ مُفَرَّعًا عَلَى مَجْمُوعِ جَرَائِمِهِمُ السَّالِفَةِ. فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِظُلْمِهِمْ ظُلْمًا آخَرَ غَيْرَ مَا عُدِّدَ مِنْ قَبْلُ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: فَبِما نَقْضِهِمْ [النِّسَاء: ١٥٥] مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ فَقَوْلُهُ: فَبِظُلْمٍ الْخَ بَدَلٌ مُطَابِقٌ مِنْ جُمْلَةِ فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ [النِّسَاء: ١٥٥] بِإِعَادَةِ الْعَامِلِ فِي الْبَدَلِ مِنْهُ لِطُولِ الْفَصْلِ. وَفَائِدَةُ الْإِتْيَانِ بِهِ أَنْ يَظْهَرَ تَعَلُّقُهُ بِقَوْلِهِ: حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ إِذْ بَعُدَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُتَعَلِّقِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ [النِّسَاء: ١٥٥] لِيَقْوَى ارْتِبَاطُ الْكَلَامِ. وَأُتِيَ فِي جُمْلَةِ الْبَدَلِ بِلَفْظٍ جَامِعٍ لِلْمُبْدَلِ مِنْهُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ: لِأَنَّ نَقْضَ الْمِيثَاقِ، وَالْكُفْرَ، وَقَتْلَ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَوْلَهُمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ، وَقَوْلَهُمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا، وَقَوْلَهُمْ قَتَلْنَا عِيسَى: كُلُّ ذَلِكَ ظُلْمٌ. فَكَانَتِ الْجُمْلَةُ الْأَخِيرَةُ بِمَنْزِلَةِ الْفَذْلَكَةِ لِمَا تَقَدَّمَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَبِذَلِكَ كُلِّهِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ، لَكِنْ عَدَلَ إِلَى لَفْظِ الظُّلْمِ لِأَنَّهُ أَحْسَنُ تَفَنُّنًا، وَأَكْثَرُ فَائِدَةً مِنَ الْإِتْيَانِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ. وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ ذَلِكَ قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِما نَقْضِهِمْ [النِّسَاء: ١٥٥]. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظُلْمًا آخَرَ أَجْمَلَهُ الْقُرْآنُ.
وَتَنْكِيرُ (ظُلْمٍ) لِلتَّعْظِيمِ، وَالْعُدُولِ عَنْ أَنْ يَقُولَ «فَبِظُلْمِهِمْ»، حَتَّى تَأْتِيَ الضَّمَائِرُ مُتَتَابِعَةً مِنْ قَوْلِهِ: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ إِلَى آخِرِهِ، إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ وَهُوَ الَّذِينَ هادُوا لِأَجْلِ بُعْدِ الضَّمِيرِ فِي الْجُمْلَةِ الْمُبْدَلِ مِنْهَا: وَهِيَ فَبِما نَقْضِهِمْ [النِّسَاء: ١٥٥].
وَلِأَنَّ فِي الْمَوْصُولِ وَصْلَتِهِ مَا يَقْتَضِي التَّنَزُّهَ عَنِ الظُّلْمِ لَوْ كَانُوا كَمَا وَصَفُوا أَنْفُسَهُمْ، فَقَالُوا: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الْأَعْرَاف: ١٥٦] فَصُدُورُ الظُّلْمِ عَنِ الَّذِينَ هَادُوا مَحَلُّ اسْتِغْرَابٍ.
وَالْآيَةُ اقْتَضَتْ: أَنَّ تَحْرِيمَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا كَانَ عِقَابًا لَهُمْ، وَأَنَّ تِلْكَ الْمُحَرَّمَاتِ لَيْسَ فِيهَا مِنَ الْمَفَاسِد مَا يتقضي تَحْرِيمَ تَنَاوُلِهَا، وَإِلَّا لَحُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوَّلِ مَجِيءِ
الشَّرِيعَةِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الطَّيِّبَاتِ هُوَ مَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما- إِلَى قَوْلِهِ- ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٤٦]، فَهَذَا هُوَ الْجَزَاءُ عَلَى ظُلْمِهِمْ.

نَقَلَ الْفَخْرُ فِي آيَةِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ أَنَّهُ قَالَ: «نَفْسُ التَّحْرِيمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً عَلَى جُرْمٍ صَدَرَ مِنْهُمْ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ تَعْرِيضٌ لِلثَّوَابِ، وَالتَّعْرِيضَ لِلثَّوَابِ إِحْسَانٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ جَزَاءً عَلَى الْجُرْمِ. قَالَ الْفَخْرُ: وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الِانْتِفَاعِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِقَصْدِ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلْجُرْمِ».
وَهَذَا الْجَوَابُ مُصَادَرَةٌ عَلَى أَنَّ مِمَّا يُقَوِّي الْإِشْكَالَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ حَقُّهَا أَنْ تُخَصَّ بِالْمُجْرِمِينَ ثُمَّ تُنْسَخَ. فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي الْجَوَابِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبُ تَحْرِيمِ تِلْكَ الطَّيِّبَاتِ أَنَّ مَا سَرَى فِي طِبَاعِهِمْ بِسَبَبِ بَغْيِهِمْ وَظُلْمِهِمْ مِنَ الْقَسَاوَةِ صَارَ ذَلِكَ طَبْعًا فِي أَمْزِجَتِهِمْ فَاقْتَضَى أَنْ يُلَطِّفَ اللَّهُ طِبَاعَهُمْ بِتَحْرِيمِ مَأْكُولَاتٍ مِنْ طَبْعِهَا تَغْلِيظُ الطِّبَاعِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا جَاءَهُمْ عِيسَى أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ بَعْضَ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ لِزَوَالِ مُوجِبِ التَّحْرِيمِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ عِقَابًا لِلَّذِينِ ظَلَمُوا وَبَغَوْا ثُمَّ بَقِيَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ جَاءَ بِعْدَهُمْ لِيَكُونَ لَهُمْ ذِكْرَى وَيَكُونَ لِلْأَوَّلِينَ سُوءُ ذِكْرٍ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الْأَنْفَال: ٢٥]،
وَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا»
. ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ. وَإِمَّا لِأَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ عُقُوبَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ رَاجِعَةٌ إِلَى الْحِرْمَانِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَلَا نَظَرَ إِلَى مَا يَعْرِضُ لِهَذَا التَّحْرِيمِ تَارَةً مِنَ الثَّوَابِ عَلَى نِيَّةِ الِامْتِثَالِ لِلنَّهْيِ، لِنُدْرَةِ حُصُولِ هَذِهِ النِّيَّةِ فِي التَّرْكِ.
وَصَدُّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: إِنْ كَانَ مَصْدَرَ صَدَّ الْقَاصِرُ الَّذِي مُضَارِعُهُ يَصِدُّ- بِكَسْرِ الصَّادِ- فَالْمَعْنَى بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ مَصْدَرَ الْمُتَعَدِّي الَّذِي قِيَاسُ مُضَارِعِهِ- بِضَمِّ الصَّادِ-، فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ التَّقْوَى، وَيَقُولُونَ: سَيُغْفَرُ لَنَا، مِنْ زَمَنِ مُوسَى قَبْلَ أَنْ يُحَرَّمَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ الطَّيِّبَاتِ. أَمَّا بَعْدَ مُوسَى فَقَدْ صَدُّوا النَّاسَ كَثِيرًا، وَعَانَدُوا الْأَنْبِيَاءَ، وَحَاوَلُوهُمْ عَلَى كَتْمِ الْمَوَاعِظِ، وَكَذَّبُوا عِيسَى، وَعَارَضُوا دَعْوَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَوَّلُوا لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، جَهْرًا أَوْ نِفَاقًا، الْبَقَاءَ عَلَى الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي

قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النِّسَاء: ٥١] الْآيَاتِ.
وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِ كَثِيراً حَالًا مِنْهُ.
وَأَخْذُهُمُ الرِّبَا الَّذِي نُهُوا عَنْهُ هُوَ أَنْ يَأْخُذُوهُ مَنْ قَوْمِهِمْ خَاصَّةً وَيَسُوغُ لَهُمْ أَخْذُهُ مِنْ
غَيْرِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ ٢٣ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ «لَا تُقْرِضْ أَخَاكَ بربا رَبًّا قضّة أَوْ رِبَا طَعَامٍ أَوْ رِبَا شَيْءٍ مَا مِمَّا يُقْرَضُ بِرِبًا. لِلْأَجْنَبِيِّ تُقْرِضُ بِرِبًا». وَالرِّبَا مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ بِنَصِّ التَّوْرَاةِ فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ فِي الْإِصْحَاحِ ٢٢ «إِنْ أَقْرَضْتَ فِضَّةً لِشَعْبِي الْفَقِيرِ الَّذِي عِنْدَكَ فَلَا تَكُنْ لَهُ كَالْمُرَابِي لَا تَضَعُوا عَلَيْهِ رِبًا» وَأَكْلُهُمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ أَعَمُّ مِنَ الرِّبَا فَيَشْمَلُ الرَّشْوَةَ الْمُحَرَّمَةَ عِنْدَهُمْ، وَأَخْذَهُمُ الْفِدَاءَ عَلَى الْأَسْرَى مِنْ قَوْمِهِمْ، وَغَيْرَ ذَلِكَ.
وَالِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ إِلَخ ناشيء عَلَى مَا يُوهِمُهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ ابْتِدَاءً من قَوْله: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ [النِّسَاء: ١٥٣] مِنْ تَوَغُّلِهِمْ فِي الضَّلَالَةِ حَتَّى لَا يُرْجَى لِأَحَدٍ مِنْهُمْ خَيْرٌ وَصَلَاحٌ، فَاسْتُدْرِكَ بِأَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ لَيْسُوا كَمَا تُوُهِّمَ، فَهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَمُخَيْرِيقٍ.
وَالرَّاسِخُ حَقِيقَتُهُ الثَّابِتُ الْقَدَمِ فِي الْمَشْيِ، لَا يَتَزَلْزَلُ وَاسْتُعِيرَ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الْوَصْفِ مِثْلُ الْعِلْمِ بِحَيْثُ لَا تَغُرُّهُ الشَّبَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٧]. وَالرَّاسِخُ فِي الْعِلْمِ بَعِيدٌ عَنِ التَّكَلُّفِ وَعَنِ التَّعَنُّتِ، فَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَقِّ حَاجِبٌ، فَهُمْ يَعْرِفُونَ دَلَائِلَ صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا يَسْأَلُونَهُمْ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ.
وَعَطْفُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى الرَّاسِخُونَ ثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا نَبِيَّهُمْ أَنْ يُرِيَهُمُ الْآيَاتِ الْخَوَارِقَ لِلْعَادَةِ. فَلِذَلِكَ قَالَ يُؤْمِنُونَ، أَيْ جَمِيعُهُمْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، أَيِ الْقُرْآنِ، وَكَفَاهُمْ بِهِ آيَةً، وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ عَلَى الرُّسُلِ، وَلَا يُعَادُونَ رُسُلَ اللَّهِ تَعَصُّبًا وَحَمِيَّةً.

وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ لِلْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَكُونُوا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ، مِثْلَ الْيَهُودِيِّ الَّذِي كَانَ يَخْدِمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنَ بِهِ.
وَعَطْفُ الْمُقِيمِينَ بِالنَّصْبِ ثَبَتَ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ، وَقَرَأَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي الأقطار دون نَكِير فَعَلِمْنَا أَنَّهُ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ فِي عَطْفِ الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى صِفَاتٍ مَحَامِدَ، عَلَى أَمْثَالِهَا، فَيَجُوزُ فِي بَعْضِ الْمُعْطُوفَاتِ النَّصْبُ عَلَى التَّخْصِيصِ بِالْمَدْحِ، وَالرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ لِلِاهْتِمَامِ، كَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِي النُّعُوتِ الْمُتَتَابِعَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِدُونِ عَطْفٍ أَمْ بِعَطْفٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ- إِلَى قَوْله- وَالصَّابِرِينَ [الْبَقَرَة: ١٧٧]. قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي «كِتَابِهِ» «بَابُ مَا يَنْتَصِبُ فِي التَّعْظِيمِ وَالْمَدْحِ وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ صِفَةً فَجَرَى عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ شِئْتَ قَطَعْتَهُ فَابْتَدَأْتَهُ». وَذَكَرَ مِنْ قَبِيلِ مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: «فَلَوْ
كَانَ كُلُّهُ رَفْعًا كَانَ جَيِّدًا»، وَمِثْلُهُ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ [الْبَقَرَة: ١٧٧]، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْخِرْنَقِ:
لَا يبعدن قومِي الَّذِي هُمُو | سُمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةُ الْجُزُرِ |
النَّازِلُونَ بِكُلِّ مُعْتَرَكٍ | وَالطَّيِّبِينَ مَعَاقِدَ الْأُزُرِ |
والصَّابِئُونَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [٦٩].
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَأَبَانٍ بْنِ عُثْمَانَ أَنَّ نَصْبَ الْمُقِيمِينَ خَطَأٌ، مِنْ كَاتِبِ الْمُصْحَفِ وَقَدْ عَدَّتْ مِنَ الْخَطَأِ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ- إِلَى قَوْلِهِ- وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ [الْبَقَرَة: ١٧٧] وَقَوْلِهِ: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [طه: ٦٣]. وَقَوله: الصَّابِئُونَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [٦٩]. وَقَرَأَتْهَا عَائِشَةُ، وَعَبْدُ اللَّهُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَالْحَسَنُ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ:
وَالْمُقِيمُونَ- بِالرَّفْعِ-. وَلَا تُرَدُّ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا بِقِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ. صفحة رقم 29