
وتصديق من صدقه، وبراءته من ادعاء النصارى أنه ابن الله، وإقراره بأنه عبد الله ورسوله، ودعوته إلى عبادة الله تعالى ربه وربهم، ومراقبته لهم أثناء حياته، واعتذاره عن انحرافهم بعد وفاته.
عاقبة ظلم اليهود وأخذهم الربا وثواب المؤمنين منهم
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٦٠ الى ١٦٢]
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢)
الإعراب:
وَبِصَدِّهِمْ.. كَثِيراً كَثِيراً: منصوب لأنه صفة مصدر محذوف وتقديره: صدا كثيرا. وَالْمُقِيمِينَ يجوز فيه النصب والجر، أما النصب فهو على المدح بتقدير أعني وأمدح. وأما الجر فيجوز من ثلاثة أوجه: أن يكون معطوفا على بِما وتقديره: يؤمنون بما أنزل إليك وبالمقيمين الصلاة من الأنبياء، أو أن يكون معطوفا على الكاف في إِلَيْكَ وتقديره: بما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة، أو أن يكون معطوفا على كاف قَبْلِكَ وتقديره: من قبلك وقبل المقيمين الصلاة من أمتك. والعطف على الكاف في إِلَيْكَ وقَبْلِكَ على رأي الكوفيين ولا يجوز ذلك عند البصريين.
وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ مرفوع من خمسة أوجه: إما مبتدأ وخبره: أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ، وإما

خبر مبتدأ محذوف وتقديره: وهم المؤتون، وإما معطوف على ضمير الْمُقِيمِينَ وإما معطوف على ضمير يُؤْمِنُونَ وإما معطوف على قوله: الرَّاسِخُونَ.
البلاغة:
الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ استعارة، استعار الرسوخ للثبوت في العلم والتمكن فيه أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً فيه التفات من الغيبة إذ الأصل: سيؤتيهم، إلى الخطاب، وتنكير الأجر للتفخيم.
المفردات اللغوية:
فَبِظُلْمٍ أي فبسبب ظلم هادُوا هم اليهود الذين تابوا بعد عبادة العجل حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ هي التي في قوله تعالى: حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ.. [الأنعام ٦/ ١٤٦] الآية وَبِصَدِّهِمْ أي منعهم الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ دينه كَثِيراً صدا كثيرا. وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ في التوراة وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ بالرشاوى في القضاء أَلِيماً مؤلما الرَّاسِخُونَ الثابتون في العلم المتقنون له وَالْمُؤْمِنُونَ المهاجرون والأنصار أَجْراً عَظِيماً هو الجنة.
المناسبة:
الآيات استمرار في الكلام عن اليهود، فبعد أن عدد الله تعالى قبائحهم وأفعالهم التي أدت إلى غضب الله، ذكر تعالى هنا نوع العقاب الذي عاقبهم الله به في الدنيا وهو تحريم بعض الطيبات، وفي الآخرة وهو العذاب المؤلم. أما المؤمنون الصالحون منهم فلهم الأجر العظيم وهو الجنة.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى أنه بسبب ظلم اليهود بما ارتكبوا من الذنوب العظيمة، حرم عليهم طيبات كان أحلها لهم لعلهم يرجعون، كما قال تعالى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ

[آل عمران ٣/ ٩٣]، والمراد أن جميع الأطعمة كانت حلالا لهم من قبل أن تنزل التوراة، ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من لحوم الإبل وألبانها.
ثم إنه تعالى حرّم أشياء كثيرة في التوراة، كما قال: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا، أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ، ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ [الأنعام ٦/ ١٤٦] أي إنما حرمنا عليهم ذلك لأنهم يستحقون التحريم بسبب بغيهم وطغيانهم ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه، ولذا قال: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا أي فبسبب ظلمهم، وصدهم الناس وصد أنفسهم عن اتباع الحق، وأمرهم بالمنكر، ونهيهم عن المعروف، وكتمانهم البشارة بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهذه سجية لهم اتصفوا بها من قديم الدهر وحديثه، ولهذا كانوا أعداء الرسل، وقتلوا خلقا من الأنبياء، وكذبوا عيسى ومحمدا عليهما السلام.
وبسبب أخذهم الربا الذي نهاهم الله عنه على ألسنة أنبيائهم، فإنهم احتالوا عليه بأنواع الحيل، وأكلوا أموال الناس بالباطل بالرشوة والخيانة ونحوهما من غير مقابل، كما قال تعالى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ، أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة ٥/ ٤٢] والسحت: الكسب الحرام.
وكان جزاؤهم الأخروي إعداد عذاب مؤلم لهم في نار جهنم ولكل كافر أمثالهم.
ويلاحظ أن تحريم الطيبات كان عاما، أما العذاب الأخروي فكان للمصرّين منهم على الكفر، الذين ماتوا عليه كافرين، لذا استدرك سبحانه فقال فيما معناه: أما الراسخون في العلم النافع الثابتون فيه المطلعون على حقائق الدين، الذين يؤمنون إيمانا صادقا بالله وبما أنزل إليك، وما أنزل على من قبلك من الرسل كموسى وعيسى، ولا يفرقون بين أحد منهم، والمؤمنون إيمانا حقيقيا

بالله واليوم الآخر أي بالبعث بعد الموت والجزاء على الأعمال، والمؤدون زكاة أموالهم للمستحقين، والمطيعون أوامر ربهم، وأخص منهم مقيمي الصلاة الذين يؤدونها على أتم وجه، مستوفية أركانها وشروطها. وتخصيص المدح لإقامة الصلاة لأنها تستدعي إيتاء الزكاة، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وتزكي النفس، وتهوّن على النفس إيتاء المال لمستحقه، كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج ٧٠/ ١٩- ٢٢].
هؤلاء الموصوفون بما تقدم، سيؤتيهم ربهم أجرا عظيما هو الجنة، لا يدرك حقيقته إلا الله.
روى ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أن الآية لكِنِ الرَّاسِخُونَ.. أنزلت في عبد الله بن سلام، وأسيد بن سعية، وثعلبة بن سعية، وأسد بن عبيد حين فارقوا يهود وأسلموا، أي دخلوا في الإسلام وصدقوا بما أرسل الله به محمدا صلّى الله عليه وسلّم.
فقه الحياة أو الأحكام:
ذكر سبحانه وتعالى أسباب استحقاق اليهود العذاب الأليم في نار جهنم وتحريم بعض الطيبات في عالم الدنيا: وهي الظلم، وقدّم على التحريم إذ هو الذي قصد الإخبار عنه بأنه سبب التحريم، وصد أنفسهم وغيرهم عن اتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأكل الربا وأكل أموال الناس بالباطل، وهذا كله تفسير للظلم الذي تعاطوه، وكذلك ما قبله من نقضهم الميثاق وعبادة العجل وغير ذلك مما ذكر.
وهذا يؤيد مذهب الجمهور غير الحنفية القائلين بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، قال ابن العربي «١» : لا خلاف في مذهب مالك في أن الكفار مخاطبون

(بمعنى أنهم مطالبون بأن يؤمنوا، وأن يؤدوا الفرائض الشرعية بعد الإيمان) وقد بيّن الله تعالى في هذه الآية أنهم نهوا عن الربا وأكل المال بالباطل، فإن كان ذلك خبرا عما نزل على محمد في القرآن، وأنهم دخلوا في الخطاب، فبها ونعمت، وإن كان ذلك خبرا عما أنزل الله عز وجل على موسى في التوراة، وأنهم بدّلوا وحرّفوا وعصوا وخالفوا، فهل تجوز لنا معاملتهم، والقوم قد أفسدوا أموالهم في دينهم، أم لا؟.
فظنت طائفة أن معاملتهم لا تجوز، وذلك لما في أموالهم من هذا الفساد.
والصحيح جواز معاملتهم مع رباهم، واقتحامهم ما حرّم الله سبحانه عليهم، فقد قام الدليل القاطع على ذلك قرآنا وسنة، قال الله تعالى: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ [المائدة ٥/ ٥] وهذا نص في مخاطبتهم بفروع الشريعة، وقد عامل النبي صلّى الله عليه وسلّم اليهود، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير أخذه لعياله.
ثم استثنى مؤمني أهل الكتاب لأن اليهود أنكروا وقالوا: إن هذه الأشياء كانت حراما في الأصل وأنت تحلّها، ولم تكن حرّمت بظلمنا، فنزل: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ والراسخ: هو المبالغ في علم الكتاب الثابت فيه.
هؤلاء المؤمنون من الكتابيين مثل عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ونظراؤهما والمؤمنون من المهاجرين والأنصار أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومقيمو الصلاة، ومؤدو الزكاة، سيعطيهم الله ثوابا عظيما لا يقدر وصفه إلا الله وهو الجنة.
وأشارت الآيات إلى أن أنواع الذنوب محصورة في نوعين: الظلم للخلق، والإعراض عن الدين الحق، أما ظلم الخلق فإليه الإشارة بقوله: فَبِظُلْمٍ مِنَ