آيات من القرآن الكريم

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا
ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ

قتلوه نظروا إلى جسده فوجدوه غير جسد عيسى فقالوا: الوجه وجه عيسى والجسد جسد غيره فهذا هو اختلافهم فيه وقيل: إن اليهود لما حبسوا عيسى وأصحابه في البيت دخل عليه رجل منهم ليخرجه إليهم. فألقى الله شبه عيسى على ذلك الرجل فأخذ وقتل ورفع الله عز وجل عيسى إلى السماء وفقدوا صاحبهم فقالوا: إن كنا قتلنا المسيح فأين صاحبنا؟ وإن كنا قتلنا صاحبنا فأين المسيح عيسى؟ فهذا هو اختلافهم فيه وقيل إن الذين اختلفوا فيه هم النصارى فبعضهم يقول إن القتل وقع على ناسوت عيسى دون لاهوته وبعضهم يقول وقع القتل عليهما جميعا وبعضهم يقول رأيناه قتل وبعضهم يقول رأيناه رفع إلى السماء فهذا هو اختلافهم فيه قال الله تعالى: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ يعني أنهم قتلوا من قتلوا على شك منهم فيه ولم يعرفوا حقيقة ذلك المقتول هل هو عيسى أو غيره إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ يعني لكن يتبعون الظن في قتله ظنا منهم أنه عيسى لا عن علم وحقيقة وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً قال ابن عباس: يعني لم يقتلوا ظنهم يقينا فعلى هذا القول تكون الهاء في قتلوه عائدة على الظن. والمعنى مما قتلوا ذلك الظن يقينا ولم يزل ظنهم ولم يرتفع ما وقع لهم من الشبه في قتله فهو كقول العرب قتله علما وقتله يقينا يعني علمه علما تاما. وأصل ذلك أن القتل للشيء يكون
عن قهر واستيلاء وغلبة وكمعنى الآية على هذا لم يكن علمهم بقتل عيسى علما تاما كاملا إنما كان ظنا منهم إنهم قتلوه ولم يكن لذلك حقيقة. وقيل إن الهاء في قتلوه عائدة على عيسى والمعنى ما قتلوا المسيح يقينا كما ادعوا أنهم قتلوه وقيل إن قوله يقينا يرجع إلى ما بعده تقديره وما قتلوه بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ يقينا والمعنى أنهم لم يقتلوا عيسى ولم يصلبوه ولكن الله عز وجل رفعه إليه وطهره من الذين كفروا وخلصه ممن أراده بسوء وقد تقدم كيف كان رفعه في سورة آل عمران بما فيه كفاية. وقوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً يعني في اقتداره على من يشاء من عباده حَكِيماً يعني في إنجاء عيسى عليه السلام وتخليصه من اليهود. وقيل عزيزا يعني منيعا منتقما من اليهود فسلط عليهم ينطيونس بن اسبسيانوس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة حكيما حكم باللعنة والغضب على اليهود حيث ادعوا هذه الدعوى الكاذبة. قوله تعالى:
[سورة النساء (٤): الآيات ١٥٩ الى ١٦٠]
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (١٦٠)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني وما من أحد من أهل الكتاب إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ يعني بعيسى عليه السلام وأنه عبد الله ورسوله وروحه وكلمته هذا قول ابن عباس وأكثر المفسرين وقال عكرمة في قوله إلّا ليؤمنن به يعني بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وهذا القول لا وجه له لأنه لم يجر للنبي صلّى الله عليه وسلّم ذكر قبل هذه الآية حتى يرجع الضمير إليه وقول الأكثرين الأولى لأنه تقدم ذكر عيسى عليه السلام فكان عود الضمير إليه أولى قَبْلَ مَوْتِهِ اختلف المفسرون في هذا الضمير إلى من يرجع؟ فقال ابن عباس وأكثر المفسرين إن الضمير يرجع إلى الكتابي والمعنى وما من أحد من أهل الكتاب إلّا آمن بعيسى قبل موت ذلك الكتابي ولكن يكون ذلك الإيمان عند الحشرجة حين لا ينفعه إيمانه قال ابن عباس: معناه إذا وقع في اليأس حين لا ينفعه إيمانه سواء احترق أو تردى من شاهق أو سقط عليه جدار أو أكله سبع أو مات فجأة فقيل له أرأيت إن خر من فوق بيت قال: يتكلم به في الهواء فقيل له أرأيت إن ضربت عنقه قال يتلجلج به لسانه وقال شهر بن حوشب إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة بأجنحتها وجهه ودبره وقالوا يا عدو الله أتاك موسى نبيا فكذبت به فيقول آمنت إنه عبد الله ورسوله وتقول للنصراني أتاك عيسى نبيا فزعمت أنه الله وابن الله فيقول آمنت أنه عبد الله فأهل الكتابين يؤمنون به ولكن حيث لا ينفعهم ذلك الإيمان وذهب جماعة من أهل التفسير إلى أن الضمير يرجع إلى عيسى عليه السلام وهو رواية عن ابن عباس أيضا والمعنى وما من أحد من أهل الكتاب إلّا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى وذلك عند نزوله من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحد من أهل الكتابين إلّا آمن بعيسى حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام قال عطاء إذا

صفحة رقم 445

نزل عيسى إلى الأرض لا يبقى يهودي ولا نصراني ولا أحد يعبد غير الله إلّا آمن بعيسى وأنه عبد الله وكلمته ويدل على صحة هذا القول ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد» زاد في رواية: «حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها» ثم يقول أبو هريرة: «اقرءوا إن شئتم وإن من أهل الكتاب إلّا ليؤمنن به قبل موته» الآية وفي رواية قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والله لينزلن فيكم ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية وليتركن القلاص فلا يسعى عليها وليذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد» أخرجاه في الصحيحين. ففي هذا الحديث دليل على أن عيسى ينزل في آخر الزمان في هذه الأمة ويحكم بشريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم وأنه لا ينزل نبيا برسالة مستقلة وشريعة ناسخة بل يكون حاكما من حكام هذه الأمة وإماما من أئمتهم لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيكسر الصليب يعني يكسره حقيقة ويبطل ما تزعمه النصارى من تعظيمه. وكذلك قتله الخنزير وقوله ويضع الجزية يعني لا يقبلها ممن بدلها من اليهود والنصارى. ولا يقبل من أحد إلّا الإسلام أو القتل وعلى هذا قد يقال هذا خلاف منا هو حكم الشرع اليوم فإن الكتابي إذا بذل الجزية وجب قبولها منه ولم يجز قتله ولا إجباره على الإسلام والجواب أن هذا الحكم ليس مستمر إلى يوم القيامة بل هو مقيد بما قبل نزول عيسى عليه السلام وقد أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بنسخه وليس الناسخ هو عيسى عليه السلام يحكم بشريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم فدل على أن الامتناع من قبول الجزية في ذلك الوقت هو شرع نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم والله أعلم. قال الزجاج هذا القول بعيد يعني قول من قال إن إيمان أهل الكتاب بعيسى إنما يكون عند نزوله في آخر الزمان قال لعموم قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قال والذين يبقون يومئذ يعني عند نزوله شرذمة قليلة منهم وأجاب
أصحاب هذا القول يعني الذين يقولون إن إيمان أهل الكتاب بعيسى إنما يكون عند نزوله في آخر الزمان بأن هذا على العموم. ولكن المراد بهذا العموم الذين يشاهدون ذلك الوقت ويدركون نزوله فيؤمنون به ويكون معنى الآية وما من أحد، من أهل الكتاب أدرك ذلك الوقت إلّا آمن بعيسى عند نزوله من السماء وصحح الطبري هذا القول وقال عكرمة في معنى الآية وإن من أهل الكتاب إلّا ليؤمنن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم قبل موت الكتابي فلا يموت يهودي ولا نصراني حتى يؤمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وذلك عند الحشرجة حتى لا ينفعه إيمانه.
وقوله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً يعني يكون عيسى عليه السلام شاهدا على اليهود أنهم كذبوه وطعنوا فيه وعلى النصارى أنهم اتخذوه ربا وأشركوا به ويشهد على تصديق من صدقه منهم وآمن به قال قتادة معناه إنه يكون شهيدا يوم القيامة إنه قد بلغ رسالة ربه وأقر على نفسه بالعبودية.
قوله عز وجل: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا يعني فبسبب ظلم منهم حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ يعني ما حرمنا عليهم الطيبات التي كانت حلالا لهم إلّا بظلم عظيم ارتكبوه وذلك الظلم هو ما ذكره من نقضهم الميثاق وما عدد عليهم من أنواع الكفر والكبائر العظيمة مثل قولهم اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وكقولهم أرنا الله جهرة وكعبادتهم العجل فبسبب هذه الأمور حرم الله عليهم طيبات كانت حلالا لهم وهي ما ذكره في سورة الأنعام في قوله: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ الآية وقال الطبري: في معنى الآية فحرمنا على اليهود الذين نقضوا ميثاقهم الذي واثقوا ربهم به وكفروا بآيات الله، وقالوا أنبيائهم وقالوا البهتان على مريم وفعلوا ما وصفهم الله به في كتابه طيبات من المآكل وغيرها التي كانت لهم حلالا عقوبة لهم بظلمهم الذي أخبر الله عنهم في كتابه.
وروي عن قتادة قال عوقب القوم بظلم ظلموه وبغي بغوة وحرمت عليهم أشياء ببغيهم وظلمهم. ونقل الواحدي وابن الجوزي عن مقاتل قال كان الله حرم على أهل التوراة أن يأكلوا الربا ونهاهم أن يأكلوا أموال الناس ظلما فأكلوا الربا وأكلوا أموال الناس ظلما بالباطل وصدوا عن دين الله وعن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فحرم الله عليهم عقوبة

صفحة رقم 446
لباب التأويل في معاني التنزيل
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الحسن علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم بن عمر الشيحي
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية