وجزاء الكفر ما صرحت به الآية: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً أي أعتدنا وهيأنا لجميع أصناف الكفار عذابا مذلّا.
أما المسلمون وهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأمته، الذين صدقوا بوجود الله ووحدانيته، وآمنوا بجميع الرّسل، فلم يفرّقوا بين أحد منهم، فسوف يؤتيهم الله ثواب أعمالهم، والله غفور للعصاة منهم، رحيم بالعباد فلا يعجل لهم العذاب، وإنما يترك لهم فرصة للتوبة والإنابة، ويهديهم بالقرآن والرّسل والعقل والحواس والتّجارب المتكرّرة والأحداث التي توقظ مشاعر الإيمان، يهديهم صراطا مستقيما.
مواقف اليهود المتعنتة
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٥٣ الى ١٥٩]
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩)
الإعراب:
جَهْرَةً نعت لمصدر محذوف أي رؤية جهرة. لا تَعْدُوا فيه ثلاث قراءات:
لا تعدوا: بسكون العين مع تخفيف الدّال، وبسكون العين مع تشديد الدّال، وبفتح العين مع تشديد الدّال. والقراءة الثانية ضعيفة في القياس، لما أدت إليه من الاجتماع بين الساكنين على غير حدّه.
فَبِما نَقْضِهِمْ ما: زائدة للتوكيد، وهو رأي الأكثرين، والباء للسببية متعلقة بمحذوف أي لعنّاهم بسبب نقضهم.
بُهْتاناً منصوب بالمصدر على حدّ قولهم: قلت شعرا وخطبة، لأن القول يعمل فيما كان من جنسه. عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عيسى: منصوب على البدل. وفي نصب ابن مريم وجهان: إما على الوصف أو على البدل. إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ منصوب، لأنه استثناء منقطع من غير الجنس أي لكن، ويجوز رفعه على البدل من محل إعراب من عِلْمٍ ومحله الرفع، لأن تقديره: ما لهم به علم، مثل:
ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الأعراف ٧/ ٥٩ ومواضع أخرى] وتقديره: ما لكم إله غيره.
يَقِيناً إما منصوب على الحال من واو قَتَلُوهُ أي متيقنين، أو على الحال من هاء قَتَلُوهُ أي ما قتلوه متيقنا بل مشكوكا فيه، أو لأنه صفة مصدر محذوف وتقديره: وما قتلوه قتلا متيقنا. والهاء في قتلوه يجوز أن تكون لعيسى كما في قوله: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ ويجوز أن تكون الهاء للعلم، والمعنى: وما قتلوه علمهم به يقينا. وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إن هنا للنفي، ومعناه: وما من أهل الكتاب أحد إلّا ليؤمنن به أي بعيسى. وأما هاء قَبْلَ مَوْتِهِ ففيه وجهان: أن يكون المراد به كل واحد من الكفار من أهل الكتاب وغيرهم لظهور الحقيقة له عند موته، أو تكون الهاء لعيسى لأنه ينزل في آخر الزمان إلى الأرض، فيؤمن به من كان مكذبا له من اليهود وغيرهم، وهذا الوجه مخالف لظاهر الآية، والوجه الأول أصح.
البلاغة:
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وصفوه بالرسالة على سبيل التهكم والاستهزاء لأنهم لا يؤمنون برسالته.
فَبِما نَقْضِهِمْ زيادة الحرف للتأكيد، أي فبنقضهم.
وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ مجاز مرسل حيث أطلق الكل وأريد البعض. وكذلك في قوله:
وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ مجاز مرسل لأنهم كفروا بالقرآن والإنجيل دون غيرهما قُلُوبُنا غُلْفٌ استعارة، استعار الغلاف لعدم الفهم.
وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ مجاز مرسل حيث أطلق الكل وأريد البعض.
المفردات اللغوية:
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أي اليهود إنزال كتاب جملة واحدة من السماء، كما أنزل على موسى تعنتا. فَقَدْ سَأَلُوا أي آباؤهم. جَهْرَةً أي رؤية جهرة عيانا. الصَّاعِقَةُ النار النازلة من السماء التي أدت بهم إلى الموت عقابا على التعنت في السؤال والظلم. الْبَيِّناتُ المعجزات الدّالة على وحدانية الله، والدلائل الواضحة على نبوّة موسى كفلق البحر واليد البيضاء والعصا. فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ ولم نستأصلهم. وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً تسلّطا بيّنا ظاهرا عليهم، حيث أمرهم بقتل أنفسهم توبة، فأطاعوه.
الطُّورَ الجبل الذي كانوا مقيمين أسفله، رفعه فوقهم ليخافوا فيقبلوا الميثاق.
بِمِيثاقِهِمْ بسبب أخذ الميثاق عليهم، فلا ينقضوه. ادْخُلُوا الْبابَ باب القرية.
سُجَّداً سجود انحناء، أي خاضعين متذللين. لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ لا تتجاوزوا ما أبيح لكم ولا تنتهكوا حرمة السبت باحتيال اصطياد الحيتان فيه.
غُلْفٌ جمع غلاف، أي مغطاة بأغطية تجعلها لا تعي ما تقول.
طَبَعَ ختم عليها بالخاتم بسبب كفرهم، فلا تعي وعظا. فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه. بُهْتاناً كذبا مفترى يبهت صاحبه ويدهشه، حيث رموا السيدة مريم بالزنى. إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أي في زعمهم، فبمجموع ذلك عذبناهم.
سبب النزول:
أخرج ابن جرير الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال: جاء ناس من
اليهود إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إن موسى جاءنا بالألواح من عند الله، فأتنا بالألواح حتى نصدقك، فأنزل الله: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ إلى قوله:
بُهْتاناً عَظِيماً فجثى رجل من اليهود فقال: ما أنزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئا، فأنزل الله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.
وروي أن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازوراء وغيرهما قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن كنت نبيّا صادقا، فأتنا بكتاب من السماء جملة، كما أتى به موسى، فنزلت.
وقال ابن جريج: سألوه أن ينزل عليهم صحفا من الله مكتوبة إلى فلان وفلان وفلان بتصديقه فيما جاءهم به.
ومن المعلوم عند المفسّرين أن اليهود سألت محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يصعد إلى السماء، وهم يرونه، فينزل عليهم كتابا مكتوبا فيما يدّعيه على صدقه دفعة واحدة، كما أتى موسى بالتوراة تعنّتا له صلّى الله عليه وسلّم، فأعلم الله عزّ وجلّ أن آباءهم قد عنتوا موسى عليه السّلام بأكبر وأعظم من هذا، فقالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً أي عيانا.
وهذا إنما قالوه على سبيل التّعنّت والعناد والكفر والإلحاد، كما سأل كفار قريش قبلهم نظير ذلك، كما هو مذكور في سورة الإسراء: وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [١٧/ ٩٠].
المناسبة:
الآيات مرتبطة بما قبلها، فموضوعها أهل الكتاب، وكانت الآيات السابقة تبيانا لكفرهم إذ قالوا: نؤمن ببعض الرّسل ونكفر ببعض، وهذه الآيات تدلّ على تعنّتهم وتصلّبهم ومطالبتهم بأشياء على سبيل العناد والإلحاد.
التفسير والبيان:
يطلب منك أهل الكتاب من اليهود أن تنزل عليهم كتابا مكتوبا بخطّ
سماوي يشهد أنك رسول الله إليهم. وهذا دليل على جهلهم بحقيقة الدّين ومعنى النّبوّة والرّسالة، وعدم إدراكهم معنى المشيئة الإلهية والحكمة الرّبّانية:
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ، فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام ٦/ ٧]، وسبب الجهل أنهم لا يميزون بين الآيات الصحيحة التي يؤيد الله بها رسله وبين الشعوذة وحيل السحرة المثيرة للدهشة والعجب.
وسؤالهم ذلك ليس بنيّة حسنة، فهو لا من أجل الإقناع وطلب الحجّة والبرهان بصدق ويقين، وإنما هو من قبيل التعنّت والتّعجيز والإحراج. قال الحسن البصري: لو سألوه ذلك استرشادا لأعطاهم ما سألوا.
ولا تعجب يا محمد من سؤالهم، فقد سألوا موسى أعظم من هذا، فقالوا: أرنا الله رؤية جهرة عيانا، بلا حواجز ولا حجب، وذلك دليل على الجهل بالله تعالى إذ هم ظنّوا أن الله جسم محدود تدركه الأبصار.
ونسب السؤال إلى اليهود المعاصرين للنّبوّة، مع أن السؤال من آبائهم لأنهم ورثتهم المقلّدون لهم الرّاضون بفعلهم، وهو مظهر من مظاهر تكافل الأمة الواحدة حال الرّضا بفعل بعض أفرادها.
وكان عقابهم على هذا الطلب المصحوب بالتعجيز والمراوغة نزول الصاعقة التي أماتتهم، ثم أحياهم الله. والصواعق: شرارات كهربائية تنشأ بسبب اصطكاك الأجرام السماوية.
والإحياء مفسّر في سورة البقرة حيث يقول تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة ٢/ ٥٥- ٥٦].
وبعد الإحياء اتّخذوا العجل إلها من بعد ما رأوا من الآيات الباهرة، والأدلّة القاهرة على يد موسى عليه السّلام في بلاد مصر، وما كان من إهلاك عدوّهم فرعون وجميع جنوده في اليمّ، فما جاوزوه إلا يسيرا حتى أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، فقالوا لموسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ. وذكر تعالى قصة اتّخاذهم العجل في سورة الأعراف الآية (١٥٢)، وفي سورة طه (٨٨) بعد ذهاب موسى إلى مناجاة الله عزّ وجلّ، ولما رجع إليهم تابوا مما صنعوا، فقتل بعضهم بعضا، قتل من لم يعبد العجل منهم من عبده، ثم أحياهم الله عزّ وجلّ، فعفا عنهم حين تابوا، وآتى الله موسى سلطانا مبينا، أي سلطة ظاهرة وحجّة قويّة بيّنة واضحة، كالعصا وفلق البحر واليد البيضاء. وسمّيت سلطانا لأن من جاء بها قاهر بالحجّة، وهي قاهرة القلوب، بأن تعلم أنه ليس في قوى البشر أن يأتوا بمثلها.
وكانت توبتهم بقتل بعضهم بعضا حتى قيل لهم: كفّوا، فكان ذلك شهادة للمقتول وتوبة للحيّ، كما قال تعالى في سورة البقرة: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة ٢/ ٥٤].
وكان من عجائب أحوالهم وأساليب تأديبهم أن الله تعالى رفع فوقهم جبل الطور، كأنه ظلّة، وقد كانوا في واديه، وذلك حين امتنعوا من الالتزام بأحكام التوراة، وأبوا إطاعة ما جاء به موسى عليه السّلام، فكان عقابهم بسبب ميثاقهم الذي أخذه الله عليهم أن يعملوا بما أنزل إليهم بقوّة وإخلاص.
ثم ألزموا بالطاعة فالتزموا وسجدوا، وجعلوا ينظرون إلى فوق رؤوسهم خشية أن يسقط عليهم، كما قال تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ، خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ [الأعراف ٧/ ١٧١].
وأمروا أن يدخلوا باب القرية أي بيت المقدس سجّدا أي خاضعين متذللين، وهم يقولون: حطّة، أي اللهم حطّ عنّا ذنوبنا في تركنا الجهاد، ونكولنا عنه حتى تهنا في التيه أربعين سنة، فخالفوا ما أمروا به من القول والفعل، ودخلوا يزحفون على أستاههم وهم يقولون: حنطة في شعرة.
وأوصاهم الله تعالى بحفظ السبت والتزام ما حرم الله عليهم ما دام مشروعا لهم، فقال لهم على لسان داود عليه السّلام: لا تعدوا في السبت، أي لا تتجاوزوا حدود الله فيه بالعمل الدّنيوي، فخالفوا واحتالوا بحيلتهم المعروفة باصطياد الحيتان فيه: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [البقرة ٢/ ٦٥].
وأخذ الله منهم ميثاقا غليظا، أي عهدا مؤكّدا شديدا على الأخذ بالتوراة بجدّ وقوّة، والعمل بها، وعدم كتمان البشارة بعيسى ومحمد عليهما الصّلاة والسّلام، فخالفوا وعصوا وتحايلوا على ارتكاب ما حرّم الله عزّ وجلّ، كما ورد في سورة الأعراف: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف ٧/ ١٦٣].
ثم ذكر تعالى بعد هذا الميثاق أسباب ما حلّ بهم من عقاب وغضب الله، مما يعدّ أقبح المخالفات: وهي نقض الميثاق الذي أخذه الله عليهم، فأحلّوا حرامه، وحرّموا حلاله: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ أي فبسبب نقض اليهود الميثاق، وكفرهم بآيات الله الدّالة على صدق أنبيائه، وقتلهم الأنبياء كزكريا ويحيى عليهما السّلام بغير ذنب، وقولهم: قلوبنا مغلفة بغلاف، فلا يصل إليها شيء مما تدعو إليه: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ [فصلت ٤١/ ٥] فردّ الله عليهم بأن ذلك
ليس هو الواقع، وإنما ختم الله عليها بسبب كفرهم بعيسى ومحمد عليهما السّلام، فلا يصل إليها نور الهداية كالنّقود المسكوكة لا تقبل نقشا آخر، فهم لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا من بعضهم مثل عبد الله بن سلام وأصحابه.
وكفرهم بعيسى عليه السلام والإنجيل واتهام مريم البتول العذراء بالفاحشة، ورميهم لها برجل صالح فيهم هو يوسف النجار، وهذا بهتان عظيم وكذب مفترى يدهش البريء، وزعمهم أنهم قتلوا عيسى ابن مريم، ووصفوه بأنه رسول الله تهكما واستهزاء بدعوته، ووصفه القرآن بأنه: ابن مريم للرد على النصارى القائلين بأنه ابن الله. ورد الله عليهم: والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه كما ادعوا، ولكن ألقى الله الشبه على رجل آخر فصلبوه، وما قتلوه يقينا أي متيقنين أنه عيسى ذاته بعينه لأن الجند الذين قتلوه وصلبوه ما كانوا يعرفونه، والمعروف في الأناجيل أن الذي أسلمه إلى الجند هو يهوذا الأسخريوطي.
وإن اختلفوا في صلب المسيح، أهو المصلوب أم غيره؟ لفي شك وتردد من حقيقة أمره، وليس لهم علم يقيني مقطوع به، وإنما هم يتبعون الظن والقرائن والأمارات غير المؤدية إلى الحق.
وإنما أنجاه الله من أيدي اليهود ورفعه إليه، كما قال تعالى في سورة آل عمران: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران ٣/ ٥٥] قال ابن عباس: إني متوفيك أي مميتك. وقال وهب:
أماته الله ثلاثة أيام ثم بعثه ثم رفعه. وقال ابن جرير: توفيه هو رفعه «١»، وقال الأكثرون: المراد بالوفاة هاهنا النوم، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام ٦/ ٦٠] وقال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الزمر ٣٩/ ٤٢].
قال الحسن البصري: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
لليهود: «إن عيسى لم يمت وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة»
أي أن المشهور بين المفسرين أن الله تعالى رفع عيسى بروحه وجسده إلى السماء، وقال الرازي:
المراد رافعك إلى محل كرامتي، وجعل ذلك رفعا إليه للتفخيم والتعظيم، ومثله قوله تعالى عن إبراهيم: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصافات ٣٧/ ٩٩] وإنما ذهب إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم من العراق إلى الشام، والمراد من كل ذلك التفخيم والتعظيم، وتدل الآية وَرافِعُكَ إِلَيَّ على أن الرفعة بالدرجة والمنقبة، لا بالمكان والجهة، كما أن الفوقية في قوله: وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ [آل عمران ٣/ ٥٥] ليست بالمكان، بل بالدرجة والرفعة «١».
ثم دلل سبحانه وتعالى على قدرته على حماية عيسى من الصلب وإنقاذه من اليهود والروم الظالمين ورفعه إليه بقوله: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً أي إن الله عزيز لا يغلب، حكيم في صنعه وفي جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها. ويجازي كل عامل بعمله، ومن جزائه لليهود في الدنيا ما أحل بهم من الذلة والمسكنة والتشريد في الأرض.
هذه عقيدتنا في صلب المسيح ورفعه مستقاة من أوثق مصدر في الوجود وهو القرآن الكريم كلام الله، المنقول إلينا بالتواتر، فلا مجال لتصديق روايات أخرى لم تثبت صحتها، بل إن ما فيها من تناقض واختلاف كثير يدل على الشك فيها ثم القطع بأنها ليست محل ثقة.
ثم إن القول بعدم الصلب أكرم وأفضل لكرامة عيسى عليه السلام، وأما القول بأنه صلب ليجعل نفسه فداء للبشرية والعالم، وليكفر عن خطيئة آدم عليه السلام وخطايا أبنائه، فهو من أوهام المسيحية، ومن القصص الروائية في الأناجيل التي دونتها أيدي البشر لأن الله تعالى أناط التخلص من الخطيئة
بالتوبة، وقد تاب آدم عليه السلام وأنهى المشكلة وتقبل الله توبته: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة ٢/ ٣٧] ولا يقبل عاقل قضية الفداء وإباحة ارتكاب المعاصي لأتباع المسيح لأن المسيح صلب تكفيرا لخطاياهم.
ثم حسم تعالى القول في شأن المسيح، فأبان أن كل أحد من أهل الكتاب عند ما يدركه الموت ينكشف له الحق في أمر عيسى، فيؤمن به إيمانا صحيحا حقا لا انحراف فيه، فيعلم اليهودي أنه رسول صادق غير كذاب، ويعلم النصراني أنه بشر ليس بإله ولا ابنا للإله.
وقوله تعالى: لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره: وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به، ونحوه: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات ٣٧/ ١٦٤] وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها. [مريم ١٩/ ٧١] والمعنى: وما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمنن قبل موته بعيسى وبأنه عبد الله ورسوله، يعني إذا عاين الموت قبل أن تزهق روحه، حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع وقت التكليف «١»، ولأن كل أحد ينجلي له ما كان جاهلا به، فيؤمن به، ولكن لا يكون ذلك إيمانا نافعا له إذا كان قد شاهد الملك «٢».
ويوم القيامة يشهد عيسى على اليهود بأنهم كذبوه، وعلى النصارى بأنهم دعوه «ابن الله» فتظهر حقيقة حاله، كما قال تعالى عنه: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ [المائدة ٥/ ١١٧] أي يشهد للمؤمنين منهم بالإيمان وعلى الكافر بالكفر لأن كل نبي شهيد على أمته كما قال تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء ٤/ ٤١]
(٢) تفسير ابن كثير: ١/ ٥٧٧
عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء ٤/ ٤١] قال قتادة عن آية وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً: يشهد عليهم أنه قد بلغهم الرسالة من الله، وأقر بعبودية الله عز وجل.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- أخلاق اليهود وطباعهم وعرة صعبة غريبة، فهم لا يذعنون للحق، وإنما يجادلون فيه، وينحازون عنه إلى المطالبة بأمور على سبيل التعجيز والإلحاد والعناد والمراوغة والتعنت.
فقد سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم إنزال كتاب مكتوب من السماء دفعة واحدة إلى فلان وفلان يؤيد ما يدعيه ويصدقه فيما يقول، تعنتا، كما أتى به موسى.
وطلبوا من موسى أن يريهم الله تعالى رؤية جهرة عيانا.
واتخذوا العجل إلها بالرغم من الأدلة القاطعة التي أيد الله تعالى بها موسى عليه السلام من اليد والعصا وفلق البحر وغيرها، التي تدل على أنه لا معبود إلا الله عز وجل.
٢- لا يخضع اليهود إلا للمادة، لذا ألزمهم الله تعالى إطاعة التوراة وإطاعة موسى برفع الجبل فوقهم كأنه ظلة، لتخويفهم.
٣- إنهم محتالون مخادعون ماكرون، فقد أمرهم الله باحترام يوم السبت وعدم العمل فيه، فاحتالوا على صيد السمك بوضع حواجز على سواحل البحار يوم الجمعة، يبقى فيها السمك الآتي بالمد البحري، حينما ينحسر عنه بالجزر.
٤- إنهم ينقضون العهود ويخالفون المواثيق، فقد أخذ الله عليهم العهد
المؤكد على العمل بالتوراة، ثم نقضوا الميثاق، وخالفوا مقتضى العهد بجرأة نادرة.
٥- استحقوا غضب الله عليهم وتسلط الروم الظلمة عليهم بأسباب كثيرة هي نقض الميثاق، والكفر بآيات الله وعدم الاعتراف برسالتي عيسى ومحمد عليهما السلام، وقتل الأنبياء بغير حق ولا ذنب، وتحدي الأمر الإلهي بقولهم: قلوبنا غلف لا ينفذ إليها الخير والهدى الإلهي، وكفرهم بعيسى والإنجيل، وقذف السيدة مريم بالزنى ورميهم لها بيوسف النجار، وهو البهتان العظيم، وادعاؤهم قتل المسيح عيسى ابن مريم.
٦- الثابت المؤكد بإخبار الله الصادق القاطع أنهم لم يقتلوا عيسى ولم يصلبوه، بل حماه الله منهم، وخلصه من مكرهم وكيدهم، ورفعه الله إليه إما رفعا حقيقيا بالروح والجسد إلى السماء، كما قال الأكثرون لأن الله متعال عن المكان، وإما رفع منزلة وتفخيم وتعظيم كما قال الرازي.
٧- ما من أحد من اليهود والنصارى إلا ويدرك قبل موته حقيقة عيسى عليه السلام، ويؤمن به إيمانا حقيقيا في وقت لا ينفعه الإيمان، إذا عاين الملك لأنه إيمان عند اليأس وحين التلبس بحالة الموت، فاليهودي يقرّ في ذلك الوقت بأنه رسول الله، والنصراني يقر بأنه كان رسول الله. وهذا معلوم بالأحاديث أيضا،
روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن المؤمن إذا حضره الموت بشّر برضوان الله وكرامته، وإن الكافر إذا حضر (حضره الموت) بشر بعذاب الله وعقوبته».
وروى ابن مردويه عن ابن عباس: «ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة أو النار».
٨- سيفاجأ النصارى يوم القيامة بشهادة عيسى المتضمنة تكذيب من كذبه،