آيات من القرآن الكريم

إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ألم نخبركم بعورة مُحَمَّد وأصحابه ونطلعكم على سرهم، ونكتب به إليكم؟!.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ألم نحط من وراءكم؟!.
وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " ألم نستحوذ عليكم ومنعناكم من المؤمنين؟! ".
قال الكسائي: هذا في كلام العرب كثير ظاهر، ومعنى (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ) - إنا استحوذنا ومنعناكم، وهو ظريف.
وأصل الاستحواذ الغلبة والقهر، وهو ما ذكرنا أنهم يُجبنونَ أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقولون: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
وحكم اللَّه بينهم - واللَّه أعلم - هو أن يُنزل المؤمنين الجنة، والمنافقين النار.
(وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) في الحجة؛ على ما ذكرنا، وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قال: حجة. وقيل: ظهورًا عليهم، لكن الأول أشبه.
ويحتمل ما ذكرنا من الشهادة - أنه جعل يوم القيامة للمؤمنين الشهادة عليهم، ولم يجعل لهم إلى دفعها وردها على أنفسهم سبيلا، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (١٤٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (١٤٤)
وقوله: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ).
يحتمل قوله - تعالى -: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ)، أي: يخادعون أولياء اللَّه أو دينه، فأضيف إليه؛ فهو جائز، وفي القرآن كثير؛ كقوله - تعالى -: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)، أي: إن تنصروا دين اللَّه أو أوليائه ينصركم، وقد ذكرنا هذا في صدر الكتاب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ خَادِعُهُمْ)، أي: يجزيهم جزاء خداعهم المؤمنين؛ فسمي: خداعًا - وإن لم يكن في الحقيقة خداعًا؛ لأنه جزاء الخداع، وهو كما سمى جزاء السيئة:

صفحة رقم 394

سيئة، وإن لم تكن الثانية -في الحقيقة- سيئة، وكذلك سمى جزاء الاعتداء: اعتداء، وإن لم يكن الثاني اعتداء؛ فعلى ذلك سمى هذا: خداعًا؛ لأنه جزاء الخداع، واللغة غير ممتنعة عن تسمية الشيء باسم سببه؛ على ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
ثم اختلف في جهة الخداع؛ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - قال: يعطى المنافقين على الصراط نورًا كما يعطى المؤمنين؛ فإذا مضوا به على الصراط طفِئ نورهم، ويبقى نور المؤمنين يمضون بنورهم؛ فينادون المؤمنين: (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ)، فنجوز به؛ فتناديهم الملائكة: (ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا)، وقد علموا أنهم لا يستطيعون الرجوع؛ فذلك قوله: (وَهُوَ خَادِعُهُمْ) وكذلك قال الحسن، ثم قال: فتلك خديعة اللَّه إياهم.
وقال آخرون: يفتح لهم باب من أبواب الجنة؛ فإذا رأوا ذلك قصدوا ذلك الباب، فلما دنوا منه أغلق دونهم، فذلك الخداع، واللَّه أعلم.
ويحتمل وجهًا آخر: وهو أنهم شاركوا المؤمنين في هذه الدنيا ومنافعها، والتمتع والتقلب فيها؛ فظنوا أنهم يشاركونهم في منافع الآخرة والتمتع بها؛ فيحرمون ذلك، فذلك الخديعة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ...) الآية.
جعل اللَّه - تعالى - للمنافق أعلاما في قوله وفعله يعلم بها المنافق:
أما في القول: ما قالوا: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ)، وقوله: (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ)، وقوله - تعالى -: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا...) الآية.
وأما في الفعل فهو قوله - تعالى -: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا)، وقوله: (وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا)، أي القتال، وقوله - تعالى -: (فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ...) الآية، ومثله كثير في القرآن، مما جعل ذلك علامة لهم، وهو كقوله - تعالى -: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ...) الآية، وكقوله - تعالى -: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ...) الآية، يراءون في جميع أفعالهم - الناس.

صفحة رقم 395

وفي حرف حفصة - رضي اللَّه عنها -: " يراءون الناس واللَّه يعلم ما في قلوبهم ولا يذكرون اللَّه إلا قليلا ".
عن الحسن في قوله - تعالى -: (وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) - فقال: أما واللَّه لو كان ذلك القليل منهم للَّهِ لقبله، ولكن ذلك القليل رياء.
وقيل: لو كان ذلك القليل لله يريدون به وجهه، فقبله - لكان كثيرًا، ولكن لا يقبله؛ فهو لا شيء. وقد يتكلم بالقليل واليسير على إرادة النفي من الأصل، واللَّه أعلم.
وروي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - ﷺ -: " مَنْ أحْسَنَ الصلَاةَ حَيثُ يَرَاهُ النَّاسُ، وَأَسَاءَهَا حَيثُ يَخْلُو - فَتِلْكَ اسْتِهَانَةٌ يَسْتَهِينُ بِهَا رَبَّهُ ".
وروي في علامة المنافق أخبار:
روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِن للمُنَافِقِ عَلَامَاتٍ، يُعرَفُونَ بِهَا: تَحِيتُهُم لَعْنَة، وَطَعَامُهُم نُهْبة، وَغَنيمَتُهُم غُلُوا، لَا يَقْرَبُونَ المَسَاجِدَ إِلا هَجْرًا، وَلَا يَأتُونَ الصلَاةَ إِلأ دُبُرًا ".
وعن عبد اللَّه بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " أَرْبعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وِإذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ "، وروي: ثلاث.
ورُوي عن عبد اللَّه قال: اعتبروا المنافق بثلاث: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وِإذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وإذا عاهد غدر. ثم قرأ الآيات: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ...) الآية.
وعن وهب قال: من خصال المنافق: أن يحب الحمد، ويكره الذم.

صفحة رقم 396
تأويلات أهل السنة
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي
تحقيق
مجدي محمد باسلوم
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان
سنة النشر
1426
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية