آيات من القرآن الكريم

إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ

مواقف أخرى للمنافقين وعقابهم والنهي عن موالاة الكافرين
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٤٢ الى ١٤٧]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦)
ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧)
الإعراب:
كُسالى
جمع كسلان، وهو حال منصوب من واو قامُوا
وكذلك قوله:
يُراؤُنَ
.. وَلا يَذْكُرُونَ.
مُذَبْذَبِينَ منصوب من وجهين: أحدهما- أن يكون منصوبا على الذم بفعل مقدر، تقديره: أذم مذبذبين. والثاني- أن يكون منصوبا على الحال من واو يَذْكُرُونَ.
ما يَفْعَلُ ما: فيها وجهان: أحدهما- أن تكون استفهامية في موضع نصب ب يَفْعَلُ وتقديره: أيّ شيء يفعل بعذابكم؟ والثاني- أن تكون «ما» نفيا، فلا يكون لها موضع من الإعراب. قال ابن الأنباري: والوجه الأول أوجه الوجهين، وحذف الياء من يُؤْتِ في المصحف تخفيفا.

صفحة رقم 326

البلاغة:
في يُخادِعُونَ
.. خادِعُهُمْ
وفي شَكَرْتُمْ.. شاكِراً جناس اشتقاق. وقوله:
ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ؟ استفهام بمعنى النفي أي لا يعذبكم ما دمتم شكرتم نعم الله وآمنتم به.
المفردات اللغوية:
يُخادِعُونَ اللَّهَ
بإظهار خلاف ما أبطنوه من الكفر، فيدفعوا عنهم أحكامه الدنيوية. من الخداع: وهو إيهام غيرك خلاف حقيقة الشيء. وَهُوَ خادِعُهُمْ
مجازيهم على خداعهم، فيفتضحون في الدنيا باطلاع الله نبيه على ما أبطنوه، ويعاقبون في الآخرة. كُسالى
جمع كسلان وهو المتثاقل المتباطئ. يُراؤُنَ النَّاسَ
بصلاتهم، أي يقصدون بعملهم الظهور للناس ليحمدوهم عليه، وهم في داخلهم غير مقتنعين بما يعملون. وَلا يَذْكُرُونَ
أي ولا يصلون.
إِلَّا قَلِيلًا
أي رياء. مُذَبْذَبِينَ مترددين. بَيْنَ ذلِكَ بين الكفر والإيمان. لا إِلى هؤُلاءِ لا منسوبين إلى الكفار. وَلا إِلى هؤُلاءِ ولا إلى المؤمنين. سَبِيلًا طريقا إلى الهدى.
سُلْطاناً مُبِيناً حجة قوية ظاهرة أو برهانا بيّنا على نفاقكم. الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ الدرك: المكان، والأسفل من النار: هو قعرها. وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً مانعا من العذاب.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا من النفاق. وَأَصْلَحُوا عملهم. وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ ووثقوا بالله.
وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ من الرياء. أَجْراً عَظِيماً في الآخرة وهو الجنة. وَكانَ اللَّهُ شاكِراً لأعمال المؤمنين بالإثابة عليها. عَلِيماً بخلقه.
المناسبة:
الآيات مكملة لما سبقها في تبيان صفات المنافقين وأحوالهم ومواقفهم.
التفسير والبيان:
إن المنافقين لجهلهم، وسذاجتهم، وقلة علمهم وعقلهم ومرضهم النفسي، وسوء تقديرهم يلجأون إلى الخداع، فيفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر، كما تقدم في أول سورة البقرة: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية [٩] ولا شك بأن الله لا يخادع فإنه العالم بالسرائر والضمائر، ولكنهم

صفحة رقم 327

يظنون أن أمرهم كما راج عند الناس، وجرت عليهم أحكام الشريعة ظاهرا، فكذلك يكون حكمهم عند الله يوم القيامة، وأن أمرهم يروج عنده، كما أخبر تعالى عنهم أنهم يوم القيامة يحلفون له أنهم كانوا على الاستقامة والسداد، ويعتقدون أن ذلك نافع لهم عنده كما قال تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ الآية [المجادلة ٥٨/ ١٨].
وَهُوَ خادِعُهُمْ
أي مجازيهم على خداعهم، وسمي ذلك مخادعة مشاكلة للفظ الأول، مثل وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [الأنفال ٨/ ٣٠]. أو وهو فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع، حيث تركهم تطبق عليهم أحكام الشريعة في الظاهر، معصومي الدماء والأموال في الدنيا، وأعد لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة، ولم يخلهم في الدنيا العاجلة من فضيحة وإحلال بأس ونقمة ورعب دائم. وقد يخذلهم في الآخرة أمام الناس، فيعطون على الصراط نورا، كما يعطى المؤمنون، ثم يطفأ نورهم، كما قال تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ- إلى قوله- وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحديد ٥٧/ ١٣- ١٥].
وفي الحديث الذي رواه أحمد ومسلم عن ابن عباس: «من سمّع سمّع الله به، ومن رأيا رأيا الله به»
قال ابن عباس: خداعه تعالى لهم أن يعطيهم نورا يوم القيامة يمشون به مع المسلمين، فإذا وصلوا إلى الصراط انطفأ نورهم، وبقوا في ظلمة، ودليله قوله تعالى: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً، فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ، ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة ٢/ ١٧].
وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
أي متباطئين متثاقلين إذ لا إيمان يدفعهم إليها، ولا نية لهم فيها، ولا يعقلون معناها. هذه صفة ظواهرهم.
ثم ذكر الله تعالى صفة بواطنهم الفاسدة، فقال: يُراؤُنَ النَّاسَ
بها،

صفحة رقم 328

أي لا إخلاص لهم ولا معاملة مع الله، بل إنما يريدون أن يراهم الناس تقية لهم ومصانعة، ويقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة، ولهذا يتخلفون كثيرا عن الصلاة التي لا يرون فيها غالبا كصلاة العشاء وصلاة الصبح،
كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أثقل الصلاة على المنافقين: صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا..» الحديث.
وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
أي في صلاتهم لا يخشون، ولا يدرون ما يقولون، بل هم في صلاتهم ساهون لاهون، وإنهم في الواقع لا يصلون إلا قليلا، فإذا لم يرهم أحد لم يصلوا.
وهم أيضا مذبذبون مضطربون متحيرون بين الإيمان والكفر، فليسوا مع المؤمنين حقيقة، ولا مع الكافرين حقيقة، بل ظواهرهم مع المؤمنين، وبواطنهم مع الكافرين، ومنهم من يعصف به الشك، فتارة يميل إلى المؤمنين، وتارة يميل إلى الكافرين كاليهود، كما قال تعالى في أول سورة البقرة: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ، وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا الآية [٢٠] فإذا ظهرت الغلبة لأحدهما ادعوا أنهم منه.
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أي ومن صرفه عن طريق الهدى، بسبب أعماله ومواقفه وأخلاقه، فلن تجد له سبيلا (طريقا) إلى الخير والسداد يسلكه.
ثم حذّر الله المؤمنين أن يفعلوا فعل المنافقين وأن يوالوا الكافرين، فقال:
يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين، أي لا تتخذوهم نصراء وأعوانا تصاحبونهم وتصافونهم، وتناصحونهم وتصادقونهم، وتسرون إليهم المودة، وتفشون أحوال المؤمنين الباطنة إليهم، كما قال تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ

صفحة رقم 329

مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً، وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ
[آل عمران ٣/ ٢٨] أي يحذركم عقوبته في ارتكابكم نهيه، وقال أيضا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [المائدة ٥/ ٥١].
أما تولي الذميين الوظائف العامة في الدولة الإسلامية، فليس بمحظور، فإنهم اشتغلوا في عصر الصحابة في الدواوين، وكان أبو إسحاق الصابي وزيرا في الدولة العباسية.
أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً أي أتريدون أن تجعلوا لله على أعمالكم حجة بينة في استحقاق العقاب إذا اتخذتموهم أولياء، يعني أن موالاة الكافرين دليل على النفاق، ولا يصدر هذا إلا من منافق.
ثم ذكر الله تعالى عقوبة المنافقين الشهيرة: وهي إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ أي إن مكانهم في الطبقة السفلى من النار، والنار سبع دركات، سميت بذلك لأنها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض. قال المفسرون:
النار سبع دركات: أولها جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية، وقد يسمى بعضها باسم بعض. وأما الجنة فهي درجات، بعضها أعلى من بعض.
والسبب في أن عذاب المنافق أشد من عذاب الكافر: هو أنه مثله في الكفر، وضم إلى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله.
وهذا العذاب لن يجدوا أحدا ينقذهم منه أو يخففه عنهم: وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً.
ثم ذكر الله تعالى طريق الإصلاح وهو فتح باب التوبة عن النفاق، وشرط الله تعالى لقبول توبة المنافقين توبة صحيحة أربعة شروط في قوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا، وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ، وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ، وتلك الشروط هي

صفحة رقم 330

الندم على الفعل السابق، والإصلاح أي الاجتهاد في فعل الأعمال الصالحة التي تغسل أدران النفاق، والاعتصام بالله أي الثقة به والتمسك بكتابه والاهتداء بهدي نبيه المصطفى، وبقصد مرضاة الله، كما قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ، فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ، وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً [النساء ٤/ ١٧٥] والإخلاص لله بأن يدعوه العباد وحده، ويتجهوا إليه اتجاها خالصا، لا يبتغون بطاعتهم إلا وجهه، ولا يلجأون إلى أحد سواه لكشف ضر أو جلب نفع، كما قال تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة ١/ ٥].
هذه شروط قبول توبة المنافق، أما الكافر فشرط توبته فقط هو الانتهاء عن الكفر كما قال تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال ٨/ ٣٨]. والمنافق: هو من أظهر الإيمان وأبطن الكفر. والكافر:
من أعلن الكفر صراحة.
أولئك التائبون هم مع المؤمنين أي أصحاب المؤمنين ورفقاؤهم في الدارين، وفي زمرتهم يوم القيامة.
وسوف يعطي الله المؤمنين أجرا عظيما لا يعرف قدره، فيشاركونهم فيه كما قال تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة ٣٢/ ١٧].
ثم بين الله تعالى سبب تعذيبهم وهو كفرهم بأنعم الله فقال مستفهما استفهاما إنكاريا: ماذا يريد الله بعذابكم أيها الناس؟ إنه يعذبكم لا من أجل الانتقام والثأر، ولا من أجل دفع ضر وجلب خير لأن الله غني عن كل الناس، وهو الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك، ولكنه أيضا عادل حكيم، لا يسوي بين الصالح والطالح، فالكافر والمنافق والعاصي لم يشكروا الله تعالى على نعمه، ولم يؤدوا واجبهم في الإيمان الحق بالله تعالى، ولم يصرفوا نعم الله في الخير. ولو

صفحة رقم 331

شكروا الله بأن أصلحوا العمل، وآمنوا بالله حقا، لاستحقوا الثواب الجزيل المعدّ لأمثالهم، فالله شاكر يجازي من شكر ويثيب من أطاع، عليم بخلقه، لا تخفى عليه خافية، فمن آمن بربه وقام بواجبه بشكر نعمه، علم به وجازاه على ذلك أوفر الجزاء كما قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم ١٤/ ٧] فهو الكريم المعطاء الذي يجزي القليل بالكثير، واليسير بالعظيم، ويضاعف الحسنة إلى عشر أمثالها إلى أضعاف كثيرة، فاللهم اجعلنا من المؤمنين الشاكرين الصابرين، المخلصين الأبرار، الذين رضيت عنهم في الدنيا والآخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى طائفة مهمة من الأحكام:
١- النفاق والرياء أمران قائمان في كل أمة وزمان: والنفاق إبطان الكفر وإظهار الإسلام، والرياء إظهار الجميل ليراه الناس، لا لاتباع أمر الله.
٢- يعتمد المنافق كالثعلب على المكر والخداع، وسرعان ما يتكشف أمره للناس، ولا يخفى على الله من فعله شيء منذ بدء نفاقه، فالمنافقون يخادعون الله لقلة علمهم وعقلهم، والله خادعهم- على سبيل المشاكلة اللفظية- أي أن الخداع من الله هو مجازاتهم على خداعهم أولياءه ورسله.
٣- تطبق على المنافق في الدنيا أحكام الشريعة في الظاهر، وفي الآخرة قال الحسن: يعطى كل إنسان من مؤمن ومنافق نورا يوم القيامة، فيفرح المنافقون ويظنون أنهم قد نجوا فإذا جاءوا إلى الصراط طفئ نور كل منافق، فذلك قولهم: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد ٥٧/ ١٣].
٤- من أوصاف المنافقين الصلاة رياء: أي يصلون مراءاة وهم متكاسلون

صفحة رقم 332

متثاقلون، لا يرجون ثوابا ولا يعتقدون على تركها عقابا.
وفي صحيح الحديث المتقدم: «إن أثقل صلاة على المنافقين: العتمة والصبح»
والعتمة: العشاء، لا يصلونها بسبب تعب النهار، وصلاة الصبح تأتي والنوم أحب إليهم، ولولا السيف ما قاموا.
ثم وصفهم الله بقلة الذكر عند المراءاة وعند الخوف،
وقال صلّى الله عليه وسلّم ذامّا لمن أخّر الصلاة: «تلك صلاة المنافقين- ثلاثا- يجلس أحدهم يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان- أو على قرني الشيطان- قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا» رواه مالك وغيره.
وصفهم بقلة الذكر لأنهم كانوا لا يذكرون الله بقراءة ولا تسبيح، وإنما كانوا يذكرونه بالتكبير. وقيل: وصفه بالقلة لأن الله تعالى لا يقبله. وقيل:
لعدم الإخلاص فيه.
٥- من صلّى كصلاة المنافقين وذكر كذكرهم لحق بهم في عدم القبول، وخرج من مقتضى قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ [٢٣/ ١- ٢]. اللهم إلا أن يكون له عذر، فيقتصر على الفرض حسبما
علّم النبي صلّى الله عليه وسلّم الأعرابي حين رآه أخل بالصلاة، فقال له- فيما رواه الأئمة-: «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبّر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها»
وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن عبادة: «لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن».
وقال فيما رواه الترمذي: «لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود»
وبناء عليه قال أكثر العلماء:
الطمأنينة فرض لهذا الحديث. ورأى أبو حنيفة أنها ليست بفرض، وإنما هي واجب لثبوتها بخبر آحاد.

صفحة رقم 333

٦- قال ابن العربي: إن من صلّى صلاة ليراها الناس ويرونه فيها، فيشهدون له بالإيمان، أو أراد طلب المنزلة والظهور لقبول الشهادة وجواز الإمامة، فليس ذلك بالرياء المنهي عنه، ولم يكن عليه حرج وإنما الرياء المعصية: أن يظهرها صيدا للناس وطريقا إلى الأكل، فهذه نية لا تجزئ وعليه الإعادة «١».
٧- المنافق مذبذب قلق مضطرب: والمذبذب: المتردد بين أمرين، والذبذبة: الاضطراب. والمنافقون مترددون بين المؤمنين والمشركين، لا مخلصين الإيمان ولا مصرّحين بالكفر.
وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المنافق كمثل الشاة العاثرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه أخرى».
٨- تحرم موالاة الكافرين دون المؤمنين: والمراد كما قال ابن كثير:
مصاحبتهم ومصادقتهم، ومناصحتهم، وإسرار المودة إليهم، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم. والآيات الناهية عن ولاية الكافرين كثيرة.
٩- عقاب المنافق في الدرك الأسفل من النار وهي الهاوية لغلظ كفره، وكثرة غوائله، وتمكّنه من أذى المؤمنين. وأعلى الدركات جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. وقد يسمى جميعها باسم الطبقة الأولى، أعاذنا الله من عذابه بمنه وكرمه «٢».
١٠- توبة المنافق مقبولة بشروط هي: أن يصلح قوله وفعله، ويعتصم بالله، أي يجعله ملجأ ومعاذا، ويخلص دينه لله، كما نصت عليه هذه الآية، وإلا فليس بتائب.

(١) أحكام القرآن: ١/ ٥١١
(٢) تفسير القرطبي: ٥/ ٤٢٥

صفحة رقم 334

١١- تعذيب المنافقين وغيرهم لا مصلحة فيه لله تعالى، كما نصت الآية التي تقول: أي منفعة له في عذابكم إن شكرتم وآمنتم، فنبه تعالى أنه لا يعذب الشاكر المؤمن، وأن تعذيبه عباده لا يزيد في ملكه، وتركه عقوبتهم على فعلهم لا ينقص من سلطانه. ولكن العذاب تقتضيه الحكمة والعدل.
قال مكحول من التابعين: أربع من كنّ فيه كنّ له، وثلاث من كنّ فيه كنّ عليه، فالأربع اللاتي له: الشكر والإيمان والدعاء والاستغفار، قال الله تعالى: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [النساء ٤/ ١٤٧]. وقال الله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال ٨/ ٣٣]. وقال الله سبحانه: قُلْ: ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي، دُعاؤُكُمْ [الفرقان ٢٥/ ٧٧]. وأما الثلاث اللاتي عليه: فالمكر والبغي والنكث قال الله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر ٣٥/ ٤٣].
وقال تعالى: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ [يونس ١٠/ ٢٣]. وقال تعالى: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ [الفتح ٤٨/ ١٠].
١٢- الله يشكر عباده على طاعتهم. ومعنى يشكرهم: يثيبهم، فيقبل العمل القليل، ويعطي عليه الثواب الجزيل، وذلك شكر منه على عبادته.
انتهى الجزء الخامس ولله الحمد

صفحة رقم 335
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية