
مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩) }
شرح الكلمات:
﴿بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾ : أي: بما علمكه بواسطة الوحي.
﴿خَصِيماً﴾ : أي: مخاصماً بالغاً في الخصومة مبلغاً عظيماً.
﴿تُجَادِلْ﴾ : تخاصم.
﴿يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ : يحاولون خيانة أنفسهم.
﴿يَسْتَخْفُونَ﴾ : يطلبون إخفاء أنفسهم عن الناس.
﴿وَهُوَ مَعَهُمْ﴾ : بعلمه تعالى وقدرته.
﴿يُبَيِّتُونَ﴾ : يدبرون الأمر في خفاء ومكر وخديعة.
﴿وَكِيلاً﴾ : الوكيل: من ينوب عن آخر في تحقيق غرض من الأغراض.
معنى الآيات:
روي أن هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق وإخوته١، وكان قد سرق درعاً من دار جارٍ له يقال له قتادة وودعها عند يهودي، يقال له: يزيد بن السمين، ولما اتهم طعمة وخاف هو وإخوته المعرة رموا بها اليهودي، وقالوا هو السارق، وأتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحلفوا على براءة أخيهم فصدقهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم بقطع يد اليهودي لشهادة بني أبيرق عليه وإذا بالآيات تنزل ببراءة اليهودي وإدانة طعمة، ولما افتضح طعمة وكان منافقاً أعلن عن ردته وهرب إلى مكة المكرمة ونقب جدار منزل ليسرق فسقط عليه الجدار فمات تحته كافراً.. وهذا تفسير لآيات قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ أي: القرآن، أيها الرسول {لِتَحْكُمَ بَيْنَ٢
٢ يشهد لهذا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن حجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه فإنما أقتطع له قطعة من نار".

النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ١ اللهُ} أي: بما أعلمك وعرفك به لا بمجرد رأي رآه غيرك من الخائنين وعاتبه ربه تعالى بقوله: ﴿وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً﴾ أي: مجادلاً عنهم، فوصم تعالى بني أبيرق بالخيانة، لأنهم خانوا أنفسهم بدفعهم التهمة عنهم بأيمانهم الكاذبة. ﴿وَاسْتَغْفِرِ٢ اللهَ﴾ من أجل ما هممت به من عقوبة اليهودي، ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً﴾ فيغفر لك ما هممت به ويرحمك ﴿وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ حيث اتهموا اليهودي كذباً وزوراً، ﴿إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً﴾ كطعمة بن أبيرق ﴿يَسْتَخْفُونَ٣ مِنَ النَّاسِ﴾ حياء منهم، ﴿وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ﴾ ولا يستحيون منه، وهو تعالى معهم في الوقت الذي كانوا يدبرون كيف يخرجون من التهمة بإلصاقها باليهودي البريء، وعزموا أن يحلفوا على براءة أخيهم واتهام اليهودي هذا القول مما لا يرضاه الله تعالى.. وقوله عز وجل: ﴿وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً﴾ فما قام به طعمة من سرقة الدرع ووضعها لدى اليهودي ثم اتهامهم اليهودي، وحلفهم على براءة أخيهم كل ذلك جرى تحت علم الله تعالى، والله به محيط، فسبحانه من إله عظيم. وقوله تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ﴾ أي: يا هؤلاء ﴿جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً﴾ هذا الخطاب موجه إلى الذين وقفوا إلى جنب بني أبيرق يدفعون عنهم التهمة فعاتبهم الله تعالى بقوله: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ﴾، اليوم في هذه الحياة الدنيا لتدفعوا عنهم تهمة السرقة ﴿فَمَنْ٤ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً﴾ يتولى الدفاع عنهم في يوم لا تملك فيه نفس لنفس شيئاً والأمر كله لله فتضمنت الآية تقريعاً شديداً لا يقف أحد بعد موقفاً مخزياً كهذا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- لا يجوز الحكم بغير ما أنزل الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٢- لا يجوز الوقوف إلى جنب الخونة الظالمين نصرة لهم
٢ فيه إرشاد للأمة وتعليم لها، إذ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقارف ذنباً، وكل ما في الأمر أنه هم على ظن منه، ودفع الله عنه ما هم به بنزول الآية، أو استغفاره لما هم به، هو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين.
٣ أي: يستترون.
٤ الاستفهام للإنكار والتوبيخ والتقريع.