والهجرة قبل الفتح كانت واجبة ليعز المسلم دينه ويقيم حدوده وأركانه، ويتعلم الفقه ويأخذه من معينه الأول ولتقوية شوكة المسلمين ونصرة النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا فتحت مكة ودخل الناس في دين الله أفواجا، وانتشر الصحابة يعلمون الناس ويفقهونهم في دينهم، وقويت شوكة الإسلام لم تعد الهجرة واجبة «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا» (رواه الشيخان).
كيفية الصلاة في السفر والحرب [سورة النساء (٤) : الآيات ١٠١ الى ١٠٣]
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣)
صفحة رقم 419
المفردات:
ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ: سافرتم فيها لأن المسافر يضرب الأرض برجليه أو بعصاه أو بقوائم راحلته. تَقْصُرُوا أى: تتركوا شيئا منها. يَفْتِنَكُمُ: يؤذونكم بالقتل أو غيره. كِتاباً: فرضا ثابتا ثبوت الكتابة في اللوح. مَوْقُوتاً:
منجما في أوقات معلومة.
لا زال الكلام في الجهاد والهجرة وما يتصل بهما، وفيهما سفر وخوف فمن الحكمة بيان الصلاة فيهما.
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا إذا سرتم في الأرض وسافرتم فيها لقصد الهجرة أو للحرب أو التجارة فليس عليكم جناح ولا إثم في قصر الصلاة الرباعية، وهذه صلاة السفر المسماة في كتب الفقه بصلاة القصر، وذلك أن السفر شدة ومشقة رخص الشارع فيها قصر الصلاة، وقد ثبتت كيفيتها بالسنة المتواترة، أما صلاة الخوف الآتية في الآية فثبتت كيفيتها بنص القرآن. والثابت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن أبى بكر وعمر وكبار الصحابة وصدر من خلافة عثمان أنهم كانوا يصلون في السفر الظهر، والعصر، والعشاء ركعتين، ولذا قال الأحناف: إن قصر الصلاة في السفر عزيمة، أى: واجب، والشافعى يقول: إنها رخصة، أى: جائز لك أن تتم وأن تقصر، والظاهر أن الحق مع الأحناف. وعثمان- رضى الله عنه- قيل:
إنه أتم وهو بمنى صلاته، وقد تأولوا ذلك بأنه كان متزوجا ونوى الإقامة
ومسافة السفر التي تبيح قصر الصلاة وتبيح الفطر في رمضان
صفحة رقم 420
حددوها بمسيرة ثلاثة أيام بلياليها على القدم أو على البعير وحددت الآن بالكيلومتر حوالى ٨١ كيلو متر، وبعضهم يرى القصر مع أى سفر كان.
إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا بمعنى أن يتعرضوا لكم بما تكرهونه من القتال وغيره فليس عليكم جناح، قال العلامة أبو السعود في تفسيره: «وهذا شرط معتبر في شرعية ما يذكر بعده من صلاة الخوف المؤداة بالجماعة، وأما في حق مطلق القصر فلا اعتبار له اتفاقا لتظاهر السنن على مشروعيته»
وقد روى عن عمر- رضى الله عنه- أنه سئل عن قوله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وعن أمن الناس فقال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته».
فالظاهر- والله أعلم- أن السفر مطلقا يقتضى القصر، وقوله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ كقوله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً «١» حيث إن الإكراه حرام مطلقا أردن التحصن أم لم يردن.
إن الكافرين كانوا لكم عدوّا مبينا ظاهرا فاحذروهم في السفر والإقامة... ولقد ذكر القرآن الكريم كيفية صلاة الخوف بعد ذكرها مجملة، وأنه لا إثم فيها لأنها تزيد على صلاة القصر بكثرة التغير عن الهيئة العامة مع القصر.
وإذا كنت يا محمد فيهم- وكذلك كل إمام قائم مقامك- فأقمت لهم الصلاة وناديتهم لها بالأذان والإقامة. فالواجب أن يقسم الجيش طائفتين، فلتقم طائفة منهم معك في الصلاة وليأخذوا أسلحتهم معهم حتى لا يحتاجوا إلى مجهود عقب الصلاة، وربما باغتهم العدو فيكونون على استعداد، فإذا سجدوا فليكن الذين يحرسون من ورائكم في اتجاه العدو مستعدين لرده إن حدثته نفسه بالاعتداء، والظاهر أن المراد بالسجود هنا إتمام الصلاة، فإذا أتمت الطائفة الأولى صلاتها وأنت واقف في أول الركعة الثانية فلتأت الطائفة الثانية التي كانت حارسة، وتقتدى بك وتأخذ حذرها وأسلحتها، ولعل الحكمة في الأمر بأخذ الحذر لها أن العدو قد يكون تنبه في صلاة الطائفة الأولى فمن الحكمة أن تحذر الثانية وتتنبه ثم تصلى بها الركعة الثانية لك وتنتظرها في جلوس التشهد الأخير حتى تقوم هي وتصلى الركعة الثانية لها ثم تسلم بها، وعلى هذا تحظى الطائفة الأولى بالتكبير مع الإمام والثانية بالتسليم معه.
(١) سورة النور آية ٣٣.
صفحة رقم 421
ولصلاة الخوف أحكام كثيرة في كتب الفقه وصفات الصلاة كلها تدور حول الآية وتختلف باختلاف ما إذا كان العدو في جهة القبلة أو غيرها.
والحكمة العامة في الأمر بأخذ الحذر والسلاح حتى في الصلاة، أن الكفار يودون من صميم قلوبهم أن تغفلوا عن أسلحتكم وأمتعتكم ولو بانشغالكم في الصلاة، فينقضون عليكم ويميلون عليكم ميلة واحدة بالقتل والنهب ولكن الله يريد لكم النصر والغلبة، فيأمركم بالاستعداد والحذر.
ولا جناح عليكم إذا كان بكم أذى كمطر أو مرض أو عذر أن تضعوا أسلحتكم مع أخذ الحذر والاستعداد للعدو، ولتعلموا أن النصر لكم ما نصرتموه. وأن الله يدافع عنكم إذا دافعتم عن قرآنه ودينه، وأنه أعد للكافرين عذابا شديد الإهانة في الدنيا والآخرة.
وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم ذات الرقاع ما معناه أنه صلّى بطائفة ركعة ثم ثبت قائما فأتموا لأنفسهم الركعة الثانية وسلموا وانصرفوا تجاه العدو، وجاءت الطائفة الثانية فصلى بهم الركعة الثانية التي بقيت لهم ثم أتموا فسلم بهم.
وقال بهذه الصلاة أكابر الصحابة ومالك والشافعى رضى الله عنهم جميعا.
فإذا أديتم الصلاة- أى: صلاة الخوف- فاذكروا الله في أنفسكم بتذكر نعمه، وبألسنتكم بالحمد والتكبير والدعاء في أى حال تكونون من قيام وقعود واضطجاع.
وإذا كنا مأمورين بالذكر في الحرب على كل حال ولا عذر في تركه!! فما بالنا في السلم، فإذا اطمأننتم بانتهاء الحرب أو الحلول في دار الإقامة بعد السفر فأقيموا الصلاة كالمعتاد تامة الأركان والشروط، إن الصلاة عماد الدين قد فرضها الله فرضا ثابتا كالكتابة في اللوح، موقوتا بأوقات معلومة، فلا يصح أن يترك وقتها أبدا حتى في الحرب وساعة الخوف فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة آية ٢٣٩].
وإتمام صلاة الخوف بالجماعة يدل على أن الجماعة مطلوبة في أشد الأحوال.