المنَاسَبة: لما ذكر تعالى أحوال الفجرة المشركين، وذكر ما يكونون عليه في الآخرة من الذل والهوان، دعا المؤمنين إلى الإِنابة والتوبة قبل فوات الأوان، وختم السورة بذكر عظمة الله وجلاله يوم الحشر الأكبر، حيث يكون العدل الإِلهي والقسطاسُ المستقيم، ويساق السعداء إلى الجنة زمراً، والأشقياء إلى النار زمراً ﴿وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً..﴾ الآية.
اللغَة: ﴿بَغْتَةً﴾ فجأة ﴿مَثْوَى﴾ مكان إقامة يقال: ثوى بالمكان أقام فيه ﴿مَقَالِيدُ﴾ خزائن ومفاتيح ﴿زُمَراً﴾ جماعات جماعات جمع زُمرة وهي الجماعة ﴿خَزَنَتُهَا﴾ حُرَّاسها الموكلون عليها ﴿نَتَبَوَّأُ﴾ تبوأ المكانَ حلَّ ونزل فيه ﴿حَآفِّينَ﴾ محيطين به من أطرافه وجهاته.
التفسِير: ﴿قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ﴾ أخبر يا محمد عبادي المؤمنين الذين أفرطوا في الجناية على أنفسهم بالمعاصي والآثام ﴿لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله﴾ أي لا تيأسوا من مغفرة الله ورحمته ﴿إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً﴾ أي إنه تعالى يعفو عن جميع الذنوب لمن شاء، وإن كانت مثل زبد البحر ﴿إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم﴾ أي عظيم المغفرة واسع الرحمة، وظاهر الآية أنها دعوة للمؤمنين إلى عدم اليأس من رحمة الله لقوله ﴿ياعبادي﴾ وقال ابن كثير: هي دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإِنابة، وإِخبارٌ بأن الله يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب منها ورجع عنها مهما كثرت ﴿وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ﴾ أي ارجعوا إلى الله واستسلموا له
بالطاعة والخضوع والعمل الصالح ﴿مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب﴾ من قبل حلول نقمته تعالى بكم ﴿ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾ أي ثم لا تجدون من يمنعكم من عذابه ﴿واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ﴾ أي اتبعوا القرآن العظيم، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والزموا أحسن كتاب أنزل إليكم فيه سعادتكم وفلاحكم ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾ أي من قبل أن ينزل بكم العذاب فجأة وأنتم غافلون، لا تدرون بمجيئه لتتداركوا وتتأهبوا ﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ﴾ أي لئلا تقول بعض النفوس التي أسرفت في العصيان ﴿ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله﴾ أي يا حسرتي وندامتي على تفريطي وتقصيري في طاعة الله وفي حقه قال مجاهد: يا حسرتا على ماضيعت من أمر الله ﴿وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين﴾ أي وإِنَّ الحال والشأن أنني كنت من المستهزئين بشريعة الله ودينه قال قتادة: لم يكفه أن ضيَّع طاعة الله حتى سخر من أهلها ﴿أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ المتقين﴾ «أو» للتنويع أي يقول الكافر والفاجر هذا أو هذا والمعنى لو أن الله هداني لاهتديت إلى الحق، وأطعت الله، وكنت من عباده الصالحين قال ابن كثير: يتحسر المجرم ويودُّ لو كان من المحسنين المخلصين، المطيعين لله عزَّ وجل ﴿أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المحسنين﴾ أي أو تقول تلك النفس الفاجرة حين مشاهدتها العذاب لو أنَّ لي رجعةً إلى الدنيا لأعمل بطاعة الله، وأُحسن سيرتي وعملي ﴿بلى قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي﴾ هو جواب قوله ﴿لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي﴾ والمعنى بلى قد جاءك الهدى من الله بإرساله الرسل، وإنزاله الكتب ﴿فَكَذَّبْتَ بِهَا واستكبرت وَكُنتَ مِنَ الكافرين﴾ أي فكذبت بالآيات، وتكبرت عن الإِيمان، وكنت من الجاحدين قال الصاوي: إن الكافر أولاً يتسحر، ثم يحتج بحجج واهية، ثم يتمنى الرجوع إلى الدنيا، ولو رُدَّ لعاد إلى ضلاله كما قال تعالى
﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام: ٢٨] ﴿وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ﴾ أي ويوم القيامة ترى أيها المخاطب الذين كذبوا على الله بنسبة الشريك له والولد وجوههم سوداء مظلمة بكذبهم وافترائهم ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ﴾ استفهام تقريري أي أليس في جهنم مقام ومأوى للمستكبرين عن الإِيمان، وعن طاعة الرحمن؟ بلى إنَّ لهم منزلاً ومأوى في دار الجحيم.. ولما ذكر حال الكاذبين على الله، ذكر حال المتقين لله فقال ﴿وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ﴾ أي وينجي الله المتقين بسبب سعادتهم وفوزهم بمطلوبهم وهو الجنة دار الأبرار ﴿لاَ يَمَسُّهُمُ السواء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أي لا ينالهم هلعٌ ولا جزع، ولا هم يحزنون في الآخرة، بل هم آمنون ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾ [القمر: ٥٥] ثم عاد إلى دلائل الألوهية والتوحيد، بعد أن أفاض في الوعند والوعيد فقال ﴿الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أي الله جل وعلا خالق جميع الأشياء وموجد المخلوقات، والمتصرف فيها كيف يشاء، لا إله غيره ولا ربَّ سواه ﴿وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ أي هو القائم بتدبير كل شيء {لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات
والأرض} أي بيده جل وعلا مفاتيح خزائن كل الأشياء، لا يملك أمرها ولا يتصرف فيها غيره قال ابن عباس: «مقاليد» مفاتيح، وقال السدي: خزائن السمواتِ والأرض بيده ﴿والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله أولئك هُمُ الخاسرون﴾ أي والذين كذَّبوا بآيات القرآن الظاهرة، والمعجزات الباهرة، أولئك هم الخاسرون أشدَّ الخسران ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون﴾ ؟ أي قل يا محمد أتأمرونني أن أعبد غير الله بعد سطوع الآيات والدلائل على وحدانيته يا أيها الجاهلون؟ قال ابن كثير: إن المشركين من جهلهم دعو رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى عبادة آلهتهم، ويعبدوا معه إلهَه فنزلت الآية ﴿وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ﴾ اللام موطئة للقسم أي واللهِ لقد أوحي إليك وإلى الأنبياء قبلك ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ أي لئن أشركت يا محمد ليبطلنَّ ويفسدنَّ عملك الصالح ﴿وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين﴾ أي ولتكونَنَّ في الآخرة من جملة الخاسرين بسبب ذلك.
. وهذا على سبيل الفرض والتقدير، وإلاّ فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد عصمه الله، وحاشا له أن يشرك بالله، وهو الذي جاء لإقامة صرح الإِيمان والتوحيد قال أبو السعود: والكلام ورادٌ على طريقة الفرض لتهييج الرسل، وإقناط الكفرة، والإِيذان بغاية شناعة الإِشراك وقبحه ﴿بَلِ الله فاعبد﴾ أي أخلص العبادة لله وحده، ولا تعبد أحداً سواه. ﴿وَكُن مِّنَ الشاكرين﴾ أي وكن من الشاكرين لإِنعام ربك ﴿وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ﴾ أي وما عرفوا الله حق معرفته، إذ أشركوا معه غيره، وساووا بينه وبين الحجر والخشب في العبادة.. ثم نبههم على عظمته وجلالة شأنه فقال ﴿والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة﴾ الجملة حالية والمعنى ما عظَّموه حقَّ تعظيمه والحال أنه موصوف بهذه القدرة الباهرة، التي هي غاية العظمة والجلال، فالأرضُ مع سعتها وبسطتها يوم القيامة تحت قبضته وسلطانه ﴿والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ أي والسموات مضموات ومجموعات بقدرته تعالى قال الزمخشري: والغرضُ من هذا الكلام تصويرُ عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهابٍ بالقبضة واليمين إلى جهة وفي الحديث «يقبضُ اللهُ تعالى الأرض ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملكُ أين ملوكُ الأرض؟» ﴿سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي تنزَّه الله وتقدس عما يصفه به المشركومن من صفاتِ العجز والنقص، ثم ذكر تعالى أهوال الآخرة فقال ﴿وَنُفِخَ فِي الصور﴾ هو قرنٌ ينفخ فيه إسرافيل علهي السلام بأمر الله، والمراد بالنفخة هنا «نفخة الصَّعق» التي تكون بعد نفخة الفزع قال ابن كثير: وهي النفخة الثانية التي يموت بها الأحياء من أهل السمواتِ والأرض ﴿فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض﴾ أي فخَّر ميتاً كل من في السموات والأرض ﴿إِلاَّ مَن شَآءَ الله﴾ أي إلاَّ من شاء الله بقاءه كحملة العرض، والحور العين والولدان ﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى﴾ أي نُفخ فيه نفخةٌ أخرى وهي نفخةُ الإِحياء ﴿فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾ أي فإِذا جمع الخلائق الأموات يقومون من
القبور ينظرون ماذا يُؤمرون ﴿وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا﴾ أي وأضاءت أرض المحشر بنور الله يوم القيامة، حين تجلى الباري جلا وعلا لفصل القضاء بين العباد ﴿وَوُضِعَ الكتاب﴾ أي أحضرت صحائف أعمال الخلائق للحساب ﴿وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء﴾ أي وجيء بالأنبياء ليسألهم رب العزة عما أجابتهم به أممهم، وبالشهداء وهم الحفظة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم، وقال السدي: هم الذين استشهدوا في سبيل الله ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُم بالحق﴾ أي وقَضي بين العباد جميعاً بالقسط والعدل ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ أي وهم في الآخرة لا يظلمون شيئاً من أعمالهم، لا بنقص ثواب، ولا بزيادة عقاب قال ابن جبير: لا يُنقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ﴾ أي جوزي كل إنسان بما عمل من خير أو شر ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ أي هو تعالى أعلم بما عمل كل إنسان، ولا حاجة به إلى كتاب ولا إلى شاهد، ومع ذلك تشهد الكتب إلزاماً للحجة.
. ثم فصَّل تعالى مآلٍ من الأشقياء والسعداء فقال ﴿وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً﴾ أي وسيق الكفرة المجرمون إلى نار جهنم جماعاتٍ جماعات، كما يساق الأشقياء في الدنيا إلى السجون ﴿حتى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ أي حتى إذا وصلوا إليها فتحت أبواب جهنم فجأة لتستقبلهم ﴿وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ﴾ ؟ أي وقال لهم خزنة جهنم تقريعاً وتوبيخاً: ألم يأتكم رسلٌ من البشر يتلون عليكم الكتب المنزلة من السماء؟ ﴿وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا﴾ ؟ أي ويخوفونكم من شر هذا اليوم العصيب؟ ﴿قَالُواْ بلى ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين﴾ أي قالوا بلى قد جاءونا وأنذرونا، وأقاموا علينا الحجج والبراهين، ولكننا كذبناهم وخالفانهم لما سبق لنا من الشقاوة قال القرطبي: وهذا اعتراف منهم بقيام الحجة عليهم، والمراد بكلمة العذاب قوله تعالى ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ﴾ [هود: ١١٩] ﴿قِيلَ ادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي قيل لهم ادخلوا جهنَّم لتصلوا سعيرها ماكثين فيها أبداً، بلا زوال ولا انتقال ﴿فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين﴾ أي فبئس المقام والمأوى جهنم للمتكبرين عن الإِيمان بالله وتصديق رسله ﴿وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً﴾ أي وسيق الأبرار المتقون لله إلى الجنة جماعاتٍ جماعات راكبين على النجائب قال القرطبي: سوقُ أهل النار طردُهم إليها بالخزي والهوان، كما يفعل بالمجرمين الخارجين على السلطان، وسوقُ أهل الجنان سوقُ مراكبهم إلى دار الكرامة والرضوان، لأنه لا يُذبهم بهم إلا راكبين، كما يفعل بالوافدين على الملوك، فشتَّان ما بين السوقين ﴿حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ أي حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابُها كقوله تعالى ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب﴾ [ص: ٥٠] قال الصاوي: والحكمةُ في زيادة الواو هنا «فُتحت» دون التي قبلها، أن أبواب السجون تكون مغلقة إلى أن يجيئها أصحاب الجرائم، فتفتح لهم ثم تُغلق عليهم، بخلاف أبواب السرور والفرح فإنها تفتح انتظاراً لمن يدخلها فناسب دخول الواو هنا دون التي قبلها ﴿وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ﴾ أي وقال لهم
حراس الجنة: سلامٌ عليكم أيها المتقون الأبرار ﴿طِبْتُمْ﴾ أي طهرتم من دنس المعاصي والذنوب، فادخلوا الجنة دار الخلود، قال البيضاوي: وجواب «إذا» محذوف، للدلالة على أنَّ لهم من الكرامة والتعظيم، ما لا يحيط به الوصف والبيان قال ابن كثير: وتقديره إِذا كان هذا سُعِدوا، وطابوا، وسُرّوا وفرحوا بقدر ما يكون لهم من النعيم ﴿وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ﴾ أي وقالوا عند دخولهم الجنة واستقرارهم فيها: الحمد لله الذي حقَّق لنا ما وعدنا به من دخول الجنة قال المفسرون: والإِشارة إلى وعده تعالى لهم بقوله
﴿تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً﴾ [مريم: ٦٣] ﴿وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ﴾ أي وملَّكنا أرض الجنة نتصرف فيها تصرف المالك في ملكه وننزل فيها حيث نشاء، ولا ينازعنا فيها أحد ﴿فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين﴾ أي فنعم أجر العاملين بطاعة الله الجنة ﴿وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش﴾ أي وترى يا محمج الملائكة محيطين بعرش الرحمن، محدقين به من كل جانب ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ أي يسبحون الله ويمجدونه تلذذاً لا تعبداً ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحق﴾ أي وقُضي بين العباد بالعدل ﴿وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين﴾ أي وقيل الحمد لله على عدله وقضائه قال المفسرون: القائل هم المؤمنون والكافرون، المؤمنون يحمدون الله على فضله، والكافرون يحمدونه على عدله قال ابن كثير: نطق الكون أجمعه، ناطقه وبهيمه، لله رب العالمين بالحمد في حكمه وعدله، ولهذا لم يسند القول إلى قائل، بل أطلقه فدل على أن جميع المخلوقات شهدت له بالحمد.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الطباق بين (تكفروا.. تَشْكُرُواْ) وبين ﴿يَرْجُواْ.. ويَحْذَرُ﴾ وبين ﴿فَوْقِهِمْ.. وتَحْتِهِمْ﴾ وبين ﴿ضُرٍّ.. ورَحْمَةٍ﴾ وبين ﴿الغيب.. والشهادة﴾ وبين ﴿يَبْسُطُ.. وَيَقْدِرُ﴾ وبين ﴿اهتدى.. وضَلَّ﴾ الخ.
٢ - جناس الاشتقاق ﴿يَتَوَكَّلُ المتوكلون﴾ [الزمر: ٣٨] وكذلك في قوله ﴿أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ﴾ [الزمر: ١٠].
٣ - الأسلوب التهكمي ﴿لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار﴾ [الزمر: ١٦] إطلاق الظلة عليها تهكم لأنها محرقة، ولظلة تقي من الحر.
٤ - المقابلة الرائعة ﴿وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة..﴾ [الزمر: ٤٥] الآية فقد قابل بين الله والأصنام، وبين السرور والاشمئزاز، وكذلك توجد مقابلة بين آيتي السعداء والأشقياء ﴿وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً﴾ وقابل ذلك بقوله ﴿وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً..﴾ والمقابلةُ أن يؤتى بمعنيين أو أكثر، ثم يُؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب وهو من المحسنات البديعية.
٥ - الإِيجاز بالحذف لدلالة السياق عليه ﴿أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ [الزمر: ٢٢] ؟ حذف خبره
وتقديره كمن طبع الله على قلبه؟ ومثله ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اليل﴾ [الزمر: ٩] ؟ أي كمن هو كافرٌ جاحداً لربه؟
٦ - الأمر الذي يراد منه التهديد ﴿قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ﴾ [الزمر: ٨] ومثله ﴿اعملوا على مَكَانَتِكُمْ﴾ [الزمر: ٣٩] للمبالغة في الوعيد.
٧ - المجاز المرسل ﴿أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النار﴾ [الزمر: ١٩] ؟ أطلق المسبب وأراد السبب، لأن الضلال سبب لدخول النار.
٨ - الاستعارة ﴿لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض﴾ أي مفاتيح خيراتهما، ومعادن بركاتها فشبَّه الخيرات والبركات بخزائن واستعار لها لفظ المقاليد، بمعنى المفاتيح، ومعنى الآية خزائن رحمته وفضله بيده تعالى.
٩ - الاستعارة التمثيلية ﴿والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ مثَّل لعظمته وكما قدرته، وحقارة الأجرام العظام التي تتحير فيها الأوهام بالنسبة لقدرته تعالى بمن قبض شيئاً عظيماً بكفه، وطوى السموات بيمينه بطريق الاستعارة التمثيلية، قال في تلخيص البيان: وفي الآية استعارة ومعنى ذلك أن الأرض في مقدوره كالذي يقبض عليه القابض، فتستولي عليه كفه، ويحوزه ملكه، ولا يشاركه غيره، والسموات مجموعات في ملكه ومضموات بقدرته وقال الزمخشري: والآية لتصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله، من غير ذهاب بالقبضة واليمين إلى جهة، لأن الغرض الدلالة على القدرة الباهرة، ولا ترى باباً في علم البيان أدق ولا أرقَّ ولا ألطف من هذا الباب.
١٠ - الكناية ﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله﴾ جنبُ الله كنايةٌ عن حقِّ الله وطاعته، وهذا من لطيف الكنايات.
١١ - الالتفات من التكلم إلى الغيبة ﴿لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله﴾ والأصل: لا تقطنوا من رحمتي قال علماء البيان: وفي الآية الكريمة ﴿قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ﴾ الآية من أنواع المعاني والبيان أمور حسان: منها إقباله تعالى على خلقه ونداؤه لهم، ومنها إضافة الرحمة للفظ الجلالة الجامع لجميع الأسماء والصفات، ومنها الإِتيان بالجملة المعرَّفة الطرفين المؤكدة بإِن وضمير الفصل ﴿إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم﴾.
١٢ - توافق الفواصل في الحرف الأخير، وهو نهاية في الروعة والجمال اقرأ مثلاً قوله تعالى ﴿وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الكتاب وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بالحق وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ ألا تأخذك روعة هذا البيان، برونقه، وجماله، وأدائه، فينطلق لسانك بذكر الرحمن؟!