آيات من القرآن الكريم

وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ

السَّامِعَ يَسْأَلُ عَنْ سَبَبِ اسْوِدَادِ الْوُجُوهِ فَيُجَابُ بِأَنَّ فِي جَهَنَّمَ مَثْوَاهُمْ يَعْنِي لِأَنَّ السَّوَادَ يُنَاسِبُ مَا سَيَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ مَنْ مَسِّ النَّارِ فَأُجِيبَ بِطَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ بِتَنْزِيلِ السَّائِلِ الْمُقَدَّرِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ مَثْوَاهُمْ جَهَنَّمُ فَلَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَغْفُلَ عَنْ مُنَاسَبَةِ سَوَادِ وُجُوهِهِمْ، لِمَصِيرِهِمْ إِلَى النَّارِ، فَإِنَّ لِلدَّخَائِلِ عَنَاوِينَهَا، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ
[الْأَنْعَام: ٥٣]، وَكَقَوْلِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ حِينَ كَانَ أَمِيرَ الْكُوفَةِ وَقَدْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا «مَا هَذَا يَا مُغِيرَةُ أَلَيْسَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ فَصَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». وَكَقَوْلِ الْحَجَّاجِ فِي خُطْبَتِهِ فِي أَهِلِ الْكُوفَةِ «أَلَسْتُمْ أَصْحَابِي بِالْأَهْوَازِ حِينَ رُمْتُمُ الْغَدْرَ» إِلَخْ.
وَالتَّكَبُّرُ: شِدَّةُ الْكِبْرِ، وَمِنْ أَوْصَافِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَكَبِّرُ، وَالْكِبْرُ: إِظْهَارُ الْمَرْءِ التَّعَاظُمَ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يَعُدُّ نَفْسَهُ عَظِيمًا. وَتَعْرِيفُ الْمُتَكَبِّرِينَ هُنَا لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَأَصْحَابُ التَّكَبُّرِ مَرَاتِبُ أَقْوَاهَا الشِّرْكُ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غَافِر: ٦٠] وَهُوَ الْمَعْنِيُّ
بِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَابَلَهُ بِالْإِيمَانِ، وَدُونَهُ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي قُوَّةِ حَقِيقَةِ مَاهِيَّةِ التَّكَبُّرِ، وَكُلُّهَا مَذْمُومَةٌ. وَمَا يَدُورُ عَلَى الْأَلْسُنِ: أَنَّ الْكِبْرَ عَلَى أَهْلِ الْكِبْرِ عِبَادَةٌ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ.
وَفِي وَصْفِهِمْ بِالْمُتَكَبِّرِينَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ عِقَابَهُمْ بِتَسْوِيدِ وُجُوهِهِمْ كَانَ مُنَاسِبًا لِكِبْرِيَائِهِمْ لِأَنَّ الْمُتَكَبِّرَ إِذا كَانَ سيّىء الْوَجْهِ انْكَسَرَتْ كِبْرِيَاؤُهُ لِأَنَّ الْكِبْرِيَاءَ تَضْعُفُ بِمِقْدَارِ شُعُورِ صَاحِبِهَا بِمَعْرِفَةِ النَّاس نقائصه.
[٦١]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٦١]
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر: ٦٠] إِلَى

صفحة رقم 51

آخِرِهَا، أَيْ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا مِنْ جَهَنَّمَ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُتَكَبِّرِينَ. وَهَذَا إِيذَانٌ بِأَنَّ التَّقْوَى تُنَافِي التَّكَبُّرَ لِأَنَّ التَّقْوَى كَمَالُ الْخُلُقِ الشَّرْعِيِّ وَتَقْتَضِي اجْتِنَابَ الْمَنْهِيَّاتِ وَامْتِثَالَ الْأَمْرِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَالْكِبْرُ مَرَضٌ قَلْبِيٌّ بَاطِنِيٌّ فَإِذَا كَانَ الْكِبْرُ مُلْقِيًا صَاحِبَهُ فِي النَّارِ بِحُكْمِ قَوْلِهِ: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: ٦٠] فَضِدُّ أُولَئِكَ نَاجُونَ مِنْهَا وَهُمُ الْمُتَّقُونَ إِذِ التَّقْوَى تَحُولُ دُونَ أَسْبَابِ الْعِقَابِ الَّتِي مِنْهَا الْكِبْرُ، فَالَّذِينَ اتَّقَوْا هُمْ أَهْلُ التَّقْوَى وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ، وَلِذَلِكَ فَفِعْلُ اتَّقَوْا مَنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ.
وَالْمَفَازَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا مِيمِيًّا لِلْفَوْزِ وَهُوَ الْفَلَاحُ، مِثْلَ الْمَتَابِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً [النبأ: ٣١]، وَلِحَاقُ التَّاءِ بِهِ مِنْ قَبِيلِ لِحَاقِ هَاءِ التَّأْنِيثِ بِالْمَصْدَرِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ [الْوَاقِعَة: ٢]. وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي اسْمِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٨٨]، وَالْبَاءُ
لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ مُتَلَبِّسِينَ بِالْفَوْزِ أَوِ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ بِسَبَبِ مَا حَصَلُوا عَلَيْهِ مِنَ الْفَوْزِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَفَازَةُ اسْمًا لِلْفَلَاةِ، كَمَا فِي قَوْلِ لَبِيدٍ:

لِوِرْدٍ تَقْلِصُ الْغِيطَانُ عَنْهُ يَبُذُّ مَفَازَةِ الْخِمْسِ الْكَمَالِ
سُمِّيَتْ مَفَازَةً بِاسْمِ مَكَانِ الْفَوْزِ، أَيِ النَّجَاةُ وَتَأْنِيثُهَا بِتَأْوِيلِ الْبُقْعَةِ، وَسَمَّوْهَا مَفَازَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَنْ حَلَّ بِهَا سَلِمَ مِنْ أَنْ يَلْحَقَهُ عَدُوُّهُ، كَمَا قَالَ الْعُدَيْلُ:
وَدُونَ يَدِ الْحَجَّاجِ مِنْ أَنْ تنالني بِسَاط بأيدي أَنا عجات عَرِيضُ
وَقَوْلُ النَّابِغَةِ:
تُدَافِعُ النَّاسَ عَنَّا حِينَ نَرْكَبُهَا مِنَ الْمَظَالِمِ تُدْعَى أُمُّ صَبَّارِ
وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَالْبَاءُ بِمَعْنَى (فِي). وَالْمَفَازَةُ: الْجَنَّةُ. وَإِضَافَةُ مَفَازَةٍ إِلَى ضَمِيرِهِمْ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ تَلَبُّسِهِمْ بِالْفَوْزِ حَتَّى عُرِفَ بِهِمْ كَمَا يُقَالُ: فَازَ فَوْزَ فُلَانٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِمَفازَتِهِمْ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ بِمَفَازَاتِهِمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَهِيَ تَجْرِي عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ فِي الْمَفَازَةِ لِأَنَّ

صفحة رقم 52
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية