آيات من القرآن الكريم

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ۚ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ

على ما استوى وقبض بَزَّ الآخر ومنع نفاذ أمره في سلطانه، فإذا لم يمتنع ذلك دل أنه فعل واحد، وكذلك ما ذكر من تسخير الشمس والقمر لهم ولمنافعهم وجريهما في يوم واحد مسيرة ألف عام، أو ما ذكر من غير أن يعرف أحد سيرهما أنهما يسيران وقت سيرهما إلا بعد قطعهما ذلك، دل أن لهما منشئًا وأنه واحد، ودل اتساقهما وجريانهما على سير واحد منذ كانا إلى آخر ما يكونان ويدوران على أن منشئهما واحد عالم مدبر عرف حاجة الخلق، إليهما أبد الآبدين ومنافعهما بذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى).
أي: كل مما ذكر يجري إلى الوقت الذي جعل له لا يتقدم ولا يتأخر ولا ينقطع ما كان بالخلق حاجة إليه، واللَّه اعلم.
أو إلى منازل معلومة لا يجاوزانها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ).
هو العزيز بذاته لا يتعزز بما ذكروا له من الأولاد ولا بطاعة من أطاعه، الغفار لمن كان له أهلا للمغفرة ما لا يخرج مغفرته إياه عن الحكمة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: يدخل أحدهما على الآخر؛ كقوله: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ...) الآية.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ) أي: يُغشي أحدهما بالآخر؛ كقوله: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يُكَوِّرُ)، أي: يلف هذا بهذا، وهو من يكور العمامة، ومنه قوله: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)، أي: جمعت ولفت، وأصل التكوير: اللف والجمع؛ وهو قول أبي عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦)
ظاهر هذا أنه خلقنا من تلك النفس قبل خلق زوجه منها؛ لأن حرف (ثُمَّ) إنما هو حرف إتباع وإرداف وحرف ترتيب لا حرف جمع، فإذا كان كذلك فظاهره يوجب ما ذكرنا، لكن أهل التأويل اختلفوا في معنى ذلك وتفسيره:
ذكر عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في بعض الروايات أنه تأول في ذلك، وقال: -

صفحة رقم 658

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦)
عَزَّ وَجَلَّ - (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) أو كلام نحو هذا.
وعندنا أن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) يخرج على ظاهر ما ذكر؛ لأن الخلق: هو التقدير في اللغة كأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) أي: قدركم جميعًا على كثرتكم من أول ما أنشأكم إلى آخر ما ينشئكم من تلك النفس الواحدة منها قدرنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا).
ثم أخرجنا منها -من تلك النفس- زوجها، وإلا كان تقديره إيانا منها كان قبل جعل زوجها منها وهو الظاهر على ظاهر ما خرج الكلام، واللَّه أعلم. ثم كان منه خلق ما ذكر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ).
ظاهر الإنزال هو أن ينزل من علو مرتفع إلى تسفل ومنحدر، لكن اللغة لا تمتنع عن استعمال لفظ الإنزال لا على حقيقة الإنزال من علو إلى سفل، يقال: نزل فلان بأرض أو بمكان كذا وإن لم يكن هناك منه نزول من علو إلى منحدر وسفل، فعلى ذلك هذا، وأصله أن كل حرف من حروف الإنزال وغيره مما أضيف إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - مما يستقيم صرفه إلى خلقه أن المراد منه خلقه؛ نحو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ)، (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ)، وغير ذلك مما يكثر ذكره فهو خلقه إياه؛ فعلى ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ)، أي: خلق لكم من الأنعام ما ذكر على ما ذكر: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ)، أي: خلق لكم ما ذكر، فعلى ذلك حرف الإنزال، واللَّه أعلم.
ثم ظاهر قوله: (مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) يجيء أن يكون على أحد وجوه ثلاثة:
إما ألا يسمي الأنعام ولا يكون إلا الثمانية الأزواج التي ذكر أنه خلقها لنا، فإن كان على هذا فيكون حرف (مِن) هاهنا صلة، كأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: " وأنزل لكم أنعامًا وهي ثمانية أزواج ".
أو أن يسمي كل ما خلق من الدواب: أنعامًا، إلا أنه لم يحل لنا منها إلا الثمانية الأزواج التي ذكر، فإن كان هذا فيكون حرف (مِن) حرف تبعيض وتجزئة.
أو أن يسمي كل الدواب: أنعامًا إلا أنه لم يحل لنا كل شيء منها من جميع أنواع الانتفاع بها من الأزواج التي ذكر، فإنه قد أحل لنا كل شيء من هذه الأصناف الثمانية من لحومها وألبانها وأصوافها وكل شيء منها، وأما ما سوى ذلك من الأنعام، فإنه لم يحل لنا

صفحة رقم 659

كل شيء منها من اللحوم وغيرها، ولكن أحل لنا الانتفاع بظهورها من نحو الحمير والبغال وغير ذلك مما يشتهى، واللَّه أعلم.
ثم الثمانية الأزواج التي ذكر أنها خلقها لنا في هذه الآية هي التي ذكرها في سورة الأنعام وهو قوله: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ...)، إلى قوله: (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ...)، إلى آخر ما ذكر، فيشبه أن يكون ما ذكر من ثمانية الأزواج أنه أنزل لنا في سورة الزمر التي هي أحل لنا كل شيء منها، وأما ما سوى ذلك فإنه إنما أحل لنا الانتفاع بها لم يحل لنا أكلها؛ لأنه ذكر في سورة الأنعام الأكل، ثم ذكر على أثر هذه الثمانية الأزواج الإبل والبقر والضأن والمعز، حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ)، ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ...)، إلى آخر ما ذكر، وهذا يدل على أن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ) إنما هو مما ذكر، أي: لا أجد محرمًا من هذه الأصناف الثمانية إلا ما ذكر من الدم والميتة ولحم الخنزير.
ثم يخرج استثناء لحم الخنزير مخرج استثناء غير جنس المذكور على إضمار كون ذلك الغير فيه، وذلك غير جائز في الكلام؛ كقوله: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)، كأنه قال: أحلت لكم بهيمة الأنعام والاصطياد (إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ)؛ فعلى ذلك الأول كأنه أضمر فيه استثناء لحم الخنزير منه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ).
قال أهل التأويل: تحويله من حال إلى حال من نطفة إلى علقة ثم إلى مضغة حتى يتم خلقًا مستويًا.
(فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ).
قيل: الرحم والبطن والمشيمة، وقيل: الظهر، يخبر عن قدرته وعلمه وتدبيره: أنه حيث قدر على خلق الإنسان وكل خلق في تلك الظلمات الثلاث والتسوية بين كل شيء منه من اليدين والرجلين والعينين والأذنين والسمعين والبصرين وقسمة الأعضاء على السواء حتى لا يزداد إحدى اليدين على الأخرى، وكذلك إحدى الرجلين وإحدى العينين

صفحة رقم 660
تأويلات أهل السنة
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي
تحقيق
مجدي محمد باسلوم
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان
سنة النشر
1426
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية