آيات من القرآن الكريم

كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦ ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ

وَإِنْ طَالَ عُمُرُهُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ مُصْفَرَّ اللَّوْنِ مُنْحَطِمَ الْأَعْضَاءِ وَالْأَجْزَاءِ، ثُمَّ تَكُونُ عَاقِبَتُهُ الْمَوْتَ. فَإِذَا كَانَتْ مُشَاهَدَةُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي النَّبَاتِ تُذَكِّرُهُ حُصُولَ مِثْلِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي نَفْسِهِ وَفِي حَيَاتِهِ، فَحِينَئِذٍ تَعْظُمُ نَفْرَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ ذَكَرَ مَا يُقَوِّي الرَّغْبَةَ فِي الْآخِرَةِ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُقَوِّي النَّفْرَةَ عَنِ الدُّنْيَا، فَشَرْحُ صِفَاتِ الْقِيَامَةِ يُقَوِّي الرَّغْبَةَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَشَرْحُ صِفَاتِ الدُّنْيَا يُقَوِّي النَّفْرَةَ عَنِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا قَدَّمَ التَّرْغِيبَ فِي الْآخِرَةِ عَلَى التَّنْفِيرِ عَنِ الدُّنْيَا، لِأَنَّ التَّرْغِيبَ فِي الْآخِرَةِ مَقْصُودٌ بِالذَّاتِ، وَالتَّنْفِيرَ عَنِ الدُّنْيَا مَقْصُودٌ بِالْعَرَضِ، وَالْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَقْصُودِ بِالْعَرَضِ، فَهَذَا تمام الكلام في تفسير الآية، بقي هاهنا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَحْثِ عَنِ الْأَلْفَاظِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْيَنَابِيعُ جَمْعُ يَنْبُوعٍ وَهُوَ يَفْعُولٌ مِنْ نَبَعَ يَنْبُعُ يُقَالُ نَبَعَ الْمَاءُ يَنْبَعُ وَيَنْبِعُ وَيَنْبُعُ ثَلَاثُ لُغَاتٍ ذَكَرَهَا الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ، وَقَوْلُهُ يَنابِيعَ نُصِبَ بِحَذْفِ الْخَافِضِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ فَسَلَكَهُ فِي يَنَابِيعَ ثُمَّ يَهِيجُ أَيْ يَخْضَرُّ، وَالْحُطَامُ مَا يجف ويتفتت ويكسر من النبت.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٢٢ الى ٢٨]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦)
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨)
[في قَوْلَهُ تَعَالَى أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي تَقْرِيرِ الْبَيَانَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْإِقْبَالِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَوُجُوبِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَذِهِ الْبَيَانَاتِ لَا يَكْمُلُ إِلَّا إِذَا شَرَحَ اللَّهُ الصُّدُورَ وَنَوَّرَ الْقُلُوبَ فَقَالَ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّا بَالَغْنَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الْأَنْعَامِ: ١٢٥] / فِي تَفْسِيرِ شَرْحِ الصَّدْرِ وَفِي تَفْسِيرِ الْهِدَايَةِ، وَلَا بأس بإعادة كلام قليل هاهنا، فَنَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ جَوَاهِرَ النُّفُوسِ مُخْتَلِفَةً بِالْمَاهِيَّةِ فَبَعْضُهَا خَيِّرَةٌ نُورَانِيَّةٌ شَرِيفَةٌ مَائِلَةٌ إِلَى الْإِلَهِيَّاتِ عَظِيمَةُ الرَّغْبَةِ فِي الِاتِّصَالِ بِالرُّوحَانِيَّاتِ، وَبَعْضُهَا نَذْلَةٌ كَدِرَةٌ خَسِيسَةٌ مَائِلَةٌ إِلَى الْجُسْمَانِيَّاتِ وَفِي هَذَا التَّفَاوُتِ أَمْرٌ حَاصِلٌ فِي جَوَاهِرِ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ، وَالِاسْتِقْرَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ الْمُرَادُ بِشَرْحِ الصَّدْرِ هُوَ ذَلِكَ الِاسْتِعْدَادُ الشَّدِيدُ الْمَوْجُودُ فِي فِطْرَةِ النَّفْسِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الِاسْتِعْدَادُ الشَّدِيدُ حَاصِلًا كَفَى خُرُوجُ تِلْكَ الْحَالَةِ مِنَ الْقُوَّةِ إِلَى

صفحة رقم 440

الْفِعْلِ بِأَدْنَى سَبَبٍ، مِثْلَ الْكِبْرِيتِ الَّذِي يَشْتَعِلُ بِأَدْنَى نَارٍ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ النَّفْسُ بَعِيدَةً عَنْ قَبُولِ هَذِهِ الْجَلَايَا الْقُدْسِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الرُّوحَانِيَّةِ، بَلْ كَانَتْ مُسْتَغْرِقَةً فِي طَلَبِ الْجُسْمَانِيَّاتِ قَلِيلَةَ التَّأَثُّرِ عَنِ الْأَحْوَالِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْإِلَهِيَّاتِ فَكَانَتْ قَاسِيَةً كَدِرَةً ظَلْمَانِيَّةً، وَكُلَّمَا كَانَ إِيرَادُ الدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ وَالْبَرَاهِينِ الْبَاهِرَةِ عَلَيْهَا أَكْثَرَ كَانَتْ قَسْوَتُهَا وَظُلْمَتُهَا أَقَلَّ. إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ فَنَقُولُ. أَمَّا شَرْحُ الصَّدْرِ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا النُّورُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْهِدَايَةِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَمَا لَمْ يَحْصُلْ شَرْحُ الصَّدْرِ أَوَّلًا لَمْ يَحْصُلِ النُّورُ ثَانِيًا، وَإِذَا كَانَ الْحَاصِلُ هُوَ الْقُوَّةَ النَّفْسَانِيَّةَ لَمْ يَحْصُلِ الِانْتِفَاعُ الْبَتَّةَ بِسَمَاعِ الدَّلَائِلِ، وَرُبَّمَا صَارَ سَمَاعُ الدَّلَائِلِ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْقَسْوَةِ وَلِشِدَّةِ النَّفْرَةِ فَهَذِهِ أُصُولٌ يَقِينِيَّةٌ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً عِنْدَ الْإِنْسَانِ حَتَّى يُمْكِنَهُ الْوُقُوفُ عَلَى مَعَانِي هَذِهِ الْآيَاتِ، أَمَّا اسْتِدْلَالُ أَصْحَابِنَا فِي مَسْأَلَةِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ وَكَلَامُ الْخُصُومِ عَلَيْهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ محذوف الخبر كما في قوله: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ [الزمر: ٩] وَالتَّقْدِيرُ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَاهْتَدَى كَمَنْ طُبِعَ عَلَى قَلْبِهِ فَلَمْ يَهْتَدِ لِقَسْوَتِهِ، وَالْجَوَابُ مَتْرُوكٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ دَلَّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ سَبَبٌ لِحُصُولِ النُّورِ وَالْهِدَايَةِ وَزِيَادَةِ الِاطْمِئْنَانِ كَمَا قَالَ: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْدِ: ٢٨] فَكَيْفَ جَعَلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ سَبَبًا لِحُصُولِ قَسْوَةِ الْقَلْبِ، وَالْجَوَابُ أَنْ نَقُولَ إِنَّ النَّفْسَ إِذَا كَانَتْ خَبِيثَةَ الْجَوْهَرِ كَدِرَةَ الْعُنْصُرِ بَعِيدَةً عَنْ مُنَاسَبَةِ الرُّوحَانِيَّاتِ شَدِيدَةَ الْمَيْلِ إِلَى الطَّبَائِعِ الْبَهِيمِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، فَإِنَّ سَمَاعَهَا لِذِكْرِ اللَّهِ يَزِيدُهَا قَسْوَةً وَكُدُورَةً، وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ بِالْأَمْثِلَةِ فَإِنَّ الْفَاعِلَ الْوَاحِدَ تَخْتَلِفُ أَفْعَالُهُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْقَوَابِلِ كَنُورِ الشَّمْسِ يُسَوِّدُ وجه القصار ويبيض ثوبه، وحرارة الشمس وَتُعَقِّدُ الْمِلْحَ، وَقَدْ نَرَى إِنْسَانًا وَاحِدًا يَذْكُرُ كَلَامًا وَاحِدًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَيَسْتَطِيبُهُ وَاحِدٌ وَيَسْتَكْرِهُهُ غَيْرُهُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنِ اخْتِلَافِ جَوَاهِرِ النُّفُوسِ، وَمِنِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ تِلْكَ النُّفُوسِ، وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ وَكَانَ قَدْ حَضَرَ هُنَاكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وإنسان آخر فلما انتهى رسول الله عليه السّلام إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ قَالَ كُلٌّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٢- ١٤]
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ «اكْتُبْ فَهَكَذَا أُنْزِلَتْ»
فَازْدَادَ عُمَرُ إِيمَانًا عَلَى إِيمَانٍ وَازْدَادَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ كُفْرًا عَلَى كُفْرٍ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا لَمْ يَبْعُدْ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ اللَّهِ يُوجِبُ النُّورَ وَالْهِدَايَةَ وَالِاطْمِئْنَانَ فِي النُّفُوسِ الطَّاهِرَةِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَيُوجِبُ الْقَسْوَةَ وَالْبُعْدَ عَنِ الْحَقِّ فِي النُّفُوسِ الْخَبِيثَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّ رَأَسَ الْأَدْوِيَةِ الَّتِي تُفِيدُ الصِّحَّةَ الرُّوحَانِيَّةَ وَرَئِيسُهَا هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا اتَّفَقَ لِبَعْضِ النُّفُوسِ أَنْ صَارَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى سَبَبًا لِازْدِيَادِ مَرَضِهَا كَانَ مَرَضُ تِلْكَ النَّفْسِ مَرَضًا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ وَلَا يُتَوَقَّعُ عِلَاجُهُ وَكَانَتْ فِي نِهَايَةِ الشَّرِّ وَالرَّدَاءَةِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَهَذَا كَلَامٌ كَامِلٌ مُحَقَّقٌ، وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ أَرْدَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ سَبَبٌ لِحُصُولِ النُّورِ وَالشِّفَاءِ وَالْهِدَايَةِ وَزِيَادَةِ الِاطْمِئْنَانِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، ثُمَّ إِنَّهُ فِي حَقِّ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ صَارَ سَبَبًا لِمَزِيدِ الْقَسْوَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ جَوْهَرَ تِلْكَ النَّفْسِ قَدْ بَلَغَ فِي الرَّدَاءَةِ وَالْخَسَاسَةِ إِلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ، فَنَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْقُرْآنَ بِأَنْوَاعٍ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ.
الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وَفِيهِ مسائل:

صفحة رقم 441

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَائِلُونَ بِحُدُوثِ الْقُرْآنِ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ حَدِيثًا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [الطُّورِ: ٣٤] وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ [الْوَاقِعَةِ: ٨١] وَالْحَدِيثُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ حَادِثًا، قَالُوا بَلِ الْحَدِيثُ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْحُدُوثِ مِنَ الْحَادِثِ لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هَذَا حَدِيثٌ وَلَيْسَ بِعَتِيقٍ، وَهَذَا عَتِيقٌ وَلَيْسَ بِحَادِثٍ، فَثَبَتَ أَنَّ الْحَدِيثَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِالْحَدِيثِ، وَسُمِّيَ الْحَدِيثُ حَدِيثًا لِأَنَّهُ مُؤَلَّفٌ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْكَلِمَاتِ، وَتِلْكَ الْحُرُوفُ وَالْكَلِمَاتُ تَحْدُثُ حَالًا فَحَالًا وَسَاعَةً فَسَاعَةً، فَهَذَا تَمَامُ تَقْرِيرِ هَذَا الْوَجْهِ.
أَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ اسْتِدْلَالِ الْقَوْمِ أَنْ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِأَنَّهُ نَزَّلَهُ وَالْمُنَزَّلُ يَكُونُ فِي مَحَلِّ تَصَرُّفِ الْغَيْرِ. وَمَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ وَحَادِثٌ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي بَيَانِ اسْتِدْلَالِ الْقَوْمِ أَنْ قَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هُوَ مِنْ جِنْسِ سَائِرِ الْأَحَادِيثِ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ زَيْدٌ أَفْضَلُ الْإِخْوَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ زَيْدٌ مُشَارِكًا لِأُولَئِكَ الْأَقْوَامِ فِي صِفَةِ الْأُخُوَّةِ وَيَكُونَ مِنْ جِنْسِهِمْ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ جِنْسِ سَائِرِ الْأَحَادِيثِ، وَلَمَّا كَانَ سَائِرُ الْأَحَادِيثِ حَادِثَةً وَجَبَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ حَادِثًا.
أَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي الِاسْتِدْلَالِ أَنْ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ كِتَابًا وَالْكِتَابُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْكُتْبَةِ وَهِيَ الِاجْتِمَاعُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَجْمُوعٌ جَامِعٌ وَمَحَلُ تَصَرُّفِ مُتَصَرِّفٍ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُحْدَثًا وَالْجَوَابُ: أَنْ نَقُولَ نَحْمِلُ هَذَا الدَّلِيلَ عَلَى الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَالْأَلْفَاظِ وَالْعِبَارَاتِ، وَذَلِكَ الْكَلَامُ عِنْدَنَا مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُ الْقُرْآنِ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ بِحَسَبِ لَفْظِهِ أَوْ بِحَسَبِ مَعْنَاهُ.
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ بِحَسَبِ لَفْظِهِ وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْحُسْنُ لِأَجْلِ الْفَصَاحَةِ وَالْجَزَالَةِ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِحَسَبِ النَّظْمِ فِي الْأُسْلُوبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الشِّعْرِ، وَلَا مِنْ جِنْسِ الْخُطَبِ. وَلَا مِنْ جِنْسِ الرَّسَائِلِ، بَلْ هُوَ نَوْعٌ يُخَالِفُ الْكُلَّ، مَعَ أَنَّ كُلَّ ذِي طَبْعٍ سَلِيمٍ يَسْتَطِيبُهُ وَيَسْتَلِذُّهُ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كَوْنُهُ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ لِأَجْلِ الْمَعْنَى، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كِتَابٌ مُنَزَّهٌ عَنِ التَّنَاقُضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاءِ: ٨٢] وَمِثْلُ هَذَا الْكِتَابِ إِذَا خَلَا عَنِ التَّنَاقُضِ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْوَجْهُ الثَّانِي: اشْتِمَالُهُ عَلَى الْغُيُوبِ الْكَثِيرَةِ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعُلُومَ الْمَوْجُودَةَ فِيهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَضَبْطُ هَذِهِ الْعُلُومِ أَنْ نَقُولَ: الْعُلُومُ النَّافِعَةُ هِيَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الْبَقَرَةِ:
٢٨٥] فَهَذَا أَحْسَنُ ضَبْطٍ يُمْكِنُ ذِكْرُهُ لِلْعُلُومِ النَّافِعَةِ.
أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: مَعْرِفَةُ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ

صفحة رقم 442

وَالْأَحْكَامِ وَالْأَسْمَاءِ. أَمَّا مَعْرِفَةُ الذَّاتِ فَهِيَ أَنْ يَعْلَمَ وُجُودَ اللَّهِ وَقِدَمَهُ وَبَقَاءَهُ. وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الصِّفَاتِ فَهِيَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْهُ، وَهُوَ كَوْنُهُ جَوْهَرًا وَمُرَكَّبًا مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْأَجْزَاءِ وَكَوْنُهُ مُخْتَصًّا بِحَيِّزٍ وَجِهَةٍ، وَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الدَّالَّةَ عَلَى التَّنْزِيهِ أَرْبَعَةٌ: لَيْسَ وَلَمْ وَمَا وَلَا، وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ، مَذْكُورَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لِبَيَانِ التَّنْزِيهِ.
أَمَّا كَلِمَةُ لَيْسَ فَقَوْلُهُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: ١١] وَأَمَّا كَلِمَةُ لَمْ، فَقَوْلُهُ: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الْإِخْلَاصِ: ٣، ٤] وَأَمَّا كَلِمَةُ مَا فَقَوْلُهُ: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مَرْيَمَ: ٦٤]، مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مَرْيَمَ: ٣٥] وَأَمَّا كَلِمَةُ لَا، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٥]، وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الْأَنْعَامِ: ١٤]، وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٨٨]، وَقَوْلُهُ فِي سَبْعَةٍ وَثَلَاثِينَ مَوْضِعًا مِنَ الْقُرْآنِ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد: ١٩].
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: وَهِيَ الصِّفَاتُ الَّتِي يَجِبُ كونه موصوفا بها من القرآن فأولها الْعِلْمُ بِاللَّهِ، وَالْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مُحْدِثًا خَالِقًا، قَالَ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَامِ: ١] وثانيها: الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ قَادِرًا، قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْقِيَامَةِ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [الْقِيَامَةِ: ٤] وَقَالَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى [القيامة: ٤٠] وثالثها: الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا، قَالَ تَعَالَى:
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [الحشر: ٢٢] ورابعها: الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، قَالَ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الْأَنْعَامِ: ٥٩] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى [الرعد: ٨] وخامسها: الْعِلْمُ/ بِكَوْنِهِ حَيًّا، قَالَ تَعَالَى: هُوَ الْحَيُّ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غافر: ٦٥] وسادسها: الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مُرِيدًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام: ١٢٥] وسابعها: كَوْنُهُ سَمِيعًا بَصِيرًا، قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشُّورَى: ١١] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: ٤٦] وثامنها: كونه متكلما، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ [لقمان: ٢٧] وتاسعها: كَوْنُهُ آمِرًا، قَالَ تَعَالَى: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الرُّومِ: ٤] وعاشرها: كَوْنُهُ رَحْمَانًا رَحِيمًا مَالِكًا، قَالَ تَعَالَى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الْفَاتِحَةِ: ٣، ٤] فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَعْرِفَةِ الصِّفَاتِ الَّتِي يَجِبُ اتِّصَافُهُ بِهَا.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَفْعَالُ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَفْعَالَ إِمَّا أَرْوَاحٌ وَإِمَّا أَجْسَامٌ. أَمَّا الْأَرْوَاحُ فَلَا سَبِيلَ لِلْوُقُوفِ عَلَيْهَا إِلَّا لِلْقَلِيلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [الْمُدَّثِّرِ: ٣١] وَأَمَّا الْأَجْسَامُ، فَهِيَ إِمَّا الْعَالَمُ الْأَعْلَى وَإِمَّا الْعَالَمُ الْأَسْفَلُ. أَمَّا الْعَالَمُ الْأَعْلَى فَالْبَحْثُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: الْبَحْثُ عَنْ أحوال السموات، وَثَانِيهَا: الْبَحْثُ عَنْ أَحْوَالِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ [الْأَعْرَافِ: ٥٤] وَثَالِثُهَا: الْبَحْثُ عَنْ أَحْوَالِ الْأَضْوَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النُّورِ:
٣٥] وَقَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً [يُونُسَ: ٥] وَرَابِعُهَا: الْبَحْثُ عَنْ أَحْوَالِ الظِّلَالِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً [الْفُرْقَانِ: ٤٥] وَخَامِسُهَا:
اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ [الزمر: ٥]

صفحة رقم 443

وَسَادِسُهَا: مَنَافِعُ الْكَوَاكِبِ، قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الْأَنْعَامِ: ٩٧] وَسَابِعُهَا: صِفَاتُ الْجَنَّةِ، قَالَ تَعَالَى: وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الْحَدِيدِ: ٢١] وَثَامِنُهَا: صِفَاتُ النَّارِ، قَالَ تَعَالَى: لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الْحِجْرِ: ٤٤] وَتَاسِعُهَا:
صِفَةُ الْعَرْشِ، قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ [غَافِرٍ: ٧] وَعَاشِرُهَا: صِفَةُ الْكُرْسِيِّ، قَالَ تَعَالَى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٥] وَحَادِيَ عَشَرَهَا: صِفَةُ اللَّوْحِ وَالْقَلَمِ. أَمَّا اللَّوْحُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [الْبُرُوجِ: ٢١، ٢٢] وَأَمَّا الْقَلَمُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ [الْقَلَمِ: ١].
وَأَمَّا شَرْحُ أَحْوَالِ الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ فَأَوَّلُهَا: الْأَرْضُ، وَقَدْ وَصَفَهَا بِصِفَاتٍ كَثِيرَةٍ إِحْدَاهَا: كَوْنُهُ مَهْدًا، قَالَ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً [طه: ٥٣] وثانيها: كَوْنُهُ مِهَادًا، قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ: ٦] وثالثها: كَوْنُهُ كِفَاتًا، قَالَ تَعَالَى: كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً [المرسلات: ٢٤، ٢٥] ورابعها: الذَّلُولُ، قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا [الْمُلْكِ: ١٥] وخامسها: كَوْنُهُ بِسَاطًا، قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً [نُوحٍ: ١٩، ٢٠] وَالْكَلَامُ فِيهِ طَوِيلٌ وَثَانِيهَا: الْبَحْرُ، قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا [النَّحْلِ: ١٤] وَثَالِثُهَا: الْهَوَاءُ وَالرِّيَاحُ. قَالَ تَعَالَى: / وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الْأَعْرَافِ: ٥٧] وَقَالَ تَعَالَى:
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [الْحِجْرِ: ٢٢] وَرَابِعُهَا: الْآثَارُ الْعُلْوِيَّةُ كَالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ، قَالَ تَعَالَى: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [الرَّعْدِ: ١٣] وَقَالَ تَعَالَى: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [النور: ٤٣] وَمِنْ هَذَا الْبَابِ ذِكْرُ الصَّوَاعِقِ وَالْأَمْطَارِ وَتَرَاكُمِ السَّحَابِ وَخَامِسُهَا: أَحْوَالُ الْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ وَأَنْوَاعِهَا وَأَصْنَافِهَا، وَسَادِسُهَا: أَحْوَالُ الْحَيَوَانَاتِ، قَالَ تَعَالَى: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ [الْبَقَرَةِ: ١٦٤] وَقَالَ: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ [النَّحْلِ: ٥] وَسَابِعُهَا: عَجَائِبُ تَكْوِينِ الْإِنْسَانِ فِي أَوَّلِ الْخِلْقَةِ، قَالَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٢] وَثَامِنُهَا: الْعَجَائِبُ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَلِسَانِهِ وَعَقْلِهِ وَفَهْمِهِ وَتَاسِعُهَا: تَوَارِيخُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُلُوكِ وَأَحْوَالُ النَّاسِ مِنْ أَوَّلِ خَلْقِ الْعَالَمِ إِلَى آخِرِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ، وَعَاشِرُهَا ذِكْرُ أَحْوَالِ النَّاسِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ، وَكَيْفِيَّةُ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَشَرْحُ أَحْوَالِ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ، فَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى عَشَرَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعُلُومِ فِي عالم السموات، وَإِلَى عَشَرَةٍ أُخْرَى فِي عَالَمِ الْعَنَاصِرِ، وَالْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى شَرْحِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْعُلُومِ الْعَالِيَةِ الرَّفِيعَةِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ شَرْحُ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكَالِيفِهِ، فَنَقُولُ هَذِهِ التَّكَالِيفُ إِمَّا أَنْ تَحْصُلَ فِي أَعْمَالِ الْقُلُوبِ أَوْ فِي أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ.
أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ الْمُسَمَّى بِعِلْمِ الْأَخْلَاقِ وَبَيَانِ تَمْيِيزِ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاسِدَةِ وَالْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى كُلِّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النَّحْلِ: ٩٠]، وَقَالَ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الْأَعْرَافِ: ١٩٩].

صفحة رقم 444

وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ التَّكَالِيفُ الْحَاصِلَةُ فِي أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِعِلْمِ الْفِقْهِ وَالْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى جُمْلَةِ أُصُولِ هَذَا الْعِلْمِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ: وَهُوَ مَعْرِفَةُ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مَذْكُورٌ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الْأَعْرَافِ: ١٨٠] فَهَذَا كُلُّهُ يَتَعَلَّقُ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: مِنَ الْأُصُولِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْإِيمَانِ الْإِقْرَارُ بِالْمَلَائِكَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٥] وَالْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى شَرْحِ صِفَاتِهِمْ تَارَةً عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ وَأُخْرَى عَلَى طَرِيقِ التَّفْصِيلِ، أَمَّا بِالْإِجْمَالِ فَقَوْلُهُ: وَمَلائِكَتِهِ وَأَمَّا بِالتَّفْصِيلِ فَمِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ رُسُلُ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى:
جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فَاطِرٍ: ١] وَمِنْهَا أَنَّهَا مُدَبِّرَاتٌ لِهَذَا الْعَالَمِ، قَالَ تَعَالَى: فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً [الذاريات: ٤] فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً [النَّازِعَاتِ: ٥] وَقَالَ تَعَالَى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا [الصَّافَّاتِ: ١] وَمِنْهَا حَمَلَةُ الْعَرْشِ قَالَ: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الْحَاقَّةِ: ١٧] وَمِنْهَا الْحَافُّونَ حَوْلَ الْعَرْشِ قَالَ:
وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزُّمَرِ: ٧٥] وَمِنْهَا خَزَنَةُ النَّارِ قَالَ تَعَالَى: عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ [التَّحْرِيمِ: ٦] وَمِنْهَا الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ قَالَ: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ [الِانْفِطَارِ: ١٠، ١١] وَمِنْهَا الْمُعَقِّبَاتُ قَالَ تَعَالَى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [الرَّعْدِ: ١١] وَقَدْ يَتَّصِلُ بِأَحْوَالِ الْمَلَائِكَةِ أَحْوَالُ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مِنَ الْأُصُولِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْإِيمَانِ مَعْرِفَةُ الْكُتُبِ وَالْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى شَرْحِ أَحْوَالِ كِتَابِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ [الْبَقَرَةِ: ٣٧] وَمِنْهَا أَحْوَالُ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [الْبَقَرَةِ: ١٢٤] وَمِنْهَا أَحْوَالُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مِنَ الْأُصُولِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْإِيمَانِ مَعْرِفَةُ الرُّسُلِ وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ شَرَحَ أَحْوَالَ الْبَعْضِ وَأَبْهَمَ أَحْوَالَ الْبَاقِينَ قَالَ: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غَافِرٍ: ٧٨].
الْقِسْمُ الْخَامِسُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الْمُكَلَّفِينَ وَهِيَ عَلَى نَوْعَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنْ يُقِرُّوا بِوُجُوبِ هَذِهِ التَّكَالِيفِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا، الثَّانِي: أَنْ يَعْتَرِفُوا بِصُدُورِ التَّقْصِيرِ عَنْهُمْ فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ ثُمَّ طَلَبُوا الْمَغْفِرَةَ وَهُوَ الْمُرَادُ من قوله: غُفْرانَكَ رَبَّنا ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ مَقَادِيرُ رُؤْيَةِ التَّقْصِيرِ فِي مَوَاقِفِ الْعُبُودِيَّةِ بِحَسَبِ الْمُكَاشَفَاتِ فِي مُطَالَعَةِ عِزَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ أَكْثَرَ، كَانَتِ الْمُكَاشَفَاتُ فِي تَقْصِيرِ الْعُبُودِيَّةِ أَكْثَرَ وَكَانَ قَوْلُهُ: غُفْرانَكَ رَبَّنا أَكْثَرَ.
الْقِسْمُ السَّادِسُ: مَعْرِفَةُ الْمَعَادِ وَالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٥] وَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَطَالِبِ الْمُهِمَّةِ فِي طَلَبِ الدِّينِ، وَالْقُرْآنُ بَحْرٌ لَا نِهَايَةَ لَهُ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَطَالِبِ وَتَعْرِيفِهَا وَشَرْحِهَا وَلَا تَرَى فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا كِتَابًا يَشْتَمِلُ عَلَى جُمْلَةِ هَذِهِ الْعُلُومِ كَمَا يَشْتَمِلُ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا. وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ عَلِمَ أَنَّا لَمْ نَذْكُرْ مِنْ بِحَارِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ إِلَّا قَطْرَةً، وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ، لَا جَرَمَ مَدَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْقُرْآنَ فَقَالَ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ
وَاللَّهُ أعلم.

صفحة رقم 445

الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى كِتاباً مُتَشابِهاً أَمَّا الْكِتَابُ فَقَدْ فَسَّرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَةِ: ٢] وَأَمَّا كَوْنُهُ مُتَشَابِهًا فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مُتَشَابِهٌ. وَقَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آلِ عِمْرَانَ: ٧] يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْبَعْضِ مُتَشَابِهًا دُونَ الْبَعْضِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ كُلِّهِ مُتَشَابِهًا كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَأَقُولُ هَذَا التَّشَابُهُ يَحْصُلُ فِي أُمُورٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْكَاتِبَ الْبَلِيغَ إِذَا كَتَبَ كِتَابًا طَوِيلًا، فَإِنَّهُ يَكُونُ بَعْضُ كَلِمَاتِهِ فَصِيحًا، وَيَكُونُ الْبَعْضُ غَيْرَ فَصِيحٍ، وَالْقُرْآنُ يُخَالِفُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ فَصِيحٌ كَامِلُ الْفَصَاحَةِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْفَصِيحَ إِذَا كَتَبَ كِتَابًا فِي وَاقِعَةٍ بِأَلْفَاظٍ فَصَيْحَةٍ فَلَوْ كَتَبَ كِتَابًا آخَرَ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ كَانَ الْغَالِبُ أَنَّ كَلَامَهُ فِي الْكِتَابِ الثَّانِي غَيْرُ كَلَامِهِ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَاللَّهُ تَعَالَى حَكَى قِصَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَكُلُّهَا مُتَسَاوِيَةٌ مُتَشَابِهَةٌ فِي الْفَصَاحَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ كُلَّ مَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْبَيَانَاتِ فَإِنَّهُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا وَيُؤَكِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الْكَثِيرَةَ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي عَدَدْنَاهَا مُتَشَابِهَةً مُتَشَارِكَةٌ فِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا بِأَسْرِهَا الدَّعْوَةُ إِلَى/ الدِّينِ وَتَقْرِيرُ عَظَمَةِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّكَ لَا تَرَى قِصَّةً مِنَ الْقِصَصِ إِلَّا وَيَكُونُ مُحَصِّلُهَا الْمَقْصُودَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ مُتَشَابِهًا، وَاللَّهُ الْهَادِي.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: مِنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ كَوْنُهُ مَثَانِيَ وَقَدْ بَالَغْنَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ عِنْدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الْحِجْرِ: ٨٧] وَبِالْجُمْلَةِ فَأَكْثَرُ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ وَقَعَتْ زَوْجَيْنِ زَوْجَيْنِ مِثْلَ: الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ، والمجمل والمفصل، وأحوال السموات وَالْأَرْضِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالظُّلْمَةِ وَالضَّوْءِ، وَاللَّوْحِ وَالْقَلَمِ، وَالْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ، وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى الْحَقِّ زَوْجٌ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مُبْتَلًى بِضِدِّهِ وَنَقِيضِهِ وَأَنَّ الْفَرْدَ الْأَحَدَ الْحَقَّ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ.
الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: مِنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وفيه مسائل:
المسألة الأولى: معنى تقشعر جلودهم تَأْخُذُهُمْ قُشَعْرِيرَةٌ وَهِيَ تَغَيُّرٌ يَحْدُثُ فِي جِلْدِ الْإِنْسَانِ عِنْدَ الْوَجَلِ وَالْخَوْفِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ آيَاتِ الرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ يَحْصُلُ لَهُمُ الْفَرَحُ فَتَلِينُ قُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَأَقُولُ إِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْعَارِفِينَ قَالُوا: السَّائِرُونَ في مبدأ إجلال اللَّهِ إِنْ نَظَرُوا إِلَى عَالَمِ الْجَلَالِ طَاشُوا، وَإِنْ لَاحَ لَهُمْ أَثَرٌ مِنْ عَالَمِ الْجَمَالِ عَاشُوا، وَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَذْكُرَ فِي هَذَا الْبَابِ مَزِيدَ شَرْحٍ وَتَقْرِيرٍ، فَنَقُولَ الْإِنْسَانُ إِذَا تَأَمَّلَ فِي الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنِ التَّحَيُّزِ وَالْجِهَةِ. فَهُنَا يَقْشَعِرُّ جِلْدُهُ، لِأَنَّ إِثْبَاتَ مَوْجُودٍ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ ولا خارج وَلَا مُتَّصِلٌ بِالْعَالَمِ وَلَا مُنْفَصِلٌ عَنِ الْعَالَمِ، مِمَّا يَصْعُبُ تَصَوُّرُهُ فَهَهُنَا تَقْشَعِرُّ الْجُلُودُ، أَمَّا إِذَا تَأَمَّلَ فِي الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فَرْدًا أَحَدًا، وَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مُتَحَيِّزٍ فَهُوَ مُنْقَسِمٌ فَهَهُنَا يَلِينُ جِلْدُهُ وَقَلْبُهُ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ. وَأَيْضًا إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحِيطَ عَقْلُهُ بِمَعْنَى الْأَزَلِ فَيَتَقَدَّمَ فِي ذِهْنِهِ بِمِقْدَارِ أَلْفِ أَلْفِ سَنَةٍ ثُمَّ يَتَقَدَّمَ أَيْضًا بِحَسَبِ كُلِّ لَحْظَةٍ مِنْ لَحَظَاتِ تِلْكَ الْمُدَّةِ أَلْفِ أَلْفِ سَنَةٍ، وَلَا يَزَالُ يَحْتَالُ وَيَتَقَدَّمُ وَيَتَخَيَّلُ فِي الذِّهْنِ، فَإِذَا بَالَغَ وَتَوَغَّلَ وَظَنَّ أَنَّهُ اسْتَحْضَرَ مَعْنَى الْأَزَلِ قَالَ الْعَقْلُ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ كُلَّ مَا اسْتَحْضَرْتُهُ فِيَّ فَهُوَ مُتَنَاهٍ وَالْأَزَلُ هُوَ الْوُجُودُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ الْمُتَنَاهِيَةِ، فَهَهُنَا يَتَحَيَّرُ الْعَقْلُ وَيَقْشَعِرُّ الْجِلْدُ، وَأَمَّا إِذَا تَرَكَ

صفحة رقم 446

هذا الاعتبار وقال هاهنا مَوْجُودٌ وَالْمَوْجُودُ إِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَهُوَ دَائِمًا مُنَزَّهٌ عَنِ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْوَاجِبِ فَيَكُونُ أَزَلِيًّا أَبَدِيًّا، فَإِذَا اعْتَبَرَ الْعَقْلُ فَهِمَ مَعْنَى الْأَزَلِيَّةِ فَهَهُنَا يَلِينُ جِلْدُهُ وَقَلْبُهُ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَقَامَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْآيَةِ لَا يَجِبُ قَصْرُهُمَا عَلَى سَمَاعِ آية العذاب وآية الرحمة، بل ذاك أول تِلْكَ الْمَرَاتِبِ وَبَعْدَهُ مَرَاتِبُ لَا حَدَّ لَهَا وَلَا حَصْرَ فِي حُصُولِ تِلْكَ الْحَالَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: الْقُرْآنُ دَلَّ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَ/ اللَّهِ مَوْصُوفُونَ بِأَنَّهُمْ عِنْدَ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ، تَارَةً تَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ وَأُخْرَى تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ. وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ عُقُولَهُمْ تَزُولُ وَأَنَّ أَعْضَاءَهُمْ تَضْطَرِبُ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْأَحْوَالَ لَوْ حَصَلَتْ لَكَانَتْ مِنَ الشيطان، وأقول هاهنا بَحْثٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ الْغَزَالِيَّ أَوْرَدَ مَسْأَلَةً فِي كِتَابِ «إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ»، وَهِيَ أَنَّا نَرَى كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَظْهَرُ عَلَيْهِ الْوَجْدُ الشَّدِيدُ التَّامُّ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَبْيَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى شَرْحِ الْوَصْلِ وَالْهَجْرِ، وَعِنْدَ سَمَاعِ الْآيَاتِ لَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، ثُمَّ إِنَّهُ سَلَّمَ هَذَا الْمَعْنَى وَذَكَرَ الْعُذْرَ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَأَنَا أَقُولُ: إِنِّي خُلِقْتُ مَحْرُومًا عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنِّي كُلَّمَا تَأَمَّلْتُ فِي أَسْرَارِ الْقُرْآنِ اقْشَعَرَّ جلدي وقف على شَعْرِي وَحَصَلَتْ فِي قَلْبِي دَهْشَةٌ وَرَوْعَةٌ، وَكُلَّمَا سَمِعْتُ تِلْكَ الْأَشْعَارِ غَلَبَ الْهَزْلُ عَلَيَّ وَمَا وَجَدْتُ أَلْبَتَّةَ فِي نَفْسِي مِنْهَا أَثَرًا، وَأَظُنُّ أَنَّ الْمَنْهَجَ الْقَوِيمَ وَالصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ هَذَا، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ تِلْكَ الْأَشْعَارَ كَلِمَاتٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى وَصْلٍ وَهَجْرٍ وَبُغْضٍ وَحُبٍّ تَلِيقُ بِالْخَلْقِ، وَإِثْبَاتُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كُفْرٌ، وَأَمَّا الِانْتِقَالُ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ إِلَى مَعَانٍ لَائِقَةٍ بِجَلَالِ اللَّهِ فَلَا يَصِلُ إِلَيْهَا إِلَّا الْعُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، وَأَمَّا الْمَعَانِي الَّتِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ فَهِيَ أَحْوَالٌ لَائِقَةٌ بِجَلَالِ اللَّهِ، فَمَنْ وَقَفَ عَلَيْهَا عَظُمَ الْوَلَهُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ نُورُ الْإِيمَانِ وَجَبَ أَنْ يَعْظُمَ اضْطِرَابُهُ عِنْدَ سَمَاعِ قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الْأَنْعَامِ: ٥٩] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنِّي سَمِعْتُ بَعْضَ الْمَشَايِخِ قَالَ كَمَا أَنَّ الْكَلَامَ لَهُ أَثَرٌ فَكَذَلِكَ صُدُورُ ذَلِكَ الْكَلَامِ مِنَ الْقَائِلِ الْمُعَيَّنِ لَهُ أَثَرٌ، لِأَنَّ قُوَّةَ نَفْسِ الْقَائِلِ تُعِينُ عَلَى نَفَاذِ الْكَلَامِ فِي الرُّوحِ، وَالْقَائِلُ فِي الْقُرْآنِ هُنَا هُوَ اللَّهُ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ بِتَبْلِيغِ الرَّسُولِ الْمَعْصُومِ، وَالْقَائِلُ هُنَاكَ شَاعِرٌ كَذَّابٌ مَمْلُوءٌ مِنَ الشَّهْوَةِ وَدَاعِيَةِ الْفُجُورِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَدَارَ الْقُرْآنِ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [الشُّورَى: ٥٢، ٥٣] وَأَمَّا الشِّعْرُ فَمَدَارُهُ عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ تَعَالَى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ [الشُّعَرَاءِ: ٢٢٤، ٢٢٦] فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ فُرُوقٌ ظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوُجْدَانِ مِنَ النَّفْسِ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ إِنَّمَا يُخْبِرُ عَمَّا يَجِدُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَالَّذِي وَجَدْتُهُ مِنَ النَّفْسِ وَالْعَقْلِ مَا ذَكَرْتُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي بَيَانِ مَا بَقِيَ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَذْكُرُهَا فِي مَعْرِضِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ.
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ تَرْكِيبُ لَفْظِ الْقُشَعْرِيرَةِ الْجَوَابُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» تَرْكِيبُهُ مِنْ حُرُوفِ التَّقَشُّعِ وَهُوَ الْأَدِيمُ الْيَابِسُ مَضْمُومًا إِلَيْهَا حَرْفٌ رَابِعٌ وَهُوَ الرَّاءُ لِيَكُونَ رُبَاعِيًّا وَدَالًّا عَلَى مَعْنًى زَائِدٍ يُقَالُ: اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ من الخوف وقف شَعْرُهُ، وَذَلِكَ مَثَلٌ فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ قَالَ: تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَمَا الْوَجْهُ فِي تَعَدِّيهِ/ بِحَرْفِ إِلَى؟
وَالْجَوَابُ: التَّقْدِيرُ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ حَالَ وُصُولِهَا إِلَى حَضْرَةِ اللَّهِ وَهُوَ لَا يُحَسُّ بالإدراك.

صفحة رقم 447

السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قَالَ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ إِلَى ذِكْرِ رَحْمَةِ اللَّهِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ لِأَجْلِ رَحْمَتِهِ فَهُوَ مَا أَحَبَّ اللَّهَ، وَإِنَّمَا أَحَبَّ شَيْئًا غَيْرَهُ، وَأَمَّا مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ لَا لِشَيْءٍ سِوَاهُ فَهَذَا هُوَ الْمُحِبُّ الْمُحِقُّ وَهُوَ الدَّرَجَةُ الْعَالِيَةُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ لَمْ يَقُلْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ رَحْمَةِ اللَّهِ بَلْ قَالَ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الْأَنْعَامِ: ١٢٥] وَفِي قَوْلِهِ:
أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: ٢٨] وأيضا قال لأمة موسى: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٤٠] وَقَالَ أَيْضًا لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٥٢].
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: لِمَ قَالَ فِي جَانِبِ الْخَوْفِ قُشَعْرِيرَةُ الْجُلُودِ فَقَطْ، وَفِي جَانِبِ الرَّجَاءِ لِينُ الْجُلُودِ وَالْقُلُوبِ مَعًا؟ وَالْجَوَابُ: لِأَنَّ الْمُكَاشَفَةَ فِي مَقَامِ الرَّجَاءِ أَكْمَلُ مِنْهَا فِي مَقَامِ الْخَوْفِ، لِأَنَّ الْخَيْرَ مَطْلُوبٌ بِالذَّاتِ وَالشَّرَّ مَطْلُوبٌ بِالْعَرَضِ وَمَحَلُّ الْمُكَاشَفَاتِ هُوَ الْقُلُوبُ وَالْأَرْوَاحُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الْقُرْآنَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ قَالَ: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ فَقَوْلُهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْكِتَابِ وَهُوَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الَّذِي شَرَحَ صَدْرَهُ أَوَّلًا لِقَبُولِ هَذِهِ الْهِدَايَةِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أَيْ مَنْ جَعَلَ قَلْبَهُ قَاسِيًا مُظْلِمًا بَلِيدَ الْفَهْمِ مُنَافِيًا لِقَبُولِ هَذِهِ الْهِدَايَةِ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَاسْتِدْلَالُ أَصْحَابِنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَسُؤَالَاتُ الْمُعْتَزِلَةِ وَجَوَّابَاتُ أَصْحَابِنَا عَيْنُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ:
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَى الْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ بِحُكْمٍ فِي الدُّنْيَا وَبِحُكْمٍ فِي الْآخِرَةِ، أَمَّا حُكْمُهُمْ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ الضَّلَالُ التَّامُّ كَمَا قَالَ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الرعد: ٣٣] وَأَمَّا حُكْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ الْعَذَابُ الشَّدِيدُ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ أَشْرَفَ الْأَعْضَاءِ هُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْحُسْنِ وَالصَّبَاحَةِ، وَهُوَ أَيْضًا صَوْمَعَةُ الْحَوَاسِّ، وَإِنَّمَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ بَعْضٍ بِسَبَبِ الْوَجْهِ، وَأَثَرُ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ لَا يَظْهَرُ إِلَّا فِي الْوَجْهِ قَالَ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عَبَسَ: ٣٨- ٤٢] وَيُقَالُ لِمُقَدَّمِ الْقَوْمِ يَا وَجْهَ الْعَرَبِ، وَيُقَالُ لِلطَّرِيقِ الدَّالِّ عَلَى كُنْهِ حَالِ الشَّيْءِ وَجْهُ كَذَا هُوَ كَذَا، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَشْرَفَ الْأَعْضَاءِ هُوَ الْوَجْهُ، فَإِذَا وَقَعَ الْإِنْسَانُ فِي نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ يَدَهُ وِقَايَةً لِوَجْهِهِ وَفِدَاءً لَهُ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا كَانَ الْقَادِرُ عَلَى الِاتِّقَاءِ يَجْعَلُ كُلَّ مَا سِوَى الْوَجْهِ فِدَاءً لِلْوَجْهِ لَا جَرَمَ حَسُنَ جَعْلُ الِاتِّقَاءِ بِالْوَجْهِ كِنَايَةً عَنِ الْعَجْزِ عَنِ الِاتِّقَاءِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ النَّابِغَةُ:

/ وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
أَيْ لَا عَيْبَ فِيهِمْ إِلَّا هَذَا وَهُوَ لَيْسَ بِعَيْبٍ فَلَا عَيْبَ فِيهِمْ إِذَنْ بِوَجْهٍ من الوجوه، فكذا هاهنا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الِاتِّقَاءِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ إِلَّا بِالْوَجْهِ وَهَذَا لَيْسَ بِاتِّقَاءٍ، فَلَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى الِاتِّقَاءِ أَلْبَتَّةَ، وَيُقَالُ أَيْضًا إِنَّ الَّذِي يُلْقَى فِي النَّارِ يُلْقَى مَغْلُولَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ وَلَا يَتَهَيَّأُ لَهُ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ إِلَّا بِوَجْهِهِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَنْ هُوَ آمِنٌ مِنَ الْعَذَابِ فَحُذِفَ الْخَبَرُ كَمَا حُذِفَ فِي نَظَائِرِهِ، وَسُوءُ الْعَذَابِ شِدَّتُهُ.

صفحة رقم 448

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ عَذَابِ الْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَيَّنَ أَيْضًا كَيْفِيَّةَ وُقُوعِهِمْ فِي الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا فَقَالَ: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى حَالِ هَؤُلَاءِ لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَأَتاهُمُ الْعَذابُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا أَتَاهُمُ الْعَذَابُ بِسَبَبِ التكذيب، فإذا كان التكذيب حاصلا هاهنا لَزِمَ حُصُولُ الْعَذَابِ اسْتِدْلَالًا بِالْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ، وَقَوْلُهُ:
مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أَيْ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي لَا يَحْسَبُونَ وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ أَنَّ الشَّرَّ يَأْتِيهِمْ مِنْهَا، بَيْنَمَا هُمْ آمِنُونَ إِذْ أَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي تَوَقَّعُوا الْأَمْنَ مِنْهَا، وَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ أَتَاهُمُ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا بَيَّنَ أَيْضًا أَنَّهُ أَتَاهُمُ الْخِزْيُ وَهُوَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ وَالْهَوَانُ، وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا الْقَيْدِ أَنَّ الْعَذَابَ التَّامَّ هُوَ أَنْ يَحْصُلَ فِيهِ الْأَلَمُ مَقْرُونًا بِالْهَوَانِ وَالذُّلِّ.
ثُمَّ قَالَ: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يَعْنِي أَنَّ أُولَئِكَ وَإِنْ نَزَلَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ وَالْخِزْيُ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَالْعَذَابُ الْمُدَّخَرُ لَهُمْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الَّذِي وَقَعَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ التَّخْوِيفُ وَالتَّرْهِيبُ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْفَوَائِدَ الْمُتَكَاثِرَةَ وَالنَّفَائِسَ الْمُتَوَافِرَةَ فِي هَذِهِ الْمَطَالِبِ، بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ بَلَغَتْ هَذِهِ الْبَيَانَاتُ إِلَى حَدِّ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ فَقَالَ: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَالْمَقْصُودُ ظَاهِرٌ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ وَأَحْكَامَهُ مُعَلَّلَةٌ، وَدَلَّتْ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ يُرِيدُ الْإِيمَانَ وَالْمَعْرِفَةَ مِنَ الْكُلِّ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ مُشْعِرٌ بِالتَّعْلِيلِ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ مُشْعِرٌ بِالتَّعْلِيلِ أَيْضًا، وَمُشْعِرٌ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ضَرْبِ هَذِهِ الْأَمْثَالِ إِرَادَةُ حُصُولِ التَّذَكُّرِ وَالْعِلْمِ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْبَيَانَاتُ النَّافِعَةُ وَالْبَيِّنَاتُ الْبَاهِرَةُ مَوْجُودَةً فِي الْقُرْآنِ، لَا جَرَمَ وُصِفَ الْقُرْآنُ بِالْمَدْحِ والثناء، فقال:
قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِحُدُوثِ الْقُرْآنِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْأَمْثَالَ لِيَحْصُلَ لَهُمُ التَّذَكُّرُ، وَالشَّيْءُ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ لِغَرَضٍ آخَرَ يَكُونُ مُحْدَثًا، فَإِنَّ الْقَدِيمَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مَوْجُودًا فِي الْأَزَلِ، وَهَذَا يُمْتَنَعُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ إِنَّمَا أَتَى بِهِ لِغَرَضِ كَذَا وَكَذَا، / وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا وَإِنَّمَا كَانَ عَرَبِيًّا لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ إِنَّمَا صَارَتْ دَالَّةً عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي بِوَضْعِ الْعَرَبِ وَبِاصْطِلَاحِهِمْ، وَمَا كَانَ حُصُولُهُ بِسَبَبِ أَوْضَاعِ الْعَرَبِ وَاصْطِلَاحَاتِهِمْ كَانَ مَخْلُوقًا مُحْدَثًا الثَّالِثُ: أَنَّهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ قُرْآنًا وَالْقُرْآنُ عِبَارَةٌ عَنِ الْقِرَاءَةِ وَالْقِرَاءَةُ مَصْدَرٌ وَالْمَصْدَرُ هُوَ الْمَفْعُولُ الْمُطْلَقُ فَكَانَ فِعْلًا وَمَفْعُولًا وَالْجَوَابُ: أَنَّا نَحْمِلُ كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَهِيَ حَادِثَةٌ وَمُحْدَثَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ قَوْلُهُ: عَرَبِيًّا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَالْمَعْنَى ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ فِي حَالِ عَرَبِيَّتِهِ وَبَيَانِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يُنْتَصَبَ عَلَى المدح.
المسألة الثالثة: أنه تعالى وصفه بصفات ثلاثة أَوَّلُهَا: كَوْنُهُ قُرْآنًا، وَالْمُرَادُ كَوْنُهُ مَتْلُوًّا فِي الْمَحَارِيبِ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحِجْرِ: ٩]، وَثَانِيهَا: كَوْنُهُ عَرَبِيًّا وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أَعْجَزَ الْفُصَحَاءَ وَالْبُلَغَاءَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ كَمَا قَالَ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الْإِسْرَاءِ: ٨٨] وَثَالِثُهَا: كَوْنُهُ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ وَالْمُرَادُ بَرَاءَتُهُ عَنِ

صفحة رقم 449
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية