يعلم الناس قدر رحمة ربي لا تكلوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ قَدْرَ سُخْطِ رَبِّي وَعِقَابِهِ لَاسْتَصْغَرُوا أَعْمَالَهُمْ» وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلُهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حديث أبي هريرة.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٢١ الى ٢٦]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٥)
فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦)
لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْآخِرَةَ، وَوَصَفَهَا بِوَصْفٍ يُوجِبُ الرَّغْبَةَ فِيهَا، وَالشَّوْقَ إِلَيْهَا أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الدُّنْيَا، وَوَصَفَهَا بِوَصْفٍ يُوجِبُ الرَّغْبَةَ عَنْهَا، وَالنَّفْرَةَ مِنْهَا، فَذَكَرَ تَمْثِيلًا لَهَا فِي سُرْعَةِ زَوَالِهَا وقرب اضْمِحْلَالِهَا مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ قُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ وَصُنْعِهِ الْبَدِيعِ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً أَيْ:
مِنَ السَّحَابِ مَطَرًا فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ أَيْ: فَأَدْخَلَهُ وَأَسْكَنَهُ فِيهَا، وَالْيَنَابِيعُ جَمْعُ يَنْبُوعٍ مِنْ نَبَعَ الْمَاءُ يَنْبُعُ، وَالْيَنْبُوعُ: عَيْنُ الْمَاءِ وَالْأَمْكِنَةُ الَّتِي يَنْبُعُ مِنْهَا الْمَاءُ، وَالْمَعْنَى أَدْخَلَ الْمَاءَ النَّازِلَ مِنَ السَّمَاءِ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَهُ فِيهَا عُيُونًا جَارِيَةً، أَوْ جَعَلَهُ فِي يَنَابِيعَ، أَيْ: فِي أَمْكِنَةٍ يَنْبُعُ مِنْهَا الْمَاءُ، فَهُوَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: فَجَعَلَهُ عُيُونًا وَرَكَايَا «١» فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ أَيْ: يُخْرِجُ بِذَلِكَ الْمَاءَ مِنَ الْأَرْضِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ مِنْ أَصْفَرَ وَأَخْضَرَ وَأَبْيَضَ وَأَحْمَرَ، أَوْ مِنْ بُرٍّ وَشَعِيرٍ وَغَيْرِهِمَا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَلْوَانِ الْأَصْنَافُ ثُمَّ يَهِيجُ يُقَالُ هَاجَ النَّبْتُ يَهِيجُ هَيْجًا إِذَا تَمَّ جَفَافُهُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ هَاجَ النَّبْتُ هِيَاجًا: إِذَا يَبِسَ، وَأَرْضٌ هَائِجَةٌ يَبِسَ بَقْلُهَا أَوِ اصْفَرَّ، وَأَهَاجَتِ الرِّيحُ النَّبْتَ أَيْبَسَتْهُ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ هَاجَتِ الْأَرْضُ تَهِيجُ: إِذَا أَدْبَرَ نَبْتُهَا وَوَلَّى. قَالَ: وَكَذَلِكَ هَاجَ النَّبْتُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا أَيْ: تَرَاهُ بَعْدَ خُضْرَتِهِ وَنَضَارَتِهِ وَحُسْنِ رَوْنَقِهِ مُصْفَرًّا قَدْ ذَهَبَتْ خُضْرَتُهُ وَنَضَارَتُهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً أي:
متفتتا متكسرا، مِنْ تَحَطَّمَ الْعُودُ: إِذَا تَفَتَّتَ مِنَ الْيُبْسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ أَيْ: فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ تَذْكِيرٌ لِأَهْلِ الْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ، فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ يَتَعَقَّلُونَ الْأَشْيَاءَ عَلَى حَقِيقَتِهَا فَيَتَفَكَّرُونَ وَيَعْتَبِرُونَ وَيَعْلَمُونَ بِأَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا حَالُهَا كَحَالِ هَذَا الزَّرْعِ فِي سُرْعَةِ التَّصَرُّمِ وَقُرْبِ التَّقَضِّي، وَذَهَابِ بَهْجَتِهَا وَزَوَالِ رَوْنَقِهَا وَنَضَارَتِهَا، فَإِذَا أَنْتَجَ لَهُمُ التَّفَكُّرُ وَالِاعْتِبَارُ الْعِلْمَ بِذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمُ الِاغْتِرَارُ بِهَا وَالْمَيْلُ إِلَيْهَا وَإِيثَارُهَا عَلَى دَارِ النَّعِيمِ الدَّائِمِ وَالْحَيَاةِ الْمُسْتَمِرَّةِ وَاللَّذَّةِ الْخَالِصَةِ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ شَكٌّ فِي أَنَّ اللَّهَ قادر على البعث والحشر،
لِأَنَّ مِنْ قَدِرَ عَلَى هَذَا قَدِرَ عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْقُرْآنِ وَلِصُدُورِ مَنْ فِي الْأَرْضِ. وَالْمَعْنَى: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ قُرْآنًا فَسَلَكَهُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ دِينًا بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَزْدَادُ إِيمَانًا وَيَقِينًا، وَأَمَّا الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ فَإِنَّهُ يَهِيجُ كَمَا يَهِيجُ الزرع، وهذا بالتغيير أشبه منه بالتفسير. قرأ الْجُمْهُورُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَقَرَأَ أَبُو بِشْرٍ بِالنَّصْبِ بِإِضْمَارِ أَنْ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ، ذَكَرَ شَرْحَ الصَّدْرِ لِلْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ الْكَامِلَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِهِ فَقَالَ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ أَيْ: وَسَّعَهُ لِقَبُولِ الْحَقِّ وَفَتَحَهُ لِلِاهْتِدَاءِ إِلَى سَبِيلِ الْخَيْرِ.
قَالَ السُّدِّيُّ: وَسِعَ صَدْرُهُ لِلْإِسْلَامِ لِلْفَرَحِ بِهِ، وَالطُّمَأْنِينَةِ إِلَيْهِ، وَالْكَلَامُ فِي الْهَمْزَةِ وَالْفَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ ومن: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهَا: مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ كَمَنْ قَسَا قَلَبُهُ وَحَرِجَ صَدْرُهُ، وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْخَبَرِ الْمَحْذُوفِ قَوْلُهُ: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَالْمَعْنَى: أَفَمَنْ وَسَّعَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَقَبِلَهُ، وَاهْتَدَى بِهَدْيِهِ فَهُوَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الشَّرْحِ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ يَفِيضُ عَلَيْهِ كَمَنْ قَسَا قَلْبُهُ لِسُوءِ اخْتِيَارِهِ، فَصَارَ فِي ظُلُمَاتِ الضَّلَالَةِ، وَبَلِيَّاتِ الْجَهَالَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: النُّورُ كِتَابُ اللَّهِ بِهِ يُؤْخَذُ وَإِلَيْهِ يُنْتَهَى. قَالَ الزَّجَّاجُ:
تَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ كَمَنْ طَبَعَ عَلَى قَلْبِهِ فَلَمْ يَهْتَدِ لِقَسْوَتِهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: أَيْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ كَمَا تَقُولُ أُتْخِمْتُ عَنْ طَعَامٍ أَكَلْتُهُ وَمِنْ طَعَامٍ أَكَلْتُهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ غَلُظَ قَلْبُهُ وَجَفَا عَنْ قَبُولِ ذِكْرِ اللَّهِ، يُقَالُ: قَسَا الْقَلْبُ إِذَا صَلُبَ، وَقَلْبٌ قَاسٍ أَيْ: صُلْبٌ لَا يَرِقُّ وَلَا يَلِينُ، وَقِيلَ: مَعْنَى مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذِكْرِهِ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ تَنْشَرِحَ لَهُ الصُّدُورُ، وَتَطْمَئِنُّ بِهِ الْقُلُوبُ. وَالْمَعْنَى:
أَنَّهُ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ اشْمَأَزُّوا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ: ظَاهِرٍ وَاضِحٍ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَعْضَ أَوْصَافِ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فَقَالَ: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَسَمَّاهُ حَدِيثًا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ قَوْمَهُ وَيُخْبِرُهُمْ بِمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنْهُ. وَفِيهِ بَيَانٌ أَنَّ أَحْسَنَ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ سَابِقًا هُوَ الْقُرْآنُ، وَانْتِصَابُ كِتاباً عَلَى الْبَدَلِ مِنْ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يكون حالا منه مُتَشابِهاً صفة لكتابا، أَيْ:
يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْحُسْنِ وَالْإِحْكَامِ وَصِحَّةِ الْمَعَانِي، وَقُوَّةِ الْمَبَانِي، وَبُلُوغِهِ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْبَلَاغَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْآيِ وَالْحُرُوفِ، وَقِيلَ: يُشْبِهُ كُتُبَ اللَّهِ المنزلة على أنبيائه، ومَثانِيَ صفة أخرى لكتابا: أي تثنى فيه القصص وتتكرر فيه الموعظ والأحكام. وقيل: يثنى في التِّلَاوَةِ فَلَا يَمَلُّ سَامِعُهُ وَلَا يَسْأَمُ قَارِئُهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ مَثانِيَ بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ هِشَامُ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَبِشْرٌ بِسُكُونِهَا تَخْفِيفًا وَاسْتِثْقَالًا لِتَحْرِيكِهَا، أَوْ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ مَثَانِي، وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي تَبْيِينِ مَثَانِي أَنَّ أَكْثَرَ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ مُتَكَرِّرَةٌ: زَوْجَيْنِ زَوْجَيْنِ مِثْلُ: الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْعَامِّ والخاصّ، والمجمل والمفصل، وأحوال السموات وَالْأَرْضِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالنُّورِ وَالظُّلْمَةِ، وَاللَّوْحِ وَالْقَلَمِ، وَالْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ، وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْبَيَانِ بِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَى الْحَقِّ زَوْجٌ، وَأَنَّ الْفَرْدَ الْأَحَدَ الْحَقَّ هُوَ اللَّهُ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي كَلَامِهِ هَذَا مِنَ التَّكَلُّفِ وَالْبُعْدِ عَنْ مَقْصُودِ التنزيل تَقْشَعِرُّ
مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِكِتَابًا، وَأَنْ تَكُونَ حَالًا مِنْهُ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً فَقَدْ تَخَصَّصَ بِالصِّفَةِ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةً لِبَيَانِ مَا يَحْصُلُ عِنْدَ سَمَاعِهِ مِنَ التَّأَثُّرِ لِسَامِعِيهِ، وَالِاقْشِعْرَارُ:
التَّقَبُّضُ، يُقَالُ اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ: إِذَا تَقَبَّضَ وَتَجَمَّعَ مِنَ الْخَوْفِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا تَأْخُذُهُمْ مِنْهُ قُشَعْرِيرَةٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِذَا ذُكِرَتْ آيَاتُ الْعَذَابِ اقْشَعَرَّتْ جُلُودُ الْخَائِفِينَ لِلَّهِ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِذَا ذُكِرَتْ آيَاتُ الرَّحْمَةِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا قَوْلُ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَبِتُّ أُكَابِدُ لَيْلَ التَّمَامِ | وَالْقَلْبُ مِنْ خَشْيَةٍ مُقْشَعِرُّ «١» |
وَيُقَالُ لَهُمْ، وَجَاءَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّحْقِيقِ. قَالَ عَطَاءٌ: أَيْ جَزَاءَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ «٣» وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى الذَّوْقِ فِي
(٢). فصلت: ٤٠.
(٣). التوبة: ٣٥.
غَيْرِ مَوْضِعٍ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ حَالِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، فَقَالَ: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ:
مِنْ قَبْلِ الْكُفَّارِ الْمُعَاصِرِينَ لمحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أَيْ: مِنْ جِهَةٍ لَا يَحْتَسِبُونَ إِتْيَانَ الْعَذَابِ مِنْهَا، وَذَلِكَ عِنْدَ أَمْنِهِمْ وَغَفْلَتِهِمْ عَنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ لَهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ أَيِ: الذُّلَّ وَالْهَوَانَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بِالْمَسْخِ، وَالْخَسْفِ، وَالْقَتْلِ، وَالْأَسْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لِكَوْنِهِ فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ مَعَ دَوَامِهِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أَيْ: لَوْ كَانُوا مِمَّنْ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ، وَيَتَفَكَّرُ فِيهَا، وَيَعْمَلُ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ لِكُلِّ مَا نَالَ الْجَارِحَةَ مِنْ شَيْءٍ قَدْ ذَاقَتْهُ، أَيْ: وَصَلَ إِلَيْهَا كَمَا تَصِلُ الْحَلَاوَةُ وَالْمَرَارَةُ إِلَى الذَّائِقِ لَهُمَا. قَالَ: وَالْخِزْيُ الْمَكْرُوهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً الْآيَةَ قَالَ:
مَا فِي الْأَرْضِ مَاءٌ إِلَّا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَكِنَّ عروق فِي الْأَرْضِ تُغَيِّرُهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ سَرَّهُ أَنْ يَعُودَ الْمِلْحُ عَذْبًا فَلْيُصْعِدْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: تَلَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ قُلْنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَيْفَ انْشِرَاحُ صَدْرِهِ؟ قَالَ: إِذَا دَخَلَ النُّورُ الْقَلْبَ انْشَرَحَ وَانْفَسَحَ. قُلْنَا: فَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالتَّأَهُّبُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ مَرْفُوعًا مُرْسَلًا. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا لِلْمَوْتِ، وَأَحْسَنُهُمْ لَهُ اسْتِعْدَادًا، وَإِذَا دَخَلَ النُّورُ فِي الْقَلْبِ انْفَسَحَ وَاسْتَوْسَعَ، فَقَالُوا: مَا آيَةُ ذَلِكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ».
وَأَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمِسْوَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينحوه، وَزَادَ فِيهِ. ثُمَّ قَرَأَ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ شَاهِينَ فِي التَّرْغِيبِ فِي الذِّكْرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي». وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «قَالَ: قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ حَدَّثْتَنَا، فَنَزَلَ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ الْآيَةَ». وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: مَثانِيَ قَالَ: الْقُرْآنُ كُلُّهُ مَثَانِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ:
كِتَابُ اللَّهِ مَثَانِي ثُنِّيَ فِيهِ الْأَمْرُ مِرَارًا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قُلْتُ لِجَدَّتِي أَسْمَاءَ كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَرَءُوا الْقُرْآنَ؟ قَالَتْ: كَانُوا كَمَا نَعَتَهُمُ اللَّهُ تَدْمَعُ أَعْيُنُهُمْ وَتَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ، قُلْتُ: فَإِنَّ نَاسًا هَاهُنَا إِذَا سَمِعُوا ذَلِكَ تَأْخُذُهُمْ عَلَيْهِ غَشْيَةٌ، قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ قَالَ: يُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى النَّارِ مَكْتُوفًا ثُمَّ يُرْمَى به فيها، فأوّل ما تمسّ وجهه النار.