نظرائهم من الكفار إذ لم يقبل طلب أحد منهم ولا إيمانه ولا توبته ولا تأخير العذاب عنه «مِنْ قَبْلُ» في الدنيا حال يأسهم منها ولم يؤخر الله عذابا نزل على أحد ولم يقبل توبته حال اليأس أو البأس إلا قوم يونس في الدنيا راجع الآية ٩٨ من سورته المارة تقف على الأسباب الداعية لذلك. أما في الآخرة فلا يجاب طلب أحد ما من ذلك كله أبدا لأنهم جنوا على أنفسهم بإضاعة الفرصة بالدنيا وقد أخبروا فيها من قبل أنبيائهم أن لا مجال في الآخرة بقبول شيء من ذلك البتة حيث «إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ» من وجود هذا اليوم ولم يصدقوا الرسل به بل كانوا في ريب «مُرِيبٍ ٥٤» لشدة إنكارهم وجحودهم وعدم التفاتهم إلى نصح الرسل واتهامهم لهم بالكذب فكان جزاؤهم اليوم على أفعالهم في الدنيا لا دافع له ولا مؤخر وقد جف القلم به فتقطع أفئدتهم من سماع هذا الكلام ويكثر صياحهم في النار وحسرتهم على تفريطهم. هذا، ولا يوجد سورة مختومة بهذه اللفظة غير هذه، هذا والله أعلم وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه.
تفسير سورة الزمر عدد ٩- ٥٩- ٣٩
نزلت بمكة بعد سورة سبأ عدا الآيات ٥٢ و ٥٣ و ٥٤ فإنهن نزلن بالمدينة، وهي خمس وسبعون آية والف ومئة واثنتان وسبعون كلمة، وأربعة آلاف وتسعمئة وثمانية أحرف وتسمى سورة تنزيل، ولا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به، ومثلها في عدد الآي الأنفال فقط.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: هذا «تَنْزِيلُ الْكِتابِ» بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدأ والخبر مقدر وبالنصب على أنه مفعول لفعل مقدر أي اقرأ هذا التنزيل الذي ينزل عليك يا محمد من قبل ربك من القرآن المدون في اللوح المحفوظ الثابت في أزلنا والذي قدر قديما إنزاله عليك «مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ١» الذي يجري أمره وينفذ نهيه بمقتضى الحكمة بلا مدافع ولا ممانع، واعلم يا سيد الرسل «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ» هذا «الْكِتابَ بِالْحَقِّ» صفحة رقم 521الصريح الواضح وبمقتضاه «فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ٢» من شوائب الشرك والرياء، وهذا مما يراد به غيره ﷺ من أمته لأنه لا شك بإخلاصه وبعده من الإشراك ولا مانع بأن يخاطب الأمير ما يراد به من الجند لأن الملك لا يولي أميرا إلا وهو يعتقد حزمه وأمانته وقد يحذره الهرب والخيانة أمام جنده ليكون أبلغ إمضاء فيهم «أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ» من كل شائبة الكامل الذي لا أكمل منه «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ» سخفا بعقولهم يقولون «ما نَعْبُدُهُمْ» لذاتهم «إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» يتمكنون به من الشفاعة لهم مع أنهم شابوا عبادة الله بعبادتهم، فاتركهم يا حبيبي الآن ولا تتعرض لهم بأكثر من النصح والترغيب «إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ» وبين معبوديهم عند ما يأمرك بقتالهم وقسرهم على الإيمان كما يفصل بينك وبينهم يوم القيامة وحذف الثاني بدلالة الأول عليه قال النابغة:
فما كان بين الخير لو جاء سالما | أبو حجر إلا ليالي قلائل |
الآية ٣٣ من سورة النحل صفحة رقم 522
الآتية لسيىء استعداده على قبول الضلال وعدم استعداده لقبول الهدى ختم عليه بذلك لأنه خلقه كذلك. قال تعالى (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) الآية ٧ من الشورى الآتية وهذا من الأزل، لأنه حينما خلق الخلق قال هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار، وقال صلّى الله عليه وسلم: كل ميسر لما خلق له تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
فهو الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)
الآية ٧ من سورة السجدة الآتية، وهو الذي لا يسأل عما يفعل. قال تعالى «لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً» كما يزعمون، تعالى عن ذلك «لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ» لا منازع له ولا معارض ولكنه لم يرد فامتنع أن يقال اتخذ ولدا «سُبْحانَهُ» تنزه عن ذلك وتقدس عما لا يليق به «هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ» في ملكه المبرأ عن انضمام الأعداد والمتعالي عن التجزي والولاد «الْقَهَّارُ ٤» لكل شيء المحتاج إليه كل شيء، وهذه مسوقه لتحقيق الحق الذي هو تنزيهه جل شأنه عن ذلك وإبطال القول بأن الملائكة بناته، ويدخل فيه ما نسبه أهل الكتابين من بنوّة عيسى وعزير عليهما السلام مضاهاة للعرب الذين نسبوا بنوة الملائكة إليه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا وتقدس تقديسا عظيما ببيان استحالة اتخاذ الولد في حقه على الإطلاق ليندرج فيه استحالة ما قيل اندراجا أوليا، ومن هذا الباب نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه مطلقا، وحاصل معنى الآية والله أعلم:
لو أراد سبحانه اتخاذ الولد لامتنعت تلك الإرادة لتعلقها بالممتنع أعني الاتخاذ. لكن لا يجوز على الباري إرادة ممتنعة لأنها ترجح بعض المكنات على بعض، وأصل الكلام لو اتخذ الولد لامتنع لاستلزامه ما ينافي الإلهية فعدل إلى لو أراد الاتخاذ لامتنع أن يريده ليكون أبلغ وأبلغ، ثم حذف هذا الجواب وجيء بدله (لَاصْطَفى) تنبيها على أن الممكن هذا لا الأول وأنه لو كان هذا من اتخاذ الولد في شيء لجاز اتخاذ الولد عليه سبحانه تنزه عن ذلك، فقد تحقق التلازم وحق نفي اللازم واثبات الملزوم دون صعوبة. واعلم أن اتخاذ الولد يقتضي التبعيض وانفصال شيء من شيء ويقتضي المماثلة أيضا بين الولد والوالد، هذا وإن الوحدة الذاتية الحقيقية التي هي في أعلى مراتب الوحدة الواجبة له تعالى بالبراهين القطعية العقلية تأبى التبعيض والانفصال إباء ظاهرا لأنهما من خواطى الحكم، وقد اعتبر في مفهوم الوحدة الذاتية
سلبه فتأبى الاتخاذ المذكور وكذا تأبى المماثلة سواء فسرت بما ذهب إليه الجبائي وأضرابه من قدماء المعتزلة وهي المشاركة في أخص صفات الذات كمشاركة زيد لعمرو في الناطقية أم فسرت بما ذهب إليه المحققون من الماتريدية وهي المشاركة في جميع الصفات الذاتية كمشاركته له في الحيوانية والناطقية، أم فسرت بما نسب إلى الأشعري وهو التساوي بين الشيئين من كل وجه. هذا ويفهم من لفظ القهار الذي ختمت به هذه الآية الزجر والتهديد لأولئك المتخذين إلها غير الله الناسبين إليه الولد، وفائدة هذا الزجر والتخويف ليرتدعوا عن القول بذلك وإنما اقتصر على التهديد فقط مع أنهم يستحقون أكثر منه لأن علاج الرجل المصر على بطله أن تأتي له بما يزيل الإصرار عن قلبه حتى يسمع الدليل ويعيه فيفضي إلى المقصود، ولهذا فإن الطبيب يتقدم إلى المريض أولا يسقى بشيء منضج ليفتت ما في أمعائه ثم بالحقنة لإخراج تلك الفتات التي كانت متحجرة فيها ثم بالمسهل لإفراغ تلك الأمعاء وتطهير المعدة مما كان فيها إذ لو أعطاه المسهل رأسا لما نفعه بل قد يضره لأن المواد الفاسدة اليابسة لا يؤثر عليها وإذا لم تخرج هذه لا يتيسر لمسهل التطهير بل قد لا يتيسر له الخروج أيضا فتمتلىء الأمعاء فتتلاشى ويحصل الموت بالأجل المقدر على هذا، فإجراه التهديد أولا يجري مجرى المنضج والتفتيت واسماع الدليل بعده يجري مجرى الحقنة وقبول ذلك يجري مجرى المسهل تدبر. قال تعالى «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» خلقا مشتملا على الحكم والمصالح بالعدل والصواب «يُكَوِّرُ» يلف ويغيّب ويغشي «اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ» إذا طرأ عليه، إذ يضمحل فيه ولا يبقى له أثر «وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ» إذا حدث عليه فيفعل فيه ما فعل فيه التكوير هو اللف واللّي يقال كار العمامة وكوّرها على رأسه إذا لفها ولواها شبه سبحانه تغيب أحدهما بالآخر بشيء ظاهر غشيه ما غيبه عن الرؤية بحيث يلبسه مكانه لاشتماله عليه، ومن قال إن المعنى يحمل أحدهما على الآخر فتحصل الزيادة والنقصان فيهما فقول لا يتجه هنا بل يكون في تفسير قوله تعالى (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) الآية ١٣ من سورة فاطر المارة في ج ١، ونظيرها في الآية ٢٧ من آل عمران والآية ٦ من سورة الحديد في ج ٣، ولا يخفى أن الإيلاج غير التكوير
صفحة رقم 524
لفظا ومعنى «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى» عنده وسيبقى هذا الجريان مستمرا حتى إذا أراد خراب هذا الكون فرطه، وكما أن هذا الجريان لأجل معين فهو لمكان معين وبطريق معروف أيضا لا يزيغ عنه قيد شعرة وبانتظام تام على مر الأعوام فسبحانه من مدبر مبدع علام، فانتبهوا أيها الناس لهذا الإله «أَلا هُوَ الْعَزِيزُ» الغالب كامل القدرة لا مثيل له «الْغَفَّارُ ٥» كثير المغفرة واسع الرحمة عظيم الفضل كثير الإحسان لمن تفكر واعتبر بمصنوعاته، كما أنه قاصم الرقاب ومهلك ألباب من لم يتعظ ويتدبر بآياته ومبتدعاته فهو الإله الواحد العظيم الذي «خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» هي نفس آدم عليه السلام «ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها» حواء رضي الله عنها لأنه خلقها من ضلعه فهو من تراب وهي من عظم ولحم ودم وسائر الخلق من النطف والتكوين سبحانه نوع خلقه أربعة أنواع متقابلة، خلق آدم بلا أب ولا أم وحواء من أب بلا أم وعيسى من أم بلا أب وبقية البشر من أب وأم «وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ» لما كانت الأنعام لا
تعيش إلا بالنبات، والنبات لا يقوم إلا بالماء، والماء ينزل من السماء، قال تعالى (وَأَنْزَلَ) أي أحدثها وأنشأها بأسباب نازلة من السماء كالأمطار والثلوج وأشعة الكواكب الناشئ عنها العشب الذي تقتات به الحيوانات، وهذا على حد قوله تعالى (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) الآية ٢٦ من الأعراف في ج ١، لأن اللباس نفسه لم ينزل من السماء وإنما أنزل الماء فأنبت القطن وغيره من كل ما ينسج والنبات الذي غذى متنه الحيوان الذي يحصل منه الصوف والشعر والوبر وغيره وأنعش دود القز وشبهه الذي يحصل منه الحرير وغيره فاتخذت الألبسة منها، وقال بعضهم معنى (أَنْزَلَ) قضى وحكم وقسم، وأراد بأن قضاء الله تعالى وقسمه يوصف بالنزول من السماء لأنهما مدونان باللوح المحفوظ وكل ما يقع في الكون فهو نازل مما هو مكتوب فيه، وهو كما ترى «ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ» تقدم بيانها في الآية ١٤٣ من سورة الأنعام المارة «يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ» أنتم وأنعامكم وغلب في الخطاب من يعقل على من لا يعقل لشرفه عليه. واعلم أن مخلوقات الله تعالى ما يكونه تكوينا فيكون بنفسه من غير البطن وهذا داخل في لفظ الخلق ويكون
خلقه تدريجا حتى يكمل فيدخل في قوله تعالى خلقا من بعد خلق أما الإنسان وقسم من الحيوان فيكون «خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ» في الرحم المشتمل عليه البطن من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى لحم وعظم «فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ» ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة وهي الجلدة الرقيقة التي تشتمل على الجنين «ذلِكُمُ» أيها الناس الذي يفعل هذه الأشياء وغيرها مما لا يطيق على جزء بعضه أعظم البشر ولو كان بعضه لبعض ظهيرا هو «اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ» كله وحده «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» الذي لا يستحق العبادة غيره فهو المعبود الحق «فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ٦» أي كيف تعدلون عن الحق إلى الباطل بعد أن اتضح لكم. ولهذا البحث صلة في الآية ١٢ من سورة المؤمنين الآتية والآية ٤ من سورة الحج في ج ٣، واعلموا أيها الناس أنكم «إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ» وأنتم محتاجون إليه «وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ» لأنه يؤدي بهم إلى النار، ولذلك ينهاهم عنه ويرضى لهم الإيمان المؤدي إلى الجنان ولذلك يأمرهم به، والرضى بالشيء مدحه والثناء عليه والله تعالى قد ذم الكفر وقبحه وحبذ الإيمان ومدحه، والفرق بين الإرادة والرضى ظاهر وإن إرادته منهم لا يعني أنه أمرهم به أو رضيه عنهم، راجع الآية ١٤٩ من سورة الأنعام المارّة وما ترشدك إليه تقنع «وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ» (يقرأ باختلاس ضم الهاء حتى يرضه لا بالإشباع) لأن في الرضا نجاتكم من العذاب وفوزكم بالجنة، ويفهم من هذه الآية أن الله تبارك وتعالى أراد بالشكر هنا الإيمان لمجيئه بمقابلة الكفر، غير أنه إذا فسر الكفر فيها بكفران النعمة والشكر بشكرها أولى لأن الآية عامة وابقاء اللفظ على عمومه أولى من تخصيصه بدون صارف يصرفه عن عمومه ولكن لم أر من قال به ولذلك قدمنا ما عليه الجمهور والاتباع خير من الابتداع «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» تقدم تفسيرها في الآية ١٨ من سورة فاطر والآية ٣٨ من سورة والنجم في ج ١ والآية ١٦٤ من سورة الأنعام المارة «ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ» في الآخرة «فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» في الدنيا ويجازيكم عليه دون حاجة إلى سؤال أو اعتراف أو شهود «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ٧» ومن كان عالما بخفيّات الأمور
صفحة رقم 526
وسرائرها فهو بعلانيتها وظواهرها أعلم «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ» من كل ما يتضرر به الإنسان أو يتألم منه مادة ومعنى «دَعا رَبَّهُ مُنِيباً» راجعا خاضعا خاشعا مستغيثا «إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ» أعطاه وأعاره وراعاه ومعنى خوّله جعله ذا خول أي عبيد وإماء وخدم وأصله تعهد الشيء والرجوع إليه مرة بعد أخرى والمحافظة عليه وأطلق على العطاء «نِعْمَةً مِنْهُ» تفضلا منه لا لغرض ولا لعوض «نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ» وهو الضر وترك الدعاء أيضا بكشفه، ولم يكتف بهذا الصدود عن ذلك المنعم بل مال إلى الافتراء عليه «وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً» أمثالا صيرها آلهة معه ولم يقتصر على ضلاله بل عمد «لِيُضِلَّ» غيره «عَنْ سَبِيلِهِ» الحق القويم، فيا أكرم الرسل «قُلْ» لهذا الكافر وهو على ما قيل عتبة
بن ربيعة أو حذيفة المخزومي «تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا» في هذه الدنيا الفانية لأنها بالنسبة للآخرة قليل ومهما عاش بها ابن آدم أو ملك منها فهو قليل وقد تهون بعين المؤمن إذ يرجو عند ربه خيرا منها وتعظم بعين الكافر لكونه صفر اليدين في الآخرة إذ يقال له فيها «إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ ٨» أجارنا الله منها، وهذه الآية عامة في كل من هذا شأنه ومن قال بأنها نزلت في أحد المذكورين فقوله لا يخصصها لأن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ كما أن قوله تعالى «أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ» عامة أيضا في كل من كان ديدنه ذلك. وما جاء أنها نزلت في أبي بكر أو عمر أو عثمان رضي الله عنهم وكلهم أهل لأن ينزل فيهم قرآن وأن يوصف بما في هذه الآية لا يخصصها أيضا «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» استفهام إنكاري أي لا يستوون عند الله وعند عقلاء الأمة لأن العالم من ينتفع بلبّه لقوله تعالى «إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ٩» بآيات الله والجهال لا قلوب لهم حيّة تعي ذلك فلا يتذكرون ولا يذكرون.
مطلب في الخوف والرجاء والتعريض بالهجرة لمن ضاقت به أرضه:
يستدل من هذه الآية أن جانب الرجاء أكمل وأولى أن ينسب إلى الله تعالى لأنه أضيف في هذه الآية الحذر في مقام الخوف للنفس الإنسانية، وأضيفت الرحمة
في مقام الرجاء إلى الحضرة الربانية، ويؤيد هذا ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت (أي محتضر) فقال له:
كيف تجدك؟ قال أرجو الله يا رسول الله وأخاف ذنوبي، فقال صلّى الله عليه وسلم لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه تعالى ما يرجو وآمنه مما يخاف- أخرجه الترمذي- فيجب على المؤمن أن يكون دائما بين الخوف من عقاب الله بالنظر لتقصيره تجاهه والرجاء لرحمته بالنظر لواسع فضله، وفي حالة الصحة يرجح الخوف على الرجاء، وفي حالة الشدة يغلب الرجاء على الخوف، ولا ينبغي أن يبالغ في الرجاء فإنه إذا جاوز حده يكون أمنا والله تعالى يقول (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) الآية ٩٩ من سورة الأعراف المارة في ج ٣، ولا يبالغ في الخوف فإنه إذا جاوز حده يكون يأسا وقال الله تعالى (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) الآية ٨٧ من سورة يوسف المارة، وافتتح الله تعالى هذه الآية بالعمل وختمها بالعلم لأن العمل من باب المجاهدات وهو البداية في سلوك طريق الله السوي والعلم من باب المكاشفات وهو النهاية لبلوغ المقصد العلي فإذا حصلا للإنسان دل ذلك على كماله وفضله، قال تعالى «قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ» بامتثال أوامره واجتناب نواهيه فإن «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا» العمل بعد الإيمان والتقوى «فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ» عظيمة في الآخرة لا مثيل لها ولا توصف لأنها من قبل من ليس كمثله شيء «وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ» لا تضيق بكم فإذا رأيتم جورا في قسم منها فاتركوه وانزلوا غيره، وهذه أول آية عرّض الله بها إلى رسوله بالهجرة من مكة لأنها ترمز إلى أنه إذا لم يتمكن الإنسان من فعل الإحسان الذي أمره ربه به في وطنه فليهجرها ويهاجر إلى غيرها من بلاد الله تعالى مما يمكنه إجراء ما أمر به من العبادة كما فعل الأنبياء والصالحون من قبل إذ تركوا أوطانهم التي أهينوا فيها لأجل الله وتوطنوا غيرها، فلا عذر لكم بأن لا تحسنوا في أعمالكم وأقوالكم بسبب بقائكم بأرض يمنعكم أهلها من ذلك، واصبروا على مبارحة دياركم ومفارقة تعلقاتكم من أهل ومال وجاه ونشب وعشيرة «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ» عند الله الذين صبروا من أجله «بِغَيْرِ حِسابٍ ١٠» بشيء كثير